الوضعية المنطقية

التأكيد على أن البيانات التي يمكن التحقق منها من خلال الملاحظة التجريبية هي فقط ذات معنى

الوضعية المنطقية، التي سُميت فيما بعد باسم التجريبية المنطقية، وكلاهما يُعرفان معًا أيضًا باسم الوضعية الجديدة، هي حركة أطروحتها المركزية هي مبدأ التحقق (المعروف أيضًا باسم معيار التحقق من المعنى).[1] تؤكد نظرية المعرفة هذه أن البيانات التي يمكن التحقق منها من خلال الملاحظة المباشرة أو الدليل المنطقي هي فقط ذات معنى من حيث نقل قيمة الحقيقة أو المعلومات أو المحتوى الواقعي. بدءًا من أواخر عشرينيات القرن العشرين، شكلت مجموعات من الفلاسفة والعلماء وعلماء الرياضيات حلقة برلين وحلقة فيينا، اللتين ستطرحان في هاتين الحلقتين أفكار الوضعية المنطقية.

الوضعية المنطقية
صنف فرعي من

ازدهرت الحركة في العديد من المراكز الأوروبية خلال ثلاثينيات القرن العشرين، وسعت إلى منع الارتباك المتأصل في اللغة غير الواضحة والادعاءات التي لا يمكن التحقق منها عن طريق تحويل الفلسفة إلى "فلسفة علمية"، والتي، وفقًا للوضعيين المنطقيين، يجب أن تشترك في أسس وهياكل العلوم التجريبية. أفضل الأمثلة، مثل النسبية العامة لألبرت أينشتاين.[2] على الرغم من طموحها لإصلاح الفلسفة من خلال دراسة ومحاكاة السلوك الموجود للعلوم التجريبية، أصبحت الوضعية المنطقية مقولبة بشكل خاطئ على أنها حركة لتنظيم العملية العلمية ووضع معايير صارمة عليها.[2]

بعد الحرب العالمية الثانية، تحولت الحركة إلى نوع أكثر اعتدالًا، وهو التجريبية المنطقية، بقيادة كارل هيمبل، الذي هاجر إلى الولايات المتحدة أثناء صعود النازية. في السنوات التالية، تعرضت المبادئ الأساسية للحركة، التي لم تحل بعد، لانتقادات شديدة من قبل كبار الفلاسفة، وخاصة ويلارد فان أورمان كواين وكارل بوبر، وحتى من قبل هيمبل داخل الحركة نفسها. أدى نشر كتاب توماس كون التاريخي "بنية الثورات العلمية" عام 1962 إلى إحداث تحول كبير في تركيز الفلسفة الأكاديمية. في عام 1967، أعلن الفيلسوف جون باسمور أن الوضعية المنطقية "ميتة، أو ميتة مثل أي حركة فلسفية".[3]

الأصول

عدل

استخلص الوضعيون المناطقة مبدأ التحقق أو معيار المعنى من فلسفة فتغنشتاين المبكرة للغة. كما هو الحال في ظاهرية إرنست ماخ، إذ يعرف العقل التجربة الحسية الفعلية أو الممكنة فقط، يأخذ أصحاب مذهب التحقق المحتوى الأساسي للعلوم ليمثل التجربة الحسية فقط. جاء بعض التأثير من تأملات بيرسي برايدغمان، التي أعلنها الآخرون بوصفها مذهبًا إجرائيًا، إذ تُفهم النظرية الفيزيائية من خلال الإجراءات المعملية التي يقوم بها العلماء لاختبار تنبؤاتها. بالنسبة لمذهب التحقق، فإن الصفة العلمية تُعطى فقط لما هو قابل للتحقق منه، وبالتالي ذو معنى (أو ذو معنى من الناحية الإدراكية)، في حين يتسم ما هو غير قابل للتحقق منه بأنه غير علمي و«عبارات زائفة» بلا معنى (ذات معنى عاطفي فقط). سيكون الخطاب غير العلمي، كما هو الحال في الأخلاق والميتافيزيقا، غير مناسبًا للخطاب الذي ينتجه الفلاسفة، المكلفون حديثًا بتنظيم المعرفة، لا بتطوير معرفة جديدة.

تعريفات

عدل

تُعد الوضعية المنطقية في بعض الأحيان قالبًا نمطيًا بصفتها حديثًا ممنوعًا عما هو غير قابل للملاحظة، مثل الكيانات الميكروسكوبية أو تلك المفاهيم مثل السببية والمبادئ العامة، ولكن يُعتبر هذا الأمر مبالغة. بدلًا من ذلك، يرى معظم الوضعيين الجدد أن الحديث عما هو غير قابل للملاحظة مجازٌ أو إيجازٌ: صيغت الملاحظات المباشرة بشكل تجريدي أو غير مباشر. لذلك، ستحقق المصطلحات النظرية المعنى من مصطلحات الملاحظة عن طريق قواعد التطابق، ويمكن رد القوانين النظرية بهذه الطريقة إلى القوانين التجريبية. فمن خلال النزعة المنطقية عند بيرتراند راسل، أي رد الرياضيات إلى المنطق، فسوف تُحول الصيغ الرياضية للفيزياء إلى منطق رمزي. ومن خلال الذرّية المنطقية لدى راسل، فإن اللغة العادية تنقسم إلى وحدات منفصلة من المعنى. إذن، من شأن إعادة البناء العقلاني أن يحول العبارات العادية إلى مكافئات موحدة، وكلها مرتبطة بشبكة ومتحدة من خلال التركيب المنطقي للجملة. سوف تُعرف النظرية العلمية بمنهج التحقق منها، إذ يمكن للحساب المنطقي أو العمليات التجريبية أن يتحققا من صدقها أو كذبها.[4]

التطور

عدل

فرّ الوضعيون المناطقة في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين من ألمانيا والنمسا إلى بريطانيا والولايات المتحدة. بحلول ذلك الوقت، استبدل العديد منهم بظاهرية ماخ المذهبَ الفيزيقي لأوتو نيوراث، إذ لا يكون محتوى العلم إحساساتِ فعلية أو محتملة، ولكن تكون عوضًا عن ذلك كيانات قابلة للملاحظة العلنية. سعى رادولف كارناب، الذي أضاء الوضعية المنطقية في حلقة فيينا، إلى الاستعاضة عن مبدأ التحقق بمبدأ بسيط في التأكيد. أصبحت الوضعية المنطقية مع انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945 أكثر اعتدالًا، وعُرفت باسم التجريبية المنطقية، وقادها في العموم كارل همبل في أمريكا، وهو الذي شرح نموذج قانون التغطية للتفسير العلمي. أصبحت الوضعية المنطقية الركيزة الأساسية للفلسفة التحليلية، وهيمنت على الفلسفة في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، بما في ذلك فلسفة العلم، مع التأثير في العلوم، ولكن على وجه خاص العلوم الاجتماعية، في ستينيات القرن العشرين. ومع ذلك، فشلت الحركة في حل مشكلاتها المحورية، وتزايد النقد الموجه لتعاليمها، وبشكل أكثر حدة من جانب ويلارد فان أورمان كواين، ونوروود هانسن، وكارل بوبر، وتوماس كون، وكارل هيمبل.[5][6][7][8]

الجذور

عدل

اللغة

عدل

قدمت الرسالة المنطقية الفلسفية للودفيغ فتغنشتاين الشاب الفلسفةَ على أنها «نقد للغة»، ما يتيح إمكانية التمييز المبدئي من الناحية النظرية بين الخطاب الخالي من المعنى والخطاب المعقول. اتبعت الرسالة نظرية التطابق في الصدق (مقابل نظرية الاتساق في الصدق). ظهر تأثير فتغنشتاين أيضًا في بعد المنطوقات الخاصة بمبدأ قابلية التحقق. في مذهب التراكتارية، كانت حقائق المنطق طوطولوجيا أو تحصيلَ حاصل، وهي الرؤية التي كانت مقبولة على نطاق واسع لدى الوضعيين المناطقة الذين كانوا متأثرين بتفسير فتغنشتاين للاحتمال، رغم عثور بعضهم على محتوى كثير من الميتافيزيقا في الرسالة، وذلك وفقًا لنيوراث.[9]

انظر أيضًا

عدل

المراجع

عدل
  1. ^ Peter Godfrey-Smith. (2010). Theory and Reality : an Introduction to the Philosophy of Science. University of Chicago Press. ISBN:978-1-282-64630-8. OCLC:748357235.
  2. ^ ا ب Michael Friedman, Reconsidering Logical Positivism (New York: Cambridge University Press, 1999), p. xiv. نسخة محفوظة 2023-11-10 على موقع واي باك مشين.
  3. ^ Passmore, John. 'Logical Positivism', The Encyclopedia of Philosophy, Paul Edwards (ed.). New York: Macmillan, 1967, 1st edition
  4. ^ Allen، Barry (مايو 2007). "Turning back the linguistic turn in the theory of knowledge". Thesis Eleven. ج. 89 ع. 1: 6–22 (7). DOI:10.1177/0725513607076129. In his famous novel 1984 جورج أورويل gave a nice (if for us ironical) explanation of the boon Carnap expects from the logical reform of grammar. Right-thinking Ingsoc party members are as offended as Carnap by the unruliness of language. It's a scandal that grammar allows such pseudo-statements as 'It is the right of the people to alter or abolish Government' (Jefferson), or 'Das Nichts nichtet' (Heidegger). Language as it is makes no objection to such statements, and to Carnap, as to the Party, that's a sore defect. نيوسبيك, a reformed grammar under development at the Ministry of Truth, will do what Carnap wants philosophical grammar to do
  5. ^ Smith، L.D. (1986). Behaviorism and Logical Positivism: A Reassessment of the Alliance. Stanford University Press. ص. 314. ISBN:978-0804713016. LCCN:85030366. مؤرشف من الأصل في 9 فبراير 2020. اطلع عليه بتاريخ 27 يناير 2016. The secondary and historical literature on logical positivism affords substantial grounds for concluding that logical positivism failed to solve many of the central problems it generated for itself. Prominent among the unsolved problems was the failure to find an acceptable statement of the verifiability (later confirmability) criterion of meaningfulness. Until a competing tradition emerged (about the late 1950s), the problems of logical positivism continued to be attacked from within that tradition. But as the new tradition in the philosophy of science began to demonstrate its effectiveness—by dissolving and rephrasing old problems as well as by generating new ones—philosophers began to shift allegiances to the new tradition, even though that tradition has yet to receive a canonical formulation.
  6. ^ Bunge، M.A. (1996). Finding Philosophy in Social Science. Yale University Press. ص. 317. ISBN:978-0300066067. LCCN:lc96004399. مؤرشف من الأصل في 9 فبراير 2020. اطلع عليه بتاريخ 27 يناير 2016. To conclude, logical positivism was progressive compared with the classical positivism of بطليموس، Hume، لورن دالمبير، أوغست كونت، جون ستيوارت مل, and إرنست ماخ. It was even more so by comparison with its contemporary rivals—الفلسفة المدرسية الجديدة، كانطية جديدة، حدسية, dialectical materialism, phenomenology, and وجودية. However, neo-positivism failed dismally to give a faithful account of science, whether natural or social. It failed because it remained anchored to sense-data and to a phenomenalist metaphysics, overrated the power of induction and underrated that of hypothesis, and denounced realism and materialism as metaphysical nonsense. Although it has never been practiced consistently in the advanced natural sciences and has been criticized by many philosophers, notably Popper (1959 [1935], 1963), logical positivism remains the tacit philosophy of many scientists. Regrettably, the anti-positivism fashionable in the metatheory of social science is often nothing but an excuse for sloppiness and wild speculation.
  7. ^ "Popper, Falsifiability, and the Failure of Positivism". 7 أغسطس 2000. مؤرشف من الأصل في 2014-01-07. اطلع عليه بتاريخ 2012-06-30. The upshot is that the positivists seem caught between insisting on the V.C. [Verifiability Criterion]—but for no defensible reason—or admitting that the V.C. requires a background language, etc., which opens the door to relativism, etc. In light of this dilemma, many folk—especially following Popper's "last-ditch" effort to "save" empiricism/positivism/realism with the falsifiability criterion—have agreed that positivism is a dead-end.
  8. ^ See "Vienna Circle" نسخة محفوظة 10 August 2015 على موقع واي باك مشين. in Stanford Encyclopedia of Philosophy.
  9. ^ For summary of the effect of Tractatus on logical positivists, see the Entwicklung der Thesen des "Wiener Kreises" نسخة محفوظة 9 November 2006 على موقع واي باك مشين.. [وصلة مكسورة]