'محمد الحبيب بن الشيخ إدريس الشريف'

حياته : ولد محمد الحبيب الشريف يوم 7 جانفي 1928 ببنزرت. درس بالكتاب و تتلمذ على ثلة من مشايخ الدين و اللغة ببنزرت نذكر منها البشير شقرون، مختار الدلالي و حسن قارة بيبان. (1 – 2) التحق إثر ذلك بجامع الزيتونة المعمور بتونس سنة 1948 لمزاولة تعليمه، فتحصل على شهادة الأهلية سنة 1950 و على شهادة التحصيل سنة 1953. (1) اشتغل مدرسا بالتعليم الابتدائي طيلة ثمانية و عشرين سنة من عام 1954 الى تاريخ إحالته على التقاعد سنة 1982. (1 – 2) و قد مارس هذه المهنة في مدارس عديدة من ولاية بنزرت نذكر منها : مدرسة سانية الرمان، مدرسة سيدي عنان، المدرسة الابتدائية نهج غرة ماي ببنزرت، المدرسة الابتدائية بسجنان، ثم مدرسة الكرنيش و المدرسة الابتدائية شارع بورقيبة ببنزرت. و كان طوال فترات التدريس ينتهج أسلوبا بيداغوجيا بطريقة علمية لإيصال المعلومة لتلاميذه معتمدا على أسس علم النفس عند الطفل التي عرفها ثم طبقها بعد مطالعة العديد من الكتب المختصة في هذا الميدان. و أقيم حفل توديعه بمدرسة شارع بورقيبة ببنزرت يوم الأثنين 8 نوفمبر 1982، بمناسبة إحالته على المعاش بطلب منه. فألقى صديقه ابراهيم بوجدارية بهذه المناسبة قصيدة شعرية قال فيها : اختـــار الحبيـــب فخـروجه مبكرا من السلك عصــــيـب لا نلومـــه لأن اختــــــيــــار الشريف دوما أمرا مصـيـب مغـــامر من دخـل التعــليـــم سليما، يغــــادره اللبيــــــب فللشـــعراء حــس رهيــــف وحدس الحبيب شيء عجيب ببداهـــته يشـــتفي الخبــايـا والفطنة قسم ونصيـــــــب

  • * * *

لئن فـــقه النـــشئ ألم يكـــن أبوه أبا أبا الفتاوى إدريســا في العـــــلوم له بـــاع، كفاه أنه أنجب الحكيـــم إدريســا لقد بـــذر فــي كل اتــجــــاه إن للبــذور طلــعا نفيــســــا في نبتها روح إدريس التقى و من حاك أفلاطون تدريسا و من بيميـــن أبقـراط التزم و من سيخدم البحث تكريسا فـــتقـــت أنـــهانـــا كــلمــــا اهتـــز صبـــي من إبداعــك هــــوايـــتك شعــــر كأنــمـا خلــى العــذري من أخـلاقك معــــاشرتك دفـــئ طـــالمـا تلــطــف الجـــو من ألطـافك إذا مــــا دب خــــلاف بيننــا رشد المـــزيــع من إرشادك نهــــنيك بـالمعــــاش كــــلنا و أمـــد الله فـــي أنفــــــاسك

ثم عين المرحوم محمد الحبيب الشريف إماما خطيبا بجامع الكبير ببنزرت سنة 1992 و شغل هذه الخطة إلى تاريخ وفاته، وهو المنبر الذي تولاه والده الشيخ إدريس الشريف و جده محفوظ الشريف. فكان يحرص على أداء هذه المهمة على أحسن وجه شاعرا بالمسؤولية التي حملت على عاتقه في خلافة والده بهذا الجامع العريق. إذ كان يعد خطب الجمعة و الأعياد بعد البحث و التمحيص في المراجع الفقهية لشرح مبادئ الإسلام الحنيف قصد إنارة الحاضرين و هدايتهم للطريق المستقيم بأسلوب سهل و جذاب.

و تمادى في أداء هذه المهمة بصفة مسترسلة و مستمرة، فلا تراه يتغيب إلا بمناسبة أدائه لفريضة الحج أو لمناسك العمرة، إلى أن اختطفته يد المنون يوم الخميس 12 جويلية 2007.(1) 

و الجدير بالملاحظة أنه كان يقرأ سورة واحدة في صلاة الجمعة و هي سورة الأعلى، و ذلك طوال ثلاثة و عشرين سنة حيث يقرأ في الركعة الأولى النصف الأول من هذه السورة :" سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى و الذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله، إنه يعلم الجهر و ما يخفى، و نيسرك لليسرى، فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى و يتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها و لا يحي". ثم يقرأ في الركعة الثانية، النصف الثاني من سورة الأعلى :"قد أفلح من تزكى و ذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا و الآخرة خير و أبقى، إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم و موسى".

عائلته و نسبه : المرحوم محمد الحبيب الشريف هو ابن العلامة الشيخ إدريس الشريف صاحب فتوى التجنيس الشهيرة. أما أمه فهي التيجانية بنت الحاج الشاذلي عزوز. تزوج بابنة خالته فاطمة بنت محمد الصغير القروي و أنجب أربعة أبناء : إدريس، رندة، محمد رضا و لطفي. وهو رجل شريف النسب، عريق المجد ينحدر من أسرة يتصل نسبها بالعترة النبوية الطاهرة. فهو محمد الحبيب بن إدريس بن محفوظ بن احمد بن محمد (بالفتح) بن بلقاسم بن محمد (بالفتح) بن علي بن علي (أيضا) بن عمر بن أحمد بن سليمان بن أبي بكر بن سعيد بن عمار بن جنون بن محمد بن ابراهيم بن زجارة بن أحمد بن محمد بن أحمد بن داوود بن إدريس التاج بن إدريس الأكبر بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب و فاطمة الزهراء بنت سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم ، بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن اسماعيل بن سيدنا إبراهيم عليه السلام.(3) هكذا يتجلى لنا أن بينه و بين جده الرسول الأعظم صلى الله عليه و سلم، تسعة و عشرين أبا بداية من والده العالم الجليل الشيخ إدريس الشريف. و بالرجوع إلى تاريخ هذه العائلة (3 – 4)، نرى أن جده إدريس الأكبر قد فر من بطش العباسيين و خاصة هارون الرشيد، إلى الحجاز ثم إلى مصر يريد المغرب الأقصى، مع مملوكه راشد بن مرشد، و منها فر إلى القيروان عندما علم أن خبر وجودهما قد بلغ حاكم مصر. ثم شد الرحال إلى المغرب حيث حط بقرية تسمى "وليلي" توجد في ضواحي مدينة مكناس. فاستقبله حاكمها إسحاق بن عبد المجيد الأوربي المعتزلي استقبالا حارا يوم الرابع من شهر رمضان المعظم عام 172 هجري، و أمر بمبايعته ملكا على "وليلي" و زوجه ابنته كنزة. و هكذا أسس مولاي إدريس الأكبر أو الأول الدولة الإدريسية بالمغرب الأقصى سنة 786 م و اتخذ "وليلي" عاصمة لها سنة 788 م. (3 – 4 – 5) و لما عظم أمر الدولة الإدريسية، بلغ خبره لهارون الرشيد، فأوفد إليه بعد مضي خمس سنوات، ماكرا اسمه سليمان بن جرير الزيدي حاملا معه قارورة من المسك المسموم ليقتله، عملا بنصيحة وزيره يحي بن خامد البرمكي. فلما وصل إليه سأله : من أين أنت ؟ قال : جئت من أرض الحجاز حبا فيك و رغبة في خدمتك. ففرح به إدريس الأكبر وكرمه و قربه. بقي سليمان بن جرير يترصد الفرصة حتى تمكن من تقديم القارورة له كهدية. فلما شمها صعد السم إلى خياشيمه فسقط على الأرض و فر بن جرير الزيدي. واقتفى أثره مولاي راشد ثم رجع إلى سيده فوجده قد توفي. كان ذلك يوم 16 جويلية 793 م (أو 791 م) الموافق لسنة 177 هجري. و يوجد ضريح مولاي إدريس الأكبر في قرية مولاي إدريس زرهون القريبة من "وليلي". ثم تولى الملك بعده ابنه إدريس التاج أو الثاني المولود يوم 3 رجب سنة 177 هجري الموافق ليوم 14 أكتوبر سنة 793 م (أو 791 م)، و الذي أسس مدينة فاس سنة 192 هجري 808 م و جعلها قاعدة لملكه. و قد تمت مبايعته في 1 ربيع الأول شنة 188 هجري، 16 فيفري 803 م (أو 804 م)، و عمره لا يتجاوز الاحدى عشر سنة. توفي مولاي إدريس التاج في ظروف غامضة بحبة عنب مسمومة حسب بعض المؤرخين، يوم 10 جمادى الاخر سنة 213 هجري، 29 أوت 828 م و عمره ستة و ثلاثين سنة. دامت ولايته خمس و عشرين عاما و في رواية أخرى تسع و عشرين عاما.(3 - 4 - 5 - 6) و يوجد ضريحه بالمدينة العتيقة بفاس. ترك اثني عشر ولدا منهم داوود الذي أصبح ملكا على تلمسان، مكناس و تازة و منه تنحدر أسرة محمد الحبيب الشريف. ثم استقر أجداده بمدينة دلس بالجزائر إلى أن هاجر جده الشيخ أحمد الشريف الذي كان يشغل خطة مفتي بها و إماما خطيبا بجامعها، مع بقية أفراد العائلة و الأهل إلى مدينة بنزرت، فرارا من الاحتلال الفرنسي و كراهية للعيش تحت حكم الكفار المستعمرين. و قد تعرضوا في طريقهم إلى شتى المتاعب و المشاق حتى وصلوا إلى مدينة بنزرت سالمين يوم الخميس 20 شعبان سنة 1262 هجري و استقروا بها نظرا للشبه الذي بينها و بين مدينة دلس في الطبيعة و المناخ و الموقع.

مؤلفاته : الشيخ محمد الحبيب الشريف هو شاعر موهوب مولع بالفكر و اللغة و العلم. كانت قريحته الشعرية تنطق في كل زمان و مكان. إذ كان شاعرا فياض المادة، غريز المعاني، كثير الصور و رهيف الإحساس. هو يلقب بشاعر بنزرت الذي كرس كل طاقاته في مجال الدين و الأدب و الفكر و الشعر و التعليم و العلم. كانت إنسانيته مثالية تعبر دوما عن مشاعره النبيلة و مبادئه القيمة. و يتبين هذا من خلال قصائده المتنوعة التي تعنى بالدين و الانسانية و العلاقات الاجتماعية. و قد نشر البعض من قصائده في الجرائد و المجلات التونسية منها تونس المصورة، الأسبوع، الصباح، العمل، الحرية، صدى الشمال و القنال.(2) صدر له ديوان شعر في أكتوبر 2011 تحت عنوان "ديوان الحبيب" (1) الذي يشتمل على 56 قصيدة شعرية في مجال العبادات و الأخلاق و العقيدة و المعاملات. و قد أورد الأستاذ عبد العزيز زمزم دراسة قيمة لهذا الديوان في كتابه "نظرات في الفكر و الأدب التونسي : مدخل إلى الأدب التونسي المعاصر" الجزء الثالث الذي صدر سنة 2014. (7)

و هذه مقتطفات من شعر المرحوم محمد الحبيب الشريف : (1) قد كنت طـــفلا بابتســـام شيـــعك ما كــــــان يـــدري أنــه قد ودعــــك فغدوت أمشي خلف نعشك سائــلا مـاذا أرى؟ مـاذا جرى؟ مـا مركبـك؟ وأتيــت ذا قربــى لأرفــــع حيـرة ظلت تمـــزق مهجــتي عن ضجـعتك فأجـابني : صــبرا بني و لا تخف فــقد ارتــضــى ســفر الحــج والـدك صدقت، ما صدقت، زادت حيرتي ما هــكذا للحــــج أبغــي سفــــرتــك أطرقت حزنــا و الدمــوع بوجنتي أبــكت قريـــبــي و الذيــن بموكـــبك أدركــت أنك نــائم فــي مضــجـع لا كالمضــاجــع و السواعد تحمـــلك فعلمــت أنك يــا أبــي فــارقتنــــي و فقدت عطــفك و الحنان و بهجــتك

و لأبنائه الأطباء كتب الشاعر محمد الحبيب الشريف هذين البيتين : سألتـــك ربـــي فــزد بالشــفــــاء على كل مضــنى فأنت المجيـــب و أنــت الحكيـــم و أنــت الرجـاء و أنـــت توفـــقنـــي كـــطبيـــــب

و قد جادت قريحته بالعديد من القصائد الدينية نذكر منها : يـــا ليلـــة القـــدر حيي ليلة القـدر و مجــــديها بــــآي الله و الذكــــ !ر يـــا ليلـــة القـــدر جل الله هيبتــها فشـــاءها مبـــعـــثا للنــور كالبدر نــور أشعت على الأكوان رحمته فأشبــــعتــها بروح النبل و الطهر

و في مدح رسول الله صلى الله عليه و سلم، يقول : أحـــييــــك يــا سيـــد البشـــريـــة فــــأنت رســـــول و خير البـرية بـــألف صــــلاة أحـــــييك جــدي و ألـــــف ســـــلام عليـــك زكية دعــــــوتنـــي جـدي فجئت ألبـي و أرجــــــــو قبــــــولي بالنفــــــحة الأبويــة زيـــــــارة قبـــرك تسعد روحــي و تســـعدها الروضـــة النـــبويــة

ثم يواصل : مـــنا تقبـــــل ربنــــــا إياك نعبــد بصـــيامنــــا بقيـــــامنا قصد التهجــد إيـــاك دومـــا نستعين على التـقى وعلى الخشوع على الصفا عند التعبد بــــنبينـــا و بــديننــا الحق اهدنــا نهج الصراط المستقيم صراط أحــمـد

و يناجي المولى عز و جل قائلا : يــا إلاهــي إننــي ضيــف ببيتـــك جئـــت أســعى علنــي أحــظى بعفوك جئت و التوبـة في أعمـاق روحي في خضــوع طامعــا في فيض عطفك ضـــارعا مستغفــــرا عن سيئاتي فتجــــــاوزهــا إلاهـــي عن عبيــــدك

و في أول قصيدة له كتب محمد الحبيب الشريف سنة 1950 : مـــا بكيـــــت الحياة لســت شقيـا فــــي دلال عــــــذراء ترنــــــو إليــــا مــــا شبــــابي يلوم عذرا تأت حيــــــــــــــــنا و حـــينا تبـــــدي هواهــــا زكـــيـا لم أبــكي ؟ و نبـــعــها العذب ينســـــــــــــــاب لروحــــــي فأرتـــــوي منـــه ريا أين منــــي الشــقاء و القلب غنى للعـــــذارى لحــــــن الهــــوى قدســيا

ثم يقول ناشدا : إننــــي أحيـــا حياتــي لا سـواها أنشـــد الشعـــر و أصـــغـــي لغنــــاها إننــــي أحيـــا حياتــي فحـــيـاتي نسمـــة تنســــاب فــــي روض بهــاها

و عن المعلم يتحدث قائلا : إن شئت أعلى القيم من فيلسوف عالم مدافــــــع أو حـاكم و احتجــت للتعلم

                 عليــــــــك بالمـــعـــلـم		

تلميــــــذه أســـتــاذ و نبـــــغا أفــــذاذ و ربـــــمـــا شحـاذ فلارتـــقاء الســلم

                 عليــــــــك بالمــعــــلـم		

و عن مسقط رأسه مدينة بنزرت، يقول : بنزرت إنــــي أعـــــشقـــك أهـــــواك أنـــت حــــبيبتي قــــالــــوا بـــأنني شاعـرك لـــكــــن أراك قصــــيدتـي

                  غــــــــــنتــــــك حتــــــى طفولــتي

كـــــخيــــال شعــــر حالمة كـــالحب عـــانقت القــلوب كـــــعــروس بــحـر باسمة للشمـــس تمـــنعها الغروب

                  بـــنزرت كـــــاللحــــن الضــروب



بنزرت في 20 نوفمبر 2020 إدريس بن محمد الحبيب الشريف


المراجع :

1- محمد الحبيب الشريف ديوان الحبيب – تونس اكتوبر 2011 Editions COTIM 2- رشيد الذوادي وجوه من بنزرت – تونس – 1993 Editions STAG 3- الشيخ إدريس الشريف الحدائق الزاهرة الغصون لذكر تراجم بعض فروع سيدي أبي بكر بن جنون إلى عدنان جد من خضعت لكمالاته المقربون – نسخة مخطوطة 4- الشيخ سيدي عبد الله بن محمد بن الشارف بن سيدي علي حشلاف

سلسلة الأصول في شجرة أبناء الرسول 
تونس - 1929
باريس –  1995      

Editions Publisud 5- ميشال أبيتبول تاريخ المغرب

باريس – 2009

Editions Perrin 6- شارل أندري جوليان تاريخ شمال إفريقيا – الجزء 2

تونس – 2003

Editions CERES 7- عبد العزيز زمزم نظرات في الفكر و الأدب التونسي : مدخل إلى الأدب التونسي المعاصر – الجزء الثالث باردو - 2014