مدارس دراسة التاريخ العثماني

بقلم الباحث في مجال الحضارة الإسلامية؛ الباحث المصري

إن دراسة التاريخ العثمانى خاصة والإسلامى عامة لهذه الدولة وفق النظريات المعاصرة يعد من الإشكاليات، وذلك لطول الفترة الزمنية لهذا التاريخ، ولاختلاف مواقف وجهات النظر العلمية من هذا العصر بسبب الأسباب الدينية أو السياسية أو الفكرية.

مما يمثل تأثراً على حركة التأريخ الإسلامي خلال هذا العصر، وذلك بسبب التداخل بين الأفكار الشخصية أو أفكار الجماعات والمذاهب المختلفة، مع التجاهل والجهل أحياناً بقصد أو بغير قصد فى تصريف معنى المصدر التاريخي عن معناه الحقيقي، مما سوف يؤدي بعد فترة زمنية  إلى تكوين تاريخ غير التاريخ الإسلامى عامة والعثماني خاصة، لذا كان اختيار موضوع دراسة هذا الفصل "مدارس دراسة التاريخ العثمانى" و قد قسمت الدراسة بهذا الفصل إلى قسمين:

المبحث الأول : مدارس كتابة التاريخ العثمانى فى عصر الدولة العثمانية .

المبحث الثانى : المدارس المعاصرة فى كتابة التاريخ العثماني .

المبحث الأول : مدارس كتابة التاريخ العثمانى فى عصر الدولة ذاتها :

انقسمت منهاج الدراسة فى كتابة التاريخ العثماني في عهد الدولة العثمانية إلى قسمين :

كتابات المؤرخين المسلمين المعاصرين للدولة خاصة فى أوج قوتها والمؤيدين لحكمها.

كتابات الرحالة والمؤرخين والمستشرقين الأوروبيين والمتحاملين على الدولة العثمانية.

المبحث الثاني: مدارس كتابة التاريخ العثمانى الحديثة والمعاصرة :

وهى كتابات المؤرخين العرب والترك والكرد المتأثرين بالفكر القومى والصراعات من عهد السلطان عبد الحميد الثانى وحتى الآن.

أولاُ : مدارس كتابة التاريخ العثمانى فى عهد الدولة العثمانية :

كتابات المؤرخين المسلمين المعاصرين للدولة العثمانية :

لقد انقسمت هذه الكتابات فى بداية الأمر إلى الكتابة بأسلوب الحواليات اليومية للدولة على نظام كتابات الحواليات الإسلامية الأولى في القرن الأول الهجري، التى تقوم بتقيم أحوال الدولة العثمانية فى اليوم والأسبوع والشهر والسنة منذ نشأت الدولة العثمانية عام 699هـ/1299م.

ومن أشهر المؤلفات فى هذا المضمار كتاب أبى السرور البكرى "المنح الرحمانية فى الدولة العثمانية" فى القرن الـ11هـ/17م، وهو يتحدث عن الدولة العثمانية منذ النشأة حتى أواخر القرن الـ11هـ ، و اتسمت كتابته بالجمع بين التدقيق فى الرواية المعاصر لها وبين النقل من الحواليات العثمانية القديمة التي تجمع أحياناً بعض الأساطير، مثل ذكره أن عثمان بن أرطغرل خان مؤسس الدولة العثمانية من نسل الخليفة الراشد عثمان بن عفان (23- 35)هـ 1 .

بينما نجد أن البعض الآخر من الحواليات العثمانية التي تعرف باسم الحواليات                  المخضرمة لكون مؤلفها عاصر نهاية عصر وبداية آخر مثل "ابن إياس" فى كتابه " بدائع الزهور ووقائع الدهور"، والذى نعى فيه الدولة المملوكية الجراكسية ومآثرها (784- 923)هـ ، وعلى الرغم من ذلك تنوع قلمه بين ذكر إيجابيات وسلبيات الدولة العثمانية زمن الفتنة وحرب عصابات المماليك المقاومة لها.

ويفهم من دراسة ابن إياس لهذه الفترة أنها كانت فترة فتن فى بدايتها لذا حاول أن يذكر فيها الكلام المحقق الموثوق، وأن يبتعد عن الإشاعات التى شاعات بين المصريين حينها واستخدم قبل رواية الإشاعة  لفظة "أشيع" كثيراً ليدل على كثرة الإشاعات خلال هذه الفترة سواء من المماليك أو من جهة العثمانيين أو من جانب المصريين نتيجة الخوف من الحرب، ودل ذلك على دقته فى الرواية التاريخية، وهو المتوفى فى عام 928هـ1 أى بعد الضم العثماني بخمس سنوات .

أما الجبرتى الذى عاصر الفترة قبل الحملة الفرنسية على مصر حتى أوائل حكم محمد علي باشا، فإنه يميل إلى ذكر ما سمعه وما عاصره وما أعترض عليه فى حواليات شبه يومية، لذلك نقد ابن الخشاب2 المتعاون مع الفرنسيين واتهمه بالخيانة وابن الخشاب مؤلف سيرة الأمير مراد المحمدى الجورجى المملوكى، ونقد أفعال الفرنسيين مما ألحقوه بمصر من خراب ودمار، ونقد محمد على باشا لإلغائه كثير من أنظمة الدولة العثمانية، واتجاهه للاحتكار، وعدم إيفائه بعهوده لعمر مكرم وعلماء الأزهر من إلغاء القوانين الفرنسية الوضعية وتطبيق الشريعة الإسلامية .

ويوجد من بين الحواليات العثمانية ما اتجه إلى اتجاهات الرحالة مثل أوليا جلبى فى كتابه "سياحتنامه" تحقيق الدكتورة ماجدة مخلوف، والذى يعد من أروع الكتب التى تؤرخ لأحوال العمران والحياة الإجتماعية للبلاد التى زارها المؤلف ومنها مصر، وذلك لعلاجه فى البيمارستان القلاوونى بالقصبة العظمى من قاهرة المماليك، من داء العقم، فلما عاد إلى الأناضول أنجب ولداً فلما بلغ معه السعى أتى به ليزور مصر3، مما يدل على ان الحياة العلمية صارت فى مصر على أكمل وجه، وينفى هذا ما أشيع من عداوة الدولة العثمانية للعلوم الدنيوية كما أدعى المتحاملين عليها.

كتابات الرحالة والمستشرقين الأوروبيين :

تميزت هذه الكتابات بالهجوم اللاذع على الدولة العثمانية ووصفها بأوصاف لاذعة، وجعلها إرهاب العالم الأوروبي، وإن مدحها البعض من باب وضع السم فى العسل لكرههم لهذه الدولة التى هزمت آبائهم وأجدادهم، ويقارنها البعض بالإمبراطوريتين الفرنسية والإنجليزية من حيث المساحة وطول العمر للدولة.

ومن الملاحظ أن عداء الدولة العثمانية فى المناهج الأوروبية خاصة نجده كلما جنحنا إلى الشرق الأوروبي ناحية اليونان و الصرب والبولنديين...وغيرهم، وذلك لكون هذه الدولة هى الخصم اللدود الذى حارب أوروبا طيلة 700 عام، حتى استطاع الأوروبيون اسقاطها فى عام 1343هـ/1924م بالتعاون مع اليهودخاصة يهود الدونما1.

وترجع الأسباب الرئيسية لكراهية الأوروبيين للدولة العثمانية للآتي :

فتح العثمانيين لأوروبا الشرقية حتى أصبحت أغلب أوروبا الشرقية مسلمة طيلة أربعمائة عام في نفس الوقت الذى كان يجهز فيه الأوروبيون على مسلمي الأندلس .

محاولة العثمانيين الوصول للأندلس وتحريرها استجابة للإستصراخات الأندلسية، وإنشائهم أساطيل البحار التى هددت سواحل أوروبا أكثر من مرة .

دفاع العثمانيين عن بلاد المغرب العربي تونس والجزائر والمغرب الأقصى، حتى أنهم ساعدوا السعديين فى المغرب الأقصى فى موقعة وادى المخازن2 فى عام 986هـ، والتى أبيد فيها الجيش البرتغالى برياً بالكامل، وقتل فيها ملك البرتغال مما مكن شارل الخامس من ضم البرتغال إلى أسبانيا .

قيام المستشرقين بالتلاعب بالألفاظ المصدرية عند دراسة التاريخ العثماني و تأثر بعض المؤرخين والكتاب العرب بهذه المعاني اللفظية للمصطلحات ودونوها دون وعي فى أبحاثهم، فنجدهم يستبدلون كلمة "خلافة " بلفظة "إمبراطورية " لنفى صفة العدل عنها وإلصاقها بصفة الدكتاتورية، تسميتهم للوجود العثمانى فى البلدان العربية بـ"الإحتلال" دون النظر إلى الفهم  اللنفسي للفكر فى التاريخ الإسلامى1، وذلك لأن قاعدة التاريخ الإسلامى [ لا تسقط دولة إسلامية، إلا وتحل أخرى محلها وتقوم بدورها فى إستكمال الوظيفة العقائدية للدولة السابقة] .

محاولة الأوروبيون تأسيس مدارس تجزيئية للتاريخ العثماني، وتمجيد حركات التمرد على الوحدة الإسلامية العامة، والتى كانت تأخذ الدعم الأوروبي مثل الدعم الروسي لجوزيف أو على بك الكبير بعد إعلان إسلامه كما يقال، أثناء حركته الإنفصالية مع داهر العمر النصيري الباطني فى الشام2، وذلك لتخفيف ضغط الجيوش العثمانية على الجيش القيصرى الروسي فى أثناء مهاجمة روسيا لبلاد القرم الإسلامى، ومحاولتها الإستيلاء عليها للوصول إلى المياه الدافئة على البحر الأسود3.

وفى هذا الإتجاه يذكر الدكتور محمد عفيفى– أستاذ التاريخ العثماني– بكلية الآداب جامعة القاهرة، (تعرض تاريخ الدولة العثمانية منذ البداية، وحتى النهاية لتداخل الأيديولوجيات المختلفة معه بحيث أصبح فى نهاية الأمر مجموعة تحيزات، ساهمت فيها اتجاهات فكرية متباينة، وتأتى فى أولى هذه الإتجاهات المدارس الإستشراقية، حيث نظرت هذه المدارس منذ البداية إلى التاريخ العثماني نظرة معادية للعديد من الأسباب المرتبطة بعلاقة هذا التاريخ بالتاريخ الأوروبي )4 .

فقد كان فتح القسطنطينية عام 857هـ /1453م1، ذو أثر نفسي بعيد المدى فى الغرب الأوروبي، والذي حمل الدولة العثمانية الميراث التاريخي للصراع بين الغرب والشرق .

وزاد الأمر مرارة فى نفوس الأوروبيين فتح العثمانيين لأثينا عاصمة الأسكندر المقدونى ومهد الحضارة الإغريقية، وسائر بلاد اليونان، ثم حصارهم لـ" فينا " عاصمة إمبراطورية الهايسبرج الرومانية الغربية المقدسة لدى الأوروبيين2.

لذا حرصت المدارس الإستشراقية فى معالجتها للتاريخ العثماني على تهميش هذا التاريخ، ورسم صورة ذهنية منفرة له تمثلت في صورة " الإنحطاط ، والقسوة ، والعنف "، قبل وصول الرجل الأبيض لهذه المنطقة لإلتهام ولايات الدولة العثمانية، واحدة بعد أخرى، لذا حرصوا فى كل بلد مهدوا فيه للإستخراب والإحتلال على التهيئة الذهنية لهذه المجتمعات على تقبل الإحتلال والوصايا، وحاربوا لأجل ذلك فكرة كون الدولة العثمانية دولة الخلافة الإسلامية والدعوة إلى كون العثمانيين محتلين، وذلك ليرسخ فى الأذهان أن الأوروبيون أخذوا البلاد العربية... وغيرها من المحتل العثماني بمعنى آخر أنه تم إستبدال إحتلال بآخر3.

فالتاريخ الحديث لمصر يبدأ عندهم مع وصول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1212هـ/ 1798م، حملة التنوير كما يدعى، والتاريخ السابق هو فترة مهملة، فالتاريخ الوسيط ينتهى بسقوط دولة المماليك فى عام 923هـ/1517م، بينما التاريخ الحديث يبدأ مع الحملة الفرنسية على مصر، ويتم تصوير الفترة السابقة على الحملة الفرنسية على أنها فترة ظلام فكرى وعلمي1.

وتاريخ الجزائر قبل الإحتلال الفرنسى أى الفترة العثمانية هو تاريخ القرصنة الوحشية ضد أوربا، بينما ترفض المدرسة التأريخية الجزائرية الوطنية الآن هذه المقولة، وترد عليها بأنها "تاريخ الجهاد البحرى" لتأكيد دور رؤساء البحر المسلمين فى مواجهة عربدة الأساطيل الأوربية منذ القرن الـ 10هـ/ 16م  فى المياه الإسلامية ببلاد المغرب العربى2.

ومحاولة الدولة العثمانية إنقاذ ما تبقى من مسلمى الأندلس بعد قرار التنصير الجبرى فى عام 1602م، ثم قرار الإبادة والطرد ناحية الدول الأوربية والعالم الجديد على يد محاكم التفتيش 1609م، لكى يهلك مسلمى الأندلس، مما أدى إلى تدخل الدولة العثمانية للدفاع عن الثغور الإسلامية فى المغرب، وإنقاذ أكثر من 70 ألف مسلم من مسلمى الأندلس ونقلهم إلى الجزائر3 .

لذا توجهت دراسات القنصليات الأجنبية إلى جمع كل ما يمكن الوصول إليه من تاريخ الحضارة الإسلامية، من مخطوطات وغيرها وتصدت لهذا الدور النمسا حتى أصبحت مكتبة "فينا" الآن تحوى مليوني مخطوط إسلامي فى مختلف العلوم الدينية والدنيوية وهى تعد الآن أكبر مكتبة مخطوطات إسلامية فى العالم، والمراكز البحثية الآثرية التى أنتشرت تدرس الآثار الإسلامية وأهمها المدرسة الفرنسية فى مجال الآثار الإسلامية، وذلك لفهم طبيعة العقلية الإسلامية خاصة خلال العصر العثماني وذلك لعدة أسباب :

جعل العمران الإسلامي تراث انتهى، وأنه لا يصلح للعودة للحياة مرة أخرى4، وذلك لكون العمران مادة مؤثرة فى النفس والجوهر، كما أنه مادة عمرانية تحصينية للمدن ضد أى محتل، لكون المدينة الإسلامية تبنى على ثلاث طبقات (الساباط العلوي، والعمران على ظاهر الأرض، والعمران فى باطن الأرض) مما يصعب اختراقها .

كون العمران الإسلامى صياغة تطبيقية لواقع الشريعة الإسلامية فى حياة المسلم، وذلك لكون العمران موجه للنفس البشرية للحفاظ على العورات والأعراض، فظهرت المشربيات والساباطات الخشبية بين أسطح المبانى للنساء و الباشورة (المدخل المنكسر).

القضاء على فكرة صلاحية التجديد فى العمران والفنون الإسلامية فمثلاً يوجد فى الفنون والعمارة الإسلامية صبغة عامة، فكلما انتقل الفرد من بلد إلى آخر شعر بأن هذا أثر إسلامى، بينما عند النظرة الفاحصة يلاحظ أن لهذا الأثر صبغة خاصة به نابعة من بيئته التى وجد بها، ولكن مع التوجيه الإسلامي للمعمار والفن بصياغة حضارية.

وذلك لكون الإسلام موجه للفنون والعمارة، وليست الفنون والعمارة موضحة للدين كالفنون الدينية السابقة على الحضارة الإسلامية مثل الفنون البيزنطية والساسانية و الفرعونية والعراقية القديمة قبل الإسلام، والفنون الأوروبية الحديثة بعد الإسلام،

ومن هنا فإن الفرد إذا ذهب إلى أى مسجد إسلامي فى أوروبا أو أمريكا يجده المرأ يشبه مساجد الشرق، ولكن لم ينبع هذا التصميم من المزج بين الحضارة الأوروبية الغربية المعاصرة مع الحضارة الإسلامية فتكون نموذج جديد يعبر عن دمج هذه الحضارات فى الحضارة الإسلامية بحكم التوجيه فتنبع من ميراث الشعوب الأوروبية مع مراعاة قواعد الفن والمعمار الإسلامي، لذا وجدت هذه الهوة الحضارية فى الفكر بين الشرق والغرب منذ عام 1343هـ/1924م وحتى الآن، وما مشكلة مآذن سويسرا فى عام 2009م منا ببعيد.

ومما سبق يظهر لنا خطورة دراسة التاريخ العثماني فى ضوء المدارس الإستشراقية، وذلك لأنها غيرت مفهوم الدولة العثمانية فعندما نقول الدولة العثمانية، لا نقصد تركيا فقط بل نقصد العالم العربى مع تركيا والقوقاز والبلقان والقرم وجزر البحر المتوسط لكون المجتمع والمؤثرات والدولة واحدة خاصة فى ظل ربقة الدين الواحد والجغرافية الواحدة.

المبحث الثاني: مدارس التاريخ العثماني الحديثة والمعاصرة :

لاحظت الدول الأوروبية أن التدمير المباشر للدولة العثمانية لا يجدي لأنها متحدة الكيان فصارت فى ثلاثة خطوات رئيسية :

تفجير الداخل العثماني عبر الأقليات والنعرات القومية .

إعادة صياغة مناهج التعليم على أسس بعيدة عن فكر الدولة العثمانية الإسلامي لكي يناحر المجتمع العثماني بعضه بعضاً خاصة فى ظل عصر السلطان عبد الحميد الثاني.

الحروب المتتالية من قبل الدول الأوروبية على الدولة العثمانية بأسلوب الأدوار والتوزيع بينهم كي لا تستطيع الدولة العثمانية أن تتقدم فى مضمار الحضارة الإسلامية خاصة والإنسانية عامة .

لذا قام المستشرقون فى هذا المضمار بدراسة المحاولات الإنفصالية عن جسم الخلافة العثمانية فى مصر والشام زمن على بك الكبير وداهر العمر وفى لبنان، زمن بشير المعينى الدرزى الأول والثانى، ثم فى تحالفات الأقليات المذهبية المختلفة المشتركة مع الدول الأوروبية برابط الإعتقاد والمصالح1، لذا إتجهت الدول الأوروبية فى هذه المرحلة إلى تشجيع التربية الشعوبية والإنفصالية لأجيال الولايات العثمانية التى إحتلت من قبل القوى الغربية.

فبدأ ذلك فى مصر منذ عهد محمد على باشا 1805-1848 م عبر البعثات فعاد رفاعة الطهطاوى ينادى بالدستور بدل الشريعة، وبالوطنية بدل الوحدة الإسلامية فى كتابه تلخيص " الإبريز فى زيارة باريز"، ثم بدأت الفكرة تظهر فى الشام على يد جورجى زيدان وأدبياته، وبطرس البستانى بلبنان، وعبد الرحمن الكواكبى حفيد إسماعيل الصفوى، والذى استخدم لأول مرة فى تاريخ المصادر الإسلامية كلمة "استبداد" بمعنى "دكتاتور" على الرغم من كون هذه الكلمة تعنى فى المصادر "المسيطر الحازم القائم بتنظيم أمور البلاد" ، وليس الحكم المطلق فى السلطة دون الرجوع لأهل الحل والعقد، وألف فى ذلك كتابه الشهير "طبائع الاستبداد"، ثم تعجب لأنه لم يقيم فى الشام تحت ضغط السلطان عبدالحميد الثانى، وذلك لكون السلطان كان ينادى بالجامعة الإسلامية لتوحيد كلمة الأمة فى وجه الأطماع الأوربية تحت راية الدولة العثمانية 1 ، فبدلا من الإصلاح مع السلطان نادى الكواكبى بالخلافة والقومية العربية فى وقت زحف الإحتلال الغربى على الشرق، وبذلك تخفف الضغط عن المنادين بالقومية العربية من الطوائف غير الإسلامية.

وزاد فى نمو حركة  القومية العربية وساعدها على الظهور حركة التتريك التى ظهرت فى الدولة العثمانية بعد خلع السلطان عبدالحميد الثانى على يد الإتحاد والترقى من يهود الدونما منذ عام 1909م ضد العرب.

وفى خلال هذه الفترة ظهرت فكرة فصل الدين عن الدولة والتى ظهرت على البارات "السكة" العثمانية فى آخر هذا العصر، وكتبت عليها شعارات الثورة الفرنسية (حريت، مساوات، عدالت)، فكان من آثار ذلك الثورة العربية الكبرى للمناداة بالشريف "حسين بن علي" خليفة للمسلمين بدلاً من السلطان العثماني مقابل وعد شفوي من الإنجليز وبتخطيط من الجاسوس الإنجليزي لورانس العرب الملقب لدى الأوروبيين "بملك العرب الغير متوج".

فالناظر إلى مؤرخي العرب خلال هذه الفترة يجدهم يتحاملون على الدولة العثمانية التي لم يكن لها من الأمر شئ فى ظل قيادة يهود الدونمة لها، بينما نجد أتباع يهود الدونمة من المؤرخين العالمنيين يصفون الدولة العثمانية بالتخلف والرجعية، أضف إلى هؤلاء كل المتأثرين بالفكر القومي والتبعية الفكرية للحضارة المادية الأوروبية، لذلك نجدهم فى كتابتهم يسندون كل ما هو ماضي مضئ فى تاريخ بلدانهم إلى حقبة الإحتلال الغربي، وكل ما هو سيئ إلى فترة الخلافة العثمانية فنجدهم مثلاً يقولون "الحملة الفرنسية على مصر والإحتلال العثمانى"1 .

ثم ظهرت مدرسة التأريخ الماركسية ذات الصراع الطبقى والتى نادت بتفسير التاريخ الإسلامى على أساس مادى وفق نظرية الصراع والبقاء للأقوى 2.

وذلك رداُ على مدرسة التأريخ الأوروبية الرأسمالية البرجوازية الطبقية فى تفسير التاريخ الإسلامي، فإستخدموا مصطلحات لها مدلولات ومعاني مختلفة فى المصادر والعصور الإسلامية، على أنها ذات معنى واحد، مثل كلمة "إقطاع" كمرادف للكلمة الإنجليزية "Feudalism" وهذه الكلمة لها معنى مختلف فى المصادر والحضارة الإسلامية عن الأوروبية فهي تعني تحديد الأرض للبناء عليها، وتعني فى العصر الأيوبي(567-647)هـ، والمملوكى البحرى (648 – 784)هـ أن يكون كل أمير مسئول أمام الدولة عن إصلاح محافظة ما فى إنتاج معين يعين الناس والجيش وقت السلم والحرب، وتعني فى العصر العثمانى المتأخر الملكيات الزراعية الكبرى وما يترتب عليها من فكرة العزب والوصايا، والتى كان من نتيجة إلغائها أن تحولت مصر من دولة مصدرة للقطن والقمح إلى دولة مستوردة لهما مثلاً، بينما الإقطاع الأوروبي يعني أن الأمير الأوروبي يملك الأرض والناس ولا يعطي لهم سوى الكفاف فهم عبيد له .

ثم نضيف إلى كل ما سبق بعض المؤرخين السلفيين أو المتأثرين بالمدرسة السلفية فى التاريخ الذين يهاجمون الدولة العثمانية لحربها للدعوة السلفية نيابة عن إنجلترا وفرنسا بيد محمد على باشا وبالتعاون مع الخبراء الفرنسيين العسكريين، إضافة إلى سيطرة البدع والخرافات على الكثير من القوى الإسلامية فى الدولة العثمانية آواخر هذا العهد مما دفع الكثيرين  لمهاجمتها3

ومما سبق يتبين لنا أن الاختيار المنهجى الأمثل لدراسة التاريخ العثمانى هو دراسته وفق المدرسة الموضوعية للتاريخ مثبتين ايجابيات الدولة وسلبياتها دون التحيز إلا للحقيقة التاريخية العلمية، وفق معطيات البحث التاريخى المعتمد، وتفسير العصر حسب فترته الزمنية دون المقارنة بالفترة المعاصرة إلا فى ضوء الاستفادة والتجربة، وذلك لكون التاريخ حلقة وصل بين الأجداد والآباء والأبناء والأحفاد .