مستخدم:111Salem naser/ملعب

قريش قبل الاسلام
عدل

احابيش قريش قبل الاسلام

عدل

بحث المؤرخ هنري لامنس في موضوع الأحابيش، فرأى أنهم قوة عسكرية أُلفت من العبيد السود المستوردين من إفريقيا ومن عرب مرتزقة، كونتها مكة للدفاع عنها. وقد بحث مستشرقون آخرون في هذا الموضوع، فمنهم من أيده، ومنهم من توسط في رأيه، ومنهم من أيد الرواية العربية المتقدمة التي ذكرتها. وعندي رأي آخر، قد يفسر لنا سبب تسمية "بني الحارث بن عبد مناة" من "كنانة" ومن أيدها من "بني المصطلق"، و"بني الهون" بالأحابيش, هو أن من الممكن أن تكون هذه التسمية قد وردت إليهم من أجل خضوعهم لحكم الحبش، وذلك قبل الإسلام بزمن طويل، فقد سبق أن ذكرت في الجزء الثالث من كتابي: "تأريخ العرب قبل الإسلام"، وفي أثناء كلامي على "جغرافيا بطلميوس"5, أن الساحل الذي ذكره "بطلميوس" باسم: "Cinaedocolpitae" إنما هو ساحل "تهامة", وهو منازل "كنانة".

وقد بقي الحبش به وقتا طويلا واختلطوا بسكانه، فيجوز أن تكون لفظة "الأحابيش" قد لحقت بعض "كنانة

من خضوعهم للحبش، حتى صارت اللفظة لقبًا لهم، أو علمًا لكنانة ومن حالفها. ويجوز أن تكون قد لحقتهم ولحقت الآخرين معهم لتميزهم عن بقية "كنانة" ومن انضم إليهم ممن سكن خارج تهامة، أو لتزوج قسم منهم من نساء حبشيات حتى ظهرت السمرة على سحنهم؛ ولهذا وصفوا بالأحابيش. فليس من اللازم إذن أن يكون "الأحابيش"، هم كلهم من حبش إفريقيا، بل كانوا عربًا وقومًا من العبيد والمرتزقة ممن امتلكهم أهل مكة.

ومما يؤيد رأيي هذا هو ورود "من بني كنانة" مع أهل تهامة في أخبار معارك قريش مع الرسول. ففي معركة "أحد"، نجد "الطبري" يقول: "فاجتمعت قريش لحرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة"1. ونجد مثل ذلك في أخبار معارك أخرى, مما يشير إلى أن الأحابيش، ليسوا عبيد إفريقيا فحسب، بل هم عرب وحبش ومرتزقة، وأن أولئك الأحابيش هم من ساحل تهامة في الغالب من كنانة، أي: ممن أقام بذلك الساحل المستقر به من الحبش واندمج في العرب، فصار من المستعربة الذين نسوا أصولهم وضاعت أنسابهم، واتخذوا لهم نسبا عربيا.

وقد كان للأحابيش سادة يديرون أمورهم، منهم "ابن الدغنة" وهو "ربيعة بن رفيع بن حيَّان بن ثعلبة السلمي" الذي أجار "أبا بكر", وشهد معركة حنين2. ومن سادات الأحابيش "الحليس بن يزيد", ويظهر أنه كان يتمتع بمنزلة محترمة بمكة.

وقد ذكر "محمد بن حبيب" "الحليس" على هذه الصورة: "الحليس بن يزيد", وذكر أنه من "بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة", وكان من رؤساء حرب الفجار من قريش3. وذكره غيره على هذه الصورة: "وحليس بن علقمة الحارثي, سيد الأحابيش ورئيسهم يوم أحد, وهو من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة"4. وقد حارب الأحابيش مع قريش يوم أحد، وقد رأسهم "أبو عامر" المعروف بـ" الراهب"1, وقاتل بهم، مع أن رئيسهم وسيدهم إذ ذاك هو "الحليس بن زبان" أخو "بني الحارث بن عبد مناة", وهو يومئذٍ "سيد الأحابيش". وقد مر بـ"أبي سفيان"، وهو يضرب في شدق "حمزة" بزج الرمح، فلامه على فعله وأنبه2. ولعل هذا الحليس هو الحليس المتقدم, كتب اسم والده بصور مختلفة بحذف اسم والده, وإضافة جده أو غيره إليه، فصار وكأنه إنسان آخر.

وقد ورد ذكر "الحليس" في خبر "الحديبية"؛ فقد ذكر الطبري أن قريشًا أوفدت "الحليس بن علقمة" أو "ابن زبان", وكان يومئذ سيد الأحابيش, وهو أحد "بلحارث بن عبد مناة بن كنانة", إلى رسول الله، فلما رآه الرسول, قال: "إن هذا من قوم يتألهون" ، فلما رأى الحليس هدْيَ المسلمين في قلائده، وأحسن أن الرسول إنما جاء معتمرًا لا يريد سوءًا لقريش، قص عليهم ما رأى، فقالوا له: اجلس، فإنما أنت رجل أعرابي لا علم لك، فغضب "الحليس" عند ذلك وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أن تصدوا عن بيت الله من جاء معظمًا له، والذي نفس الحليس بيده, لتخلُّن بين محمد وبين ما جاء له, أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد! فقالوا له: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نوصي به3.

وقد ساهم "الأحابيش" في الدفاع عن مكة عام الفتح، وكانوا قد تجمعوا مع "بني بكر" و"بني الحارث بن عبد مناة" ومن كان من الأحابيش أسفل مكة, كما أمرتهم قريش بذلك. فأمر رسول الله خالد بن الوليد أن يسير إليهم، فقاتلهم حتى هزموا, ولم يكن بمكة قتال غير ذلك4. ولم يذكر "الطبري" اسم سيد الأحابيش في هذا اليوم.

ويتبين من دراسة أخبار أهل الأخبار عن الأحابيش، ومن نقدها وغربلتها، أن الأحابيش كانوا جماعة قائمة بذاتها، مستقلة في إدارة شئونها، يدبر أمورها رؤساء منهم، يعرف أحدهم بـ"سيد الأحابيش". وقد ذكرت أسماء بعض منهم قبل قليل.

وقد عاشوا عيشة أعرابية، خارج مكة على ما يظهر من الروايات, وذلك بدليل قول قريش للحليس: "اجلس، فإنما أنت رجل أعرابي، لا علم لك"1, أي: إنهم كانوا أعرابا ويعيشون عيشة أعرابية. ويظهر من هذه الأخبار أيضا أن "الحليس" "سيد الأحابيش"، كان من "بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة"، وأن "ابن الدغنة" كان من "بني سليم". ولم ينص أهل الأخبار فيما إذا كانا عربيين صريحين أو أنهما كانا من "بني الحارث" ومن "بني سليم" بالولاء، فنسبهما إلى القبيلتين، هو نسب ولاء.

ويظهر من خبر "الحديبية" ومن قول النبي لما رأى "الحليس" قادمًا إليه: "إن هذا من قوم يتألهون" , أن الأحابيش لم يكونوا على دين مكة أي: من عباد الأصنام, بل كانوا مؤلهة، يدينون بوجود إله. وقد يشير الرسول بذلك إلى أنهم كانوا نصارى، أخذوا نصرانيتهم من الحبش؛ ولذلك كانوا من المؤلهة بالنسبة لقريش. وأنا لا أستبعد أيضا أن تكون تلك التسمية قد غلبت على هؤلاء؛ لأنهم كانوا من الساحل الإفريقي المقابل لجزيرة العرب. جاءوا إليها بالفتوح وبالنخاسة، وأقاموا في تهامة إلى مكة، وعاشوا عيشة أعرابية متبدية، وتحالفوا مع القبائل العربية المذكورة، وتخلقوا بأخلاق عربية حتى صاروا أعرابًا في كل شيء ونذكر مثالا على ذلك عنترة بن شداد من أشهر فرسان الجاهلية ينحدر من ام حبشية واب عربي .

وقد لازمتهم التسمية التي تشير إلى أصلهم، وإنما تحالفوا مع "بني الحارث" وبقية المذكورين، عرف حلفهم بـ"حلف الأحابيش"، ثم عرف المتحالفون بـ"الأحابيش". وقد نسي الأصل وهو الأحابيش, أي: اسم الحبش الذين تحالفوا مع "بني الحارث" و"عضل" و"الديش" و"المصطلق" و"الحيا"؛ لسبب لا نعرفه, قد يكون بسبب كونهم عبيدًا سودًا، وأطلق الحلف على المذكورين.

غير أن روايات أهل الأخبار تشير إلى كثير من الأحابيش في مثل قولها: "وخرجت قريش بأحابيشها" إلى أن الأحابيش المذكورين كانوا في حكم قريش, أي: جماعة من الحبش من أهل إفريقيا, كانت كما ذكرت تكوّن وحدة قائمة بذاتها، ولكنها تدين بولائها لقريش، ولها حلف مع بعض كنانة ومع قبائل أخرى. ولما كان عام الفتح أمرتها قريش بالتعاون مع "بني بكر" و"بني الحارث بن عبد مناة"؛ للدفاع عن مكة من جهة الجنوب, فامتثلت لأمر قريش، وأخذت مواضعها هنالك، حتى زلزلها "خالد بن الوليد". وقد منح المؤرخ المستشرق "لامانس" الأحابيش درجة مهمة في الدفاع عن قريش, حتى زعم أن قريشا ركنت إليهم في دفاعهم عن مكة، وعهدت إليهم دورا خطيرا في حروبها مع الرسول. وقد استند في رأيه هذا إلى ما رواه أهل الأخبار من اشتراكهم مع قريش في تلك الحروب، غير أننا نجد من دراسة أخبار الحروب المذكورة، أن الأحابيش وإن ساهموا فيها، إلا أنهم لم يلعبوا دورا خطيرا فيها, وأنهم لم يكونوا في تلك الحروب سوى فرقة من الفرق التي ساعدت قريشًا، مقابل مال ورزق ووعود.

ولم يكن الأحباش وحدهم قد ساعدوا أهل مكة في حروبهم مع غيرهم, فقد ساعدهم أيضا طوئف من الأعراب أي: من البدو الفقراء الذين كانوا يقاتلون ويؤدون مختلف الخدمات في سبيل الحصول على خبز يعيشون عليه.

وقريش جماعة استقرت وتحضرت، واشتغلت بالتجارة، وحصلت منها على غنائم طيبة. ومن طبع التاجر الابتعاد عن الخصومات والمعارك والحروب؛ لأن التجارة لا يمكن أن تزدهر وتثمر إلا في محيط هادئ مستقر. لذلك، صار من سياستها استرضاء الأعراب وعقد "حبال" مع ساداتهم؛ لتأمين جانبهم، ليسمحوا لقوافلها بالمرور بسلام. كما صار من اللازم عليها عقد أحلاف مع المجاورين لهم من الأعراب مثل "قريش الظواهر" و"الأحابيش" وأمثالهم للاستعانة بهم في الدفاع عن مكة والاشتراك معهم في حروبهم التي قد يجبرون على خوضها مع غيرهم. بالإضافة إلى عبيدهم "الحبش" الذين اشتروهم لتمشية أمورهم, وليكونوا حرسًا وقوة أمن لهم.

ولم تكن قريش تعتمد على القوة في تمشية مصالحها التجارية، بقدر اعتمادها على سياسة الحلم واللين والقول المعسول والكلام المرضي في الوصول إلى غايتها, وأهدافها ومصالحها التجارية. وبهذه السياسة: سياسة اللين والمفاوضة والمسالمة, كانت تبدأ بحل ما يقع لها من صعوبات مع الناس. ولم يكن من السهل عليها في الواقع إرضاء الأعراب وإسكاتهم لولا هذه السياسة الحكيمة التي اختاروها لأنفسهم, وهي سياسة أكثر سكان القرى العامرة الواقعة في البوادي بين أعراب جائعين، سياسة الاسترضاء بالحكمة واللسان الجميل, وأداء المال رشوة لهم بأقل مقدار ممكن؛ لأن الإكثار من السخاء يثير في الأعرابي شهوة طلب المزيد, وشهوته هذه متى ظهرت، فسوف لا تنتهي عند حد. وأهل مكة بخبرتهم الطويلة في تجولهم بمختلف أنحاء جزيرة العرب أعرف من غيرهم بنفسية الأعراب.

الكتاب:المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام

الكاتب:د.جواد علي