مصطفى النفيسي من مواليد 1976 قاص وشاعرمغربي يشتغل حاليا كمدرس لمادة الفلسفة بالسلك الثانوي التأهيلي فاس -المغرب.صدرت له مجموعته القصصية الأولى عن دار أزمنة- عمان الأردن، وذلك سنة 2010. نشر نصوصه الأدبية منذ سنة1996. وذلك من خلال ؛ مجلة الملتقى - مراكش؛ مجلةكتابات معاصرة - لبنان؛ مجلة البيان - الكويت؛ مجلة أجرس الثقافية - المغرب؛ جريدة القدس العربي - لندن؛ جريدةالإتحاد الإشتراكي - المغرب؛ جريدة قريش لندن؛جريدة البيان - المغرب جريدة الأخبار - لبنان؛ جريدة الأيام - الجزائر. كما نشر نصوصه على صفحات المجلات االإلكترونية المتخصصة: مجلة كيكا- مجلة المشكاة - مجلة جدارية-مجلة شهرزاد- مجلة الإلكترون- مجلة الفوانيس القصصية - مجلة ثقافات- مجلة الثقافة الجزائرية- موقع الكتابة الثقافي- موقع كتب الثقافي - مجلة نخيل عراقي - مجلة أوكسيجين - مجلة ألترا صوت- موقع الحوار المتمدن - مجلة الموجة الثقافية - موقع هسبريس - موقع قاب قوسين.

هذا نموذج لأحد نصوصه القصصية بعنوان: الفزاعات تستقيل

الفزاعات تستقيل

1-استقالة الفزاعات. أنت تقصد أن تكون هادئا. لقد كنت دوما تتوخى استعارة هدوء شجرة في أيام تنقرض فيها الرياح غير مأسوف على صخبها. الرياح التي تستطيع التصرف بقسوة تجاه أي شطط تقترفه الغيوم. الرياح كانت دوما ورطة الأشجار. الرياح التي تدعي حمل نبوءات الفصول التي تأخرت في زيارتها لحقول بعيدة تشكو من ثرثرة فزاعات خلدت لشيخوخة مبكرة دون أن تنال من جسارة غربان لا تعير أي اهتمام لقوانين القيلولة لدى ظلال أبريل. لقد تقدمت بشكاوى كثيرة لدى شجرة الصنوبر الوحيدة. لكنها كانت تجيبها بأنها لا تستطيع أن تفعل أي شيء قبل قدوم الريح. لذلك استطاعت أن تحصل على استقالتها.

استقالة الفزاعات كانت فادحة، حتى أن الغربان نفسها احتجت. لقد اعتادت على رفقتها، بل هي التي كانت تفشي لها أسرار الريح. أبريل أيضا تكدر واقترف شتائم كثيرة في حق لا أحد. في الحقيقة هو بدون أعداء منذ سنوات كثيرة. لكنه لم يستغ عالما بدون فزاعات. لذلك تخلى عن سلطته لمايو الصارم بعد أن حكى له الكثير عن خيانة الفزاعات .لذلك أنت هادئ الآن بعد أن تأكدت من استقالة الفزاعات.

لكن كيف سيبدو العالم بدون فزاعات؟ 2- لماذا يبدو لك الجميع مجرد فزاعات؟ سأشرح لكم ذلك بالتفصيل؛ وإن شئتم سأشرح لكم ذلك بالتفصيل الممل. ولكنني أعدكم بأن أتخلى عن كل زيف وأكون صارما في الحكي كما كنت دوما دون أن أتهاون فيه: جاري مثلا يبدو لي كفزاعة حقيقية. لو لم يكن فزاعة لما سيج حديقته بإحكام. هذا ما أعتقده على الأقل. وكي أكون صريحا أكثر سأقول أنه يحاول إخفاء ذلك عن الجميع بما في ذلك أنا طبعا. لكنني كشفت أمره بحيث لم تنطلي علي حيله. وأنا لم أقرا أي كتاب عن الفزاعات أو الظلال. وهل كل من يريد الحديث عن الفزاعات سيكون مضطرا ليقرأ كتابا عنها أو موسوعة يشتريها بالتقسيط من دار الأهرام تتحدث بشكل مبسط عن تاريخ الفزاعات مرفقا بالصور التوضيحية كما لو أنها موجهة لأطفال الطور الابتدائي؟. أجزم بأن جاري مجرد فزاعة؛ فبعد أن سيج حديقته لم يستطع أن يمنع عنها العصافير والرياح، كما لم يستطع منع الجيران من تداول أمره في نميمتهم التي تتم في الصباح أمام مبنى العمارة على مرأى ومسمع من الجميع، بحيث أن ضحكاتهم المتفردة لم تكن تحدث إلا في خاتمة أحاديث تسخر من السياج. كما أنه لم يمنع البراعم من الإزهار. لذلك فهو مجرد فزاعة فاشلة. الطبيب المتحذلق بكرشه الذي لا يليق بطبيب هو مجرد فزاعة أيضا. كان طيلة الوقت ينبه أمي إلى وزنها الزائد وإلى نسبة الكولسترول الزائدة في جسدها دون أن ينتبه لجسده المترهل من شدة الأكل والخمول. طبيب ثرثار كان يتكلم كمقدمي النشرات الجوية الذين لا يكفون عن ترديد لازمة الغيوم التي تغزو السماء في الجزء الشمالي دون أن ينسوا الرياح التي ستكون معتدلة. طبيب بأوداج لا تليق سوى بعازف مزمار في فرقة من الهواة. طيلة حديثه كنت تتخيله ممسكا بمزمار أو سكسفون وهو يحاول أن يعزف بشكل رديء للحن ظل يستمع إليه طيلة مساءات الآحاد حينما تتأخر زوجته خارج البيت لأسباب لا يعلمها أحد. لم يستطع أن يقنعك بشيء، كما لم يستطيع إقناع أمك بضرورة اللجوء الى حمية قاسية كالعقوبات القديمة في أزمنة الطغاة. كان النوم قد بدأ يداعب جفونك وأنت تتثاءب كسائق حافلة تقل تلاميذ مدرسة عبر طرق قروية ملتوية غير تامة التوضيب. أشار لأمي بضرورة التحول إلى أرنب. ثم تدارك الأمر مشيرا إلى أن هاته الحمية تخلو من اللحوم، لذلك فأمي لن تختلف عن أرنب. اعتبرت الأمر شتيمة لذلك لويت عنقك بشكل هستيري وظهر عليك التوتر والغضب. فالتفت إليك الطبيب كأنما يلتفت إلى عازف آخر أخطا تتبع الخطوات الصارمة للحن الرديء الذي يشبه عواء الذئاب. لم يصدر عنك أي رد فعل فيزيائي يدل على الغضب. لذلك استمر الطبيب في تلاوة خطبته ضاغطا على الحروف الأخيرة في كلماته كأنه يضرب بمطرقة حديدية على رأس أمي التي لم تكن تفعل أي شيء سوى الإنصات لوقع المطرقة على جسدها . وفجأة توقف عن الحديث منهيا المقابلة بشكل فجائي كأنه انتهى من أكل ما بينما كانت أمي تتوغل بشكل فادح في طرقات أطروحة الطبيب الذي يشبه الفزاعات. حارس السيارات الذي كان يلبس سترته الصفراء الخاصة بشكل متكلف كحيلة يريد أن تنطلي على الجميع هو مجرد فزاعة بالنسبة إليك. الحارس الذي يتحول إلى مدعي عام يلقي التهم يمنة ويسرة كمزارع يبذر القمح في أصيل يوم خريفي. إنه لا يتوانى عن التحول إلى أفاق متى رأى الفرصة سانحة لذلك. يشتم طيلة الوقت حظه العاثر الذي جعله يمتهن مهنة يمقتها كل المقت. كل التافهين تقلدوا مناصب عليا إلا هو، مثلما كان يردد طيلة الوقت. يلعن غريزته التي ورطته في سلسلة من الهزائم. كنت متأكدا أنه كان يقصدك. كنت ستقول له "روح على نفسك. أنت ربما تقصد البذلة التي أرتديها ولا تقصدني أنا". لكنه كان مصرا على حدجك بنظراته ذات الوقع الأشبه بوقع النبال على جسد جندي منهك. فكرت في تحريره من سجن الكراهية الذي يقضي به فترة سجنية غير محددة. لكنك كنت تتراجع عن ذلك مدركا متانة جدران السجن التي يحصن بها نفسه. حينما يقبض منك واجب الحراسة يبدو وكأنه تلقى منك شتيمة، لذلك كنت تحس بأسنانه تصر وبفرائصه تصطك. فحينما كان يدس الدرهمين في جيبه كان يبدو وكأنه يكور قبضته مستعدا للكمك. لكنه كان يتراجع لسبب ما قد يكون لعنة جبن ورثها عن أبيه. كل هذا جعله يبدو لك كفزاعة في حقل. الرصاص الذي جاء مسرعا وانقض على الصنبور بشكل مثير للغثيان كان مجرد فزاعة. لأنك اكتشفت فجأة أنه نسي المطرقة كما نسي الكماشة. العطل التافه الذي كان عبارة عن تسرب بسيط للماء سيحوله الى مشكلة عويصة لا حل لها. كان يصفر ومن حين لآخر يدعو لك بصوت جهور وهو في قرارة نفسه كان يدعو لنفسه بالنجاة من هاته الورطة. لقد أبان عن باعه القصير وقلة حيلته. فهو ليس سوى مساعد رصاص تخلى عن هاته المهنة أو انتقل إلى مهن أخرى - طفق يحدثك عنها - وربما يكون طرده رب الحرفة لخطب أو لجرم ما كان قد ارتكبهما. لقد ظهرت لك عيناه كثقبين مليئين بالشر. عيناه الصغيرتان اللتان تذكرانك بالبطل الشهير "تانتان"؛ وربما كان يبدو لنفسه كمخلص أسطوري سبجعلك تجتاز كارثة الصنبور بسلام، بل إنه دعاك لعدم التردد في الاستعانة بخدماته مهما كانت الورطة التي تقع فيها. غسل يداه وقبض أجره وانصرف مسرعا مثلما جاء كأن هناك شخصا ما ينتظره، أوقد تكون زوجته طلبت منه عدم التأخر لسبب مبيت. لم يمر سوى وقت قصير لتكتشف أن تسرب الماء لا زال قائما. وحينما أخبرته بذلك تأسف وضرب بيده على جبهته دلالة الخيبة ووعدك بالمجيء ثانية لإصلاح الأمر، ولكنه لم يأت أبدا. هذا يعني أنه مجرد فزاعة بنظرك. عامل المحطة الطرقية هو الآخر لا يختلف عن فزاعة. وزرته الزرقاء الممزقة في أكثر من مكان كانت شاهدة على عدم خلوه من شبهة التماهي معها. جيوب الوزرة كانت دائما ممتلئة بأشياء مبهمة قد تكون مجرد بقايا عرائس ابنته التي كان يمزقها بسادية سافرة نكاية بزوجته التي لم تعد طيعة مثلما يريد. لقد أصبحت تدعي فهمها للكثير من الأمور التي لا يستطيع فهمها هو نفسه. لقد جهرت بذلك في مواقف عدة، وقالت أكثر من مرة:" لم أعد أحب هاته الحياة..حياة تشبه "الأكل النتن" وكررت : "أنت مجرد ظل..أنت مجرد ظل..الظل أفضل منك.." وكانت تختم كلامها دوما بقهقهة خبيثة مليئة بالشماتات واللؤم. لم يحتمل ذلك. لم يفهم حتى معنى أن يكون ظلا. ألا يشبه الأمر مثلا أن يكون ظل شجرة؟ " ظل؟ظل ماذا؟" هكذا كان يردد بصوت مكتوم خشية أن يسمعه أحد ما."إذن أنا مجرد ظل؟" كان يضيف دون أن تصر أسنانه أو يكور قبضة يده أو أي شيء من هذا القبيل. لقد خذله الجسد. لم يعد شابا مثلما يليق بعامل يشتغل في محطة طرقية مزدحمة وتفوح بالأفاقين. عامل المحطة يجب أن يبقى دوما شابا. لا يجب أن يشيخ أبدا. استحالت عليه زوجته إذن. أصبحت حياته شبيهة بالعبث مثلما استنتج دون أن يكون قد قرأ سارتر أو كامو. حياة بدون قيمة وبدون أية نكهة. لذلك أدار ظهره لكل شيء. لقد أصبح مجرد مشاء يهيم في الطرقات قبل أن يعود في إحدى الليالي ويجهز على زوجته خنقا بيديه الصغيرتين اللتين لم يستعملها يوما سوى في حمل حقائب مسافرين لا يطيقون أداء أثمنة تذاكر القطار فيهرعون إلى المحطة الطرقية راغبين في اختزال أتعاب السفر. لذلك تحول إلى مجرد فزاعة منتهية الصلاحية بالسجن لا يختلف كثيرا عن مزق عرائس ابنته التي كان يمزقها في حالات الغضب. وهو الشيء الوحيد الذي كان يستطيع فعله دلالة الحنق الشديد. أنت أيضا مجرد فزاعة. هكذا تبدو لنفسك خاصة حينما ترتدي تلك البذلة السوداء التي تبدو فيها كموظف في ديوان وزير رغم أنك لست سوى بواب في الوكالة البريدية. لقد كنت دوما بارعا في اقتناص فرصتك حينما يبدأ موسم التنزيلات. البذلة تجعلك تبدو كبرجوازي هارب من زوجته التي تتنمر عليه كلما تخطت أقدامه عتبة المنزل. لكنك مجرد كادح صغير يحلم بجاه مزيف كأنه بطل قومي شارك في كل معارك التحرير، رغم أنه لم يفارق حيه السكني ولو ليوم واحد: أليس هذا حال كل الأبطال المعاصرين على الأقل؛ أبطال المسلسلات والفيديو كليبات الأشبه بالأكل السريع، والذين لا يختلفون عن الفزاعات؟ حينما تلبس بذلتك السوداء تصبح كمدعو لحفلة تنكرية. تدس أياديك النحيفتين في جيبي سروالك بحنكة مهرج في سيرك إيطالي مطيلا التحديق في المرآة المستلقية بشكل غير مريح على جدار الحمام. تتحول بسرعة البرق الى جنتلمان بعطر رخيص يليق بأمسية في مقهى "بيكاسو". هناك ستحكم قبضتك على نظرات الجميع. تجعلهم كلهم شاخصي الأبصار نحوك مرددين عبارة"أواه" التي تعلن من خلالها عن انتصارك على خيباتك كلها من الألف إلى رسوبك غير المبرر في امتحان البكالوريا الذي جعلك تقبر كل أحلامك وتحولها إلى آهات مكتومة تصدرها بشكل متسلسل حينما ترى زملاء الدراسة الذين تسلقوا كل شيء إلى أن وصلوا الى برج السيارات الفارهة والمكاتب المكيفة.

النموذج رقم 2: رسالة إلى الشاعر سليم بركات في حجره الصحي. رسالة إلى سليم بركات في حجره الصحي العزيز سليم بركات

لا أحد يستطيع أن ينفي أنك شاعر حقيقي قلبا وقالبا.أنت شاعر كل الأزمنة.أستطيع أن أضعك في نفس المقام مع هوميروس أو يانيس ريتسوس،وان كنت تختلف عنهما في اللغة التي تكتب بها. تلك اللغة الأشبه برحيق طازج في ربيع قديم، أو أريج الصباحات حينما يصبح البحر أقرب من حبل الوريد. لغتك التي تسمح لي بالفخر لأنني قرأت لك مبكرا . قرأت لك دون ان أدري أنني أقرأ لشاعر كبير استطاع أن يطوع اللغة العربية ،ويجعلها كخاتم في أصبع شخص ضجر يديرها في كل الاتجاهات. أنت النوتي الذي استطاع أن ينتصر على كريستوف كولومبوس. فإذا كان هذا الرحالة قد اكتشف قارة أمريكا فأنت اكتشفت ألف قارة دون أن تبرح سريرك. استطعت ذلك من خلال التخييل اللذيذ الذي يجعلنا نكتشف ذواتنا من جديد، كما يجعلنا نحوز على نشوة النصر دون أن نكون قد انخرطنا في أية معركة. نحن نكتفي بإطلاق العنان لخيالنا لنرى العالم وقد تجمل بعد أن تصبح ألوانه زاهية وجنباته أقل وحشة. حينها فقط نكون قد قطعنا تذاكر السفر إلى عوالم أخرى أكثر رحابة وأكثر استدرارا للمشاعر الإنسانية النبيلة التي ستنقرض آجلا أو عاجلا.

العزيز سليم بركات

أنت الشاعر الكبير الآن بعد ان نجا صديقك محمود درويش من أحابيل الحياة على حد تعبيره ذات ألق شعري. فالموت هو الفرصة الوحيدة كي ننجو من الحياة. لكن الشعر أيضا يسمح لنا بذلك. الشعراء هم الوحيدون الذين ينتبهون إلى عطايا الشعر الكثيرة ،والتي نجد من بينها النجاة من الغرق في مستنقع اليومي. بالشعر - أحيانا قراءة فقط - ننجومن كل أشكال الركاكة التي اصبحت عناوينا رئيسية في نص مسرحي ممجوج كفواكه تم قطفها قبل الأوان. 
بالشعر نستطيع أن تصبح أكثر إنسانية .من قال أن كلمة الإنسان تكفي؟ إنها مجرد عتبة صغيرة يجب أن تعقبها ردهات كثيرة قبل ان ندلف الى بهو الإنسانية. الإنسانية التي تحتاج الآن إلى ترميم مستعجل خارج أي برنامج حكومي.لأن هذا شأن لا تستطيع أن تقرر فيه الحكومات. إنه قدر الإنسانية وهي تواجه مصيرها في انحناءة قصيرة للتاريخ، وذلك حينما تشتد الغصة التي ستصبح أكبر من أن تستوعبها حنجرة. 

العزيز سليم بركات

لقد اخترت البعد. هذا قدرك.إنك تذكرني فقط ببول بولز ذات تخف في طنجة.هو العارف بخبايا السرد وبكواليس عوالم الأدب اختار أن يتبتل في محراب متوسطي حينما كانت طنجة ملاذا لكل الحالمين و الهاربين من جشع الإمبريالية الشبيه بطفح جلدي أستطيع تسميته بإكزيما الروح.فالعالم آنذاك كان قد أصبح أضيق من كف عفريت.

ولكن هل نجا العالم؟هل استطاع ان يبرأ من طفحه الجلدي؟ لم يستطع النجاة أيها العزيز.لأن هذا الطفح ازداد استفحالا واتساعا بعد أن امتدت أياديه إلى الأماكن القاصية والتي ستصبح قاسية ذات يوم. بول بولز كان يتطهر من أدران الإمبريالية. وأنت ذهبت إلى أعالي أوروبا للتطهر من تبلد الأذهان ومن النمطية القاتلة . ذهبت إلى هناك بعد أن وضعت قطيعة مع القبيلة التي لازالت تحتاج عظما آخر لإطعام كلابها على حد تعبير الشاعر سركون بولص .الكثيرون يحزمون حقائبهم وأنت حزمت لغتك فقط ذات غروب. فعلت هذا طبعا بعد أن وضع صديقك محمود درويش الوطن في حقيبة متنقلة جال بها كل مطارات العالم. هذا فقط لأنه شاعر.الشاعر لا يحتاج لأن يضع حفنة رمل في يده كي يتحدث عن الوطن، بل تكفيه فقط لحظة سكينة سريعة في صباح باريسي ليصنع وطنا آخر. وطن اللغة الأشبه بسرير وثير. إنها اللغة التي لا تختلف عن أم رؤوم وبارة بأبنائها. اللغة التي لا تنكر جميل أحد كما لا يستطيع أيا كان إنكار جميلها. إنها المطية الأشبه بسلم للصعود إلى مدارج الروح التي تشبه عرش أرسطو.وذلك حينما تتطهر النفس وتتخلص من شوائب كل ماهو حسي وعابر إلى سدة الفناء، مثلما تعبر دراجة هوائية لحارس ليلي في غياهب الليل دون أن يحس بها أي أحد.اللحظة التي يتخفف فيها الجميع من سطوة الوقت التي دعا فرديريك نيتشه الى التمرد عليها. ففي خضم التطاحن والركض المقيتين في دروب الحياة يجب أن نخلد من حين لآخر للجنون، كي نكون أحرارا أكثر وكي وتتقوى إراداتنا. ذلك هو فيء الشعر أيها العزيز.إنه جنون آخر يجعلنا نتخلى عن جنون الأوهام والزيف الأخلاقي الذي لا يختلف عن زيف الدمى ومعارض الأراجوزات.

الشاعر سليم بركات

أيها الشاعر الإنسان : حينما سئلت عن زوجتك وكيف تعاملها ذات حوار، أجبت بأنك تعاملها ك"شخص".لم أسمع أحدا قبلك يقول ذلك.هل هو فائض الوعي الشعري؟ ذلك ما تحدث عنه، وسعى إلى تمثله، و تنزيله إلى أرض الواقع رجل صلب وعميق اسمه جون بول سارتر، حينما كان يخطب ود سيمون دي بوفوار العارفة بشؤون الإنسان والإنسانية. الند للند بدل الدخول في متاهة التفاضل والأحقية السمجة التي لا يمكن لعقل أن يقبل بها. فالانسان هو الإنسان مهما اختلفت ظروفه أو اختلف جنسه. هذا ما أومن به تماما. لذلك فالمرأة هي بالنسبة إليك شخص يتميز بصفات خمس مثلما جهر بذلك سارتر: الوعي،الحرية، المسؤولية،الاستقلال والقدرة على الانفتاح على الأشخاص الاخرين .هكذا فأنت غير مدان في شيء. لذلك فأنت قد أدرت ظهرك لأنانية الرجل الشرقي. فكيف لأمة ان تتقدم وهي تسير في الاتجاه الخطأ؟ فكلما اعتقدت أنها تقترب من خلاصها ، فهي في الحقيقة لا تفعل شيئا سوى أنها تبتعد عنه مثلما أشار إلى ذلك الحكيم الروماني سينيكا، حينما كتب عن المضي في الطريق الخطأ بحثا عن السعادة. إننا نتجه في الاتجاه الخطأ بسرعة جنونية بحيث لا يمكن لأي شيء أن يقف في وجهنا.إننا نخطو بخطوات واسعة نحو حتفنا.

العزيز سليم بركات الآن يا عزيزي أعتقد أن الحجر الصحي لن يضرك في شيء. فأنت اعتدت على التوحد بتعبير الفيلسوف مارتن هيدجر. فالتوحد ليس عزلة على كل حال. فقد تكون منعزلا رغم أنك وسط الناس. أما التوحد فيمنحك ذلك الصفاء الذهني الذي لا غنى لك عنه لنسج المزيد من خيوط تعينك على توضيب أردية لتتلفع بها الأرواح القانطة التي تهيم هنا وهناك. الأرواح المحتجزة في هذا اللامكان بدون أية عزاءات تذكر. العزيز سليم بركات حينما أدركت أن هذا الضيف الثقيل المسمى"كوفيد 19" قد أمسك بتلابيب الإنسانية مثلما تمسك الوحوش بفرائسها،قلت في نفسك "فليكن".فلاشيء سيتغير. فأنت مغرق دوما في تلك التأملات العميقة التي لا تذكرني سوى بتاملات ماركوس أوريليوس الروماني أو القديس أوغسطين.لا بأس أن تمضي هاته الحياة في طريقها عرجاء دون أن تنال منك . وهذه مزية أخرى للشعر .انه يمنحنا ذلك الانقطاع عن العالم الأشبه بالانغماس فيه. تنقطع عنه دون أن تكون قادرا على الفكاك منه ولو للحظة من الزمان. فأنت في لجة اليم تحمل سيفا صقيلا تضرب به يمنة ويسرة ،مثلما كان يفعل دون كيشوت،حينما ذهب إلى محاربة طواحين الهواء ،مع فارق كبير أيها العزيز هو أن سيوفه كلها انكسرت، ولم يسقط أمامه ولو قتيل واحد، بينما سيفك لا زال في يدك غير منقوص، وأمامك سقطت كلمات وقصائد ومعان نحبها جميعا. أمامك توجد حدائق دائمة الاخضرار وورود يانعة دائمة التفتح ،لا تذبل أبدا .لأنها ببساطة تتفتح في مخيلاتنا و وفي أذهاننا ،وليس أمام أعيننا. فالعالم على كل حال ليس مانراه بأعيننا بل ما ندركه من خلال مفاهيمنا على حد تعبير ألبير جاكار. العزيز سليم بركات لا أعتقد أنك ستكون متضايقا وأنت تجتاز هاته المتاهة الكبرى التي جعلت الانسان يفكر في تغيير أنماط عيشه ،وتغيير معايير تحديد حاجاته ورغباته. لأنك تعيش في عوالم فوقية إذا

كنا سنستعيرمرة أخرى إحدى تعبيرات أرسطو . هناك تتجول وفي يدك اليمنى مصباح على غرار ديوجين، وفي اليسرى تحمل مروحة كبيرة لتلطيف نسائم غرفتك. تلك الغرفة غير المرئية التي تمنحك البهاء كله. العزيز سليم بركات هاهو العالم يغرق مرة أخرى .الآن ظهر ضعف الانسان من جديد ،كما ظهرت قلة حيلته. فلا أدوية ولا لقاحات في الأفق تنجيه من هاته الجائحة. لذلك فلا أحد يعرف كيف سينتهي هذا الكابوس الأصفرالمليء بالطلاسم، والتي لايمكن حل شفرتها،على الأقل الآن. هاهو العالم ينزع قبعته ويتنازل عن كبريائه ، ويرفع أياديه إلى السماء مثلما كان يفعل المحاربون القدامى وسط المعارك الضارية التي لا قبل لهم بمجاراة حرارة وطيسها. ها هو العالم يتحول إذن الى قزم صغير يصرخ بشكل عال ،ولا أثر لصدى هاته الصراخات. فكلنا الآن نختبيء داخل غرفنا ونحدق طيلة الوقت في شاشات التلفاز ،التي أصبحت كالملاذ الأخير ، لعلها تأتينا بالخبر المعجزة. وفي الختام تقبل مني أجمل التحايا وأصدق المنى.