الدين والايديولوجيا والفلسفة والعلم

يقوم الفكر الانساني على أساس من اللغة، القائمة بدورها على تسمية الأشياء المتنوعة والكثيرة في العالم المادي، في بناء منطقي يعكس العلاقات بين الأشياء ضمن بنيتي الزمان والمكان. ويهدف هذا البناء المنطقي للغة، إلى لم شتات العالم في مكوناته الكثيرة المتعددة، وذلك في مسعى معرفي (ابستمولوجي) لفهم العالم واستخراج المعنى منه عبر الفكر. ومسعى وجودي (انطولوجي) للسيطرة على هذا العالم وامتلاكه، ومن ثم التخلص من الاغتراب المضني الذي يعانيه الإنسان فيه، وهو الاغتراب الناتج عن الكثرة الظاهرية لمكونات العالم، التي تتحدى الإنسان وتقابل هويته بهويتها الخاصة، وتقاوم رغباته واحتياجه إلى استئناسها وامتلاكها واستهلاكها، احتياجاً اضطرارياً لأسباب محض وجودية، او رغائبيا لاسباب ترفية.

[كل من الدين والايديولوجيا والفلسفة تكوينات غائية تهدف إلى التغلب على عجز الإنسان على المستويين المعرفي والوجودي، المتمثلين بالعجز عن الفهم، والعجز عن الامتلاك.]

1

الدين والايديولوجيا

ترجع جذور الدين والأيديولوجيا إلى ما يسمى في علم النفس (المفهوم الفكري) و(المفهوم السيكولوجي). حيث ينقسم المفهوم الفكري إلى إلى جزئي وعام ، وحيث ينقسم المفهوم السيكولوجي (الأيديولوجي والديني والفني) إلى واعٍ ولا واعٍ.

 تظهر لنا الحصيلة التاريخية أن الإنسان أبدى نزوعاً وميلاً منذ وقت مبكر إلى بناء عالم فكري خاص به مفارق لواقع عالمه المادي ومواز له. وتلك حيلة قديمة لجأ إليها للتغلب على شعوره بالعجز على المستويين المعرفي (الابستمولوجي) العجز عن الفهم، والوجودي (الانطولوجي) العجز عن الامتلاك، وذلك عن طريق إعادة تعريف وتسمية مكونات عالمه، كلياً أو جزئيا،ً بما يتناسب مع رغباته وأمانيه.

البناء الخيالي الناتج عن هذا النزوع والميل، هو ما أصطلح الناس على تسميته أدباً وفناً لغوياً إذا كان جزئياً، وهو أيضا ما اصطلحوا على تسميته بالدين او الايديولوجيا إذا كان ذا بنية شاملة.

يقوم الناس بانشاء الاديان والايديولوجيات نتيجة حاجتهم اليها ذلك أن كلا من الدين والأيديولوجيا تكوين غائي يهدف إلى التغلب على عجز الإنسان على المستويين المعرفي والوجودي، المتمثلين بالعجز عن الفهم، والعجز عن الامتلاك كما اسلفنا.

وعند تحليل هذين المظهرين من مظاهر العجز الإنساني، نجد أن عجز الإنسان عن الفهم راجع إلى الحيرة والهوى ثم إلى التخلف العلمي والتقني، وقصور مناهج البحث. وهنا يقوم الانسان العاجز عن الفهم باعلان فشله عن طريق اختلاق قوة غيبية ما، يسبغ عليها ما يتصوره من الصفات ومن ثم ينسب اليها كل ما عجز عن فهمه وتفسيره هو في الحقيقة حل عبقري ينقذ الانسان من التيه الذي يمكن ان يعانيه نتيجة عجزه عن تفسير مكونات العالم. وقد اكتشف الحكام والكهنة فائدة اخرى لما اخترعوه، وذلك في المجالين الاجتماعي والسياسي فسنوا القوانين وفرضوا العقوبات التي يريدونها باسمه.

أما العجز عن الامتلاك فهو شعور ناتج عن الطمع والجشع أولاً، ثم عن ندرة الأشياء التي يحتاج إليها الإنسان لإشباع حاجاته. ولهذا يرى الإنسان في الآخر – فرداً أو مجتمعاً – منافساً خطيراً على الموارد النادرة يجب إقصاؤه ولو بإلغائه، ثم اكتشف ان استغلال هذا الاخر و استعباده يجلب له منفعة كبيرة . ولذلك فإن الأيديولوجيا والاديان البشرية تتسم بثلاث سمات رئيسية على وجه الحصر:

تقدم في المجال المعرفي إجابات جاهزة، وهذه الإجابات عندما تتعلق بأمور علمية تؤدي إلى ظهور تهافتها وكذبها.

وفي المجال الوجودي تنزع إلى الرفع من شأن الذات مقابل وصم الآخر وتحقيره والتقليل من شأنه تمهيداً لإلغائه او استعباده.

وفي المجال الاخلاقي تروج لاخلاق قبلية تقصر المحبة والتراحم عليها وتحرض ضد الآخر خارجها.

والأمثلة على الإجابات المغلوطة في المجال المعرفي نجده في تصميم الكنيسة الكاثوليكية على أن الأرض مركز الكون، حتى أنها أحرقت العالم برونو جوردانو حياً عندما قال بغير ذلك، وكادت تفعل الشيء ذاته بالعالم جاليليو جاليللي لو لم يتراجع عن أقواله أمام محكمة التفتيش الكنسية. كما نجده فيما تمت إضافته إلى التوراة والعهد القديم من الإنجيل من أن العالم تم خلقه منذ ستة آلاف سنة، وقول الديانات الثلاث المسيحية واليهودية والاسلام ان الارض منبسطه، وما أشبه ذلك. وقد وجدت من خلال دراستي للنصوص الايديولوجية على ضوء الاكتشافات العلمية الحديثة عشرات من الاخطاء والاوهام المعرفية حول مكونات العالم، فالارض منبسطة، وهناك سبع سماوات وسبع ارضين طباقا بعضها فوق بعض، هي لا وجود لها، والهيكل العظمي يتكون في الرحم ثم يكسى لحما مع ان العكس هو الصحيح، والجبال اوتاد تمنع حركة الارض مع انها نتاج حركة القشرة الارضية لا تزال تتشكل، وان الانسان يخلق من ماء دافق يخرج من الصلب اي العمود الفقري للرجل ومن الترائب اي موضع القلادة من عنق المرأة ، مع ان المني مصدره الخصيتين، وما الى هنالك من عشرات التراهات الساذجة التي تعج بها النصوص المقدسة، وهي بطبيعتها اخطاء لا يمكن ان يقع فيها اله يملك كل تلك القدرات التي تصفها الاديان. وقد سلم الكهنوت اليهودي والمسيحي باكتشافات العلم الحديث ونسبوا الاغاليط في نصوص اديانهم الى الناقلين، بينما بقي الدجالون المسلمون مصرين على ترويج الكذب وحمايته واخترعوا اعجازا علميا لكتابهم يقوم على لي عنق اللغة والمنطق معا.

أما في الناحية الوجودية والاخلاقية، فهناك مقولة شعب الله المختار مقابل الأغيار في التلمود. ومقولة الأمم والشعوب المتحضرة مقابل الشعوب الهمجية والبربرية (توني بلير). ومقولة الجنس الآري المتفوق مقابل الأجناس المنحطة (هتلر). والشر مقابل الخير (جورج بوش)الذي بدا متأثرا بالفكر الصليبي؛ فبعد أن تحدث عن شن حملة صليبية ضد الإرهاب ـ قيل فيما بعد أنها زلة لسان ـ.إذا به يسلك سلوكا يشبه شعار داعية الحروب الصليبية الفرنسي (القديس) برنار الذي كان يقول " إن قاتل المسلم ليس قاتل إنسان بل هو قاتل شر"، ولو ان وجهة النظر هذه بدأت تكتسب بعض المصداقية نتيجة التصرفات اللا انسانية للمسلمين. وهناك في الجانب الإسلامي مقولة "خير أمة" مقابل أبناء القردة والخنازير (التطرف الإسلامي). فالتطرف فقط هو الذي يصدر أحكاماً شاملة غير قابلة للتعديل على أمم بأكملها ويصمها ويحقرها، فالتهمة أبدية لا تميز بين آثم وبريء وكذلك العقوبة. ولذلك نرى أن الأيديولوجيا بعيدة عن روح العدالة التي لا تحابي أحداً. وهذه من أهم المعايير في الحكم على أصالة النصوص الدينية أو صحتها فيما أرى.

وعليه فإنه يمكن للمرء أن يحكم بثقة ويقين، أن فكر التطرف الإسلامي الذي يصم الآخر ويحقره تمهيداً للحكم عليه بالإعدام والإلغاء، والذي يتذرع بالمقدس والقداسة لمنع الحوار والنقاش والمحاججة، حتى وصل الأمر ببعض فرقه إلى تكفير المسلمين، بل ومجتمعات إسلامية بأكملها، ومن ثم استحلوا بذلك دماء المسلمين، مثل هذا الفكر، لا يمكن أن ينسب إلى اله عظيم. فهو لا يخرج عن كونه أيديولوجيا بشرية تماماً كالمسيحية واليهودية وغيرها من الاديان والايديولوجيات كالفاشية والنازية والبعثية والناصرية والماركسية بفروعها والفوضوية والليبرالية...الخ. ولا يتبقى اليوم إلاميثاق الامم المتحدة والعهد الدولي لحقوق الانسان، والمواثيق الصادرة عن الجمعية العامة للامم المتحدة، والتي تمثل الحكمة الجمعية لسكان الكوكب وتطلعاتهم الى العدالة والحرية والسلام والتقدم، مستثنين من ذلك ما يصدر عن مجلس الامن الذي كثيرا ما مثل رغبات القوى المتغطرسة للهيمنة على الشعوب واستغلالها. ولهذا فاننا سنجمع من هذه النقطة فصاعدا كلا من الدين والايديولوجيا تحت مسمى الايديولوجيا. 

ولكن هذا لاينفي ان الانسان متصل بصورة غامضة متقطعه بافكار ورؤى غيرمادية تدفعه الى الايمان بان لهذا الكون قوة اوقوى هندسته على الشكل الذي هو عليه. وهذه الرؤى تدفعه الى التأمل في مسائل الحياة والموت، ومظاهر الرعاية والعناية المنتشرة على كوكبنا وما يعيش عليه من كائنات حية، وغالبا ما تقوى الرؤى لدى الناعين الى التأمل والمنغمسين فيه في الخلوات والغابات، وقد كان أعاظم أصحاب الرؤى المتاملين من رعاة الحيوانات والمنقطعين عن اقرانهم من البشر فترات طويلة، وكان اكثرهم حصيلة هم الذين يمضون في تأملاتهم غير منطلقين من نظريات مسبقة. والحال ان بوسع من يتامل في سلوك الكائنات الحية من حيوانات وطيور واسماك وحتى الكائنات الدقيقة التي لاترى الا بالمجاهر، وهو امر متيسر اليوم من خلال الافلام العلمية، يجد ان سلوكها في حماية نسلها وتنشئته ليس مما يتعلمه الكائن الحي بالمراس والتجربه، ولكنه داخلي المنشا والارجح انه مكتوب في حمضه النووي. وهو مايشير الى مهندس أعظم صممه على هذا النحو بهدف استمرارية دورات الحياة بمظاهرها المختلفة.

خصائص الأيديولوجيا:

وللأيديولوجيا مجموعة من الخصائص نوجزها فيما يلي:

مقدمات خاطئة ونتائج خاطئة

لما كانت طبيعية البناء المنطقي للغة وبالتالي للفكر، في شقيها التحليلي والتركيبي، قائمة في الأساس على قضايا منطقية ذات مقدمات، ثم نتائج مستخلصة من تلك المقدمات، فإنها تقبل مقدمات خيالية مصطنعة لا تستند إلى وقائع مادية، فتؤدي إلى نتائج مصطنعة بدورها. وهذه النتائج المصطنعة هي أحجار البناء التي تستمد منها الأيديولوجيا بنيتها.

الانجاز الفردي والتبشير

أن إبداع كل أيديولوجيا هو في الأصل إنجاز فردي بامتياز يضيف اليه آخرون فيما بعد، ذلك أن بنيتها لا يمكن أن تتكون في عقول متعددة منفصلة، لأنها لا تمتلك كلياً أو جزئياً ما يسندها في وقائع العالم المادي بحيث يصل إليها أناس متعددون في آن واحد دون أن يطلع أحدهم على عمل الآخر، بعكس ما هو الحال عليه في النظرية العلمية مثلاً.

أن كل أيديولوجيا لها طابع تبشيري وذلك فرع فرديتها، ولذلك كان التبشير طريقها إلى عقول الجماعة.

مخاطبة العواطف والغرائز والاهواء

أنها تستثير العواطف والغرائز والأهواء ولا صلة لها بالعلم المرتكز على الوقائع المادية.

ينتج عن هذه الخاصية أن الأيديولوجيا تنزع إلى الاستبداد لقطع دابر النقاش والمحاججة اللذان يهدمان أسسها، ولذلك فهي تسعى إلى التوحد بالسلطة، أو الانفراد بها، ومن ثم إضفاء القداسة على نصوصها تمهيداً لفرضها دون نقاش. ذلك لأن الإنسان اعتبر السلطة دائماً مصدراً من مصادر الحقيقة التي تتجاوز في معناها الصدق والكذب العاديين إلى المعرفة المطلقة بمعناها الفلسفي.

تساوي الايديولوجيات

لأن الأيديولوجيات كلها أفكار ذاتية وليست موضوعية، فإنها تقف أمام بعضها على قدم المساواة لافتقارها كلها إلى سند من العالم المادي الذي يستمد منه الإنسان فكره الموضوعي ببنيتيه المنطقية والتجريبية.

الايمان الاعمى والتطرف

إن كون الأيديولوجيا متساوية في عدم إمكانية الحكم بيقين على مصداقية أي منها، قد أدى إلى جعل الإيمان الأعمى والتطرف في هذا الإيمان أهم عامل لبقاء الأيديولوجيا وفرضها على الآخر.

الصراع

الأيديولوجيات التي لا تزال مشتبكة في صراع دائم منذ عرف الإنسان الأيديولوجيا،إنما يعمل كل منها كستار يغلف المطامع السياسية والاقتصادية لأتباعها.  ومع هذه العدوانية المتأصلة كان لابد أن يتصف أتباع كل أيديولوجيا بالتطرف وخاصة في مراحل الضعف والقوة.

ففي حالة القوة يقدم التطرف المبرر الأخلاقي لقتل وإلغاء الآخر أو استعباده واستتباعه.

وفي حالة الضعف يصبح التطرف وسيلة ناجعة لحماية الذات والحقوق والهوية التي يستهدفها العدو.

ومن ينظر في أحداث المائة السنة الأخيرة يجد أمثلة كبيرة وكثيرة. فمفكرو فرنسا (الأحرار) قاموا بتبرير المذابح التي قتلت ملايين الجزائريين على يد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي. كما برر مفكرو الغرب المسيحيون وغير المسيحيين إبادة الأجناس في استراليا وفي القارة الأمريكية. كما برر مفكرو بريطانيا الفظاعات التي ارتكبتها جيوشهم وإدارتهم في أرجاء الأرض، حتى عندما بلغت البشاعة بالبريطانيين إلى قطع الإصبع الإبهام من مئات الألوف من الفتيات الهنديات لمنعهن من غزل النسيج على أنوالهن المنزلية، حتى لا ينافسن بإنتاجهن إنتاج المصانع البريطانية التي تصدر النسيج إلى الهند، حسب ما جاء في كتاب الزعيم الهندي جواهرلال نهرو الموسوم (رسائل إلى ابنتي). وعندما قامت جيوشهم بالعدوان المسلح على الصين لفرض إلغاء القوانين التي أصدرها إمبراطور الصين بمنع تعاطي مخدر الأفيون الذي كانت تصدره بريطانيا وتحتكر تجارته في الصين. ثم يأتي ما نراه هذه الأيام من اعتبار الولايات المتحدة الأمريكية ودول الغرب عموماً العمليات الكفاحية إرهاباً مع أنهم يخوضون حرب تحرير وطنية ضد محتل شرس مسلح حتى الأسنان بالأسلحة الغربية، وفي الوقت ذاته اعتبار قتل الفلسطينيين بتلك الأسلحة الغربية الحديثة الفتاكة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي عملاً من أعمال الدفاع عن النفس.

لقد اتفق العرب والمسلمون معتدلوهم ومتطرفوهم على الكفاح المسلح ضد العدوان. والجميع على حق من حيث المبدأ وان كانوا يرتكبون اخطاء بشعة على المستوى العملاني دلالة غياب العقل والمنطق. لأن الغرب يظهر بممارساته أنه إرهابي ومتطرف، يمارس الكذب والغش والخداع مدعياً الاحتكام إلى القانون، ويمارس الجرائم ضد الإنسانية باسم حقوق الإنسان.

والغرب بسياساته هذه يخلق الإرهاب المضاد لإرهابه. وهو بتفوقه العسكري الكاسح، يجعل الحرب ضده خاسرة ما لم تخض بإحدى طريقتين على وجه الحصر أثبتت التجربة نجاعتهما. وهذان هما:

إما حرب العصابات في الأوطان المستهدفة باستخدام أسلحة ذات تقنيات منخفضة مع التعويض عن انخفاض التقنية باستعداد عالٍ للاستشهاد من أجل إيقاع الخسائر بالعدو. أو باستخدام سلاح غاندي الاكثر فعالية اللاعنف.

جعلت المنجزات العصرية في عالم الاتصالات من التبشير الأيديولوجي على النطاق العالمي عملاً ممكناً، وهو ما يهدد بالحروب العالمية التي يمكن أن تكون رد فعل على (عولمة العدوان). ولا يمكن تجنب هذا الخطر إلا بوجود توازن رعب حقيقي للقوى يمنع العدوان والاستكبار، وهو ما ظن العالم انه انتهى بنهاية الحرب الباردة، لكنه ظن خاطئ، لان الحرب الباردة تعود اليوم واطرافها متسلحون  بايديولوجيا متماثلة، هي في صميمها نزاعة الى الهيمنة والاستغلال.

 

2

الفلسفة والعلم

اسئلة السعي الى المعرفة

الرغبة في الفهم تثير لدى الانسان اسئلة هي على وجه الحصر : ماذا؟ واين؟ ومتى ؟ وكيف ؟ ولماذا؟

السؤا ل الاول ماذا؟ يهدف الى حصر موضوع البحث وتحديده.

السؤال الثاني اين؟ يهدف الى حصر مكان موضوع البحث وتحديده.

السؤال الثالث متى؟ يهدف الى حصر زمان موضوع البحث وتحديده.

السؤال الرابع كيف؟ يهدف الى حصر الكيفية اوالكيفيات المتعلقة بموضوع البحث وتحديدها.

السؤال الخامس لماذا؟ يهدف الى تحديد سبب او اسباب نشوء او وجود موضوع البحث وتحديده.

الاسس العامة للفلسفة الحديثة

تحتوي الاسس العامة للفلسفة الحديثة على ثمانية عناوين اساسية مركزية في المجال المعرفي (الابستيمولوجيا) التي تهتم بماهية المعرفة وكيف نعرف، ثم في مجال الطبيعة (الميتافيزيقيا) والتي تهتم بطبيعة الاشياء. وهذه العناوين هي:

الشك، والمعرفة، والفهم، والصفات الاولية والثانوية، والدافع، وحرية الارادة، والعقل والجسد، والهوية الشخصية.

سبعة من هذه العناوين تم تناولها بكثافة في القرنين 17،18، من قبل افضل العقول الفلسفية ولهذا يفضل استعراضها تاريخيا من خلال جدل الفلاسفة حولها، وواحد من هذه العناوين يرجع الى العصر الحديث المبكر.

 

نظرة تاريخية الى الفلسفة الاغريقية وتأثيرها

منذ وقت مبكر بدأت محاولات الفلاسفة الاغريق للوصول الى المعرفة باستخدام العقل بدلا من استقاء المعرفة من التقاليد والاساطير، وهي المحاولات التي منحتهم لقب الفلاسفة. وقد نشأت في بلادالاغريق مدارس فلسفية كثيرة، منذ ما قبل سقراط والاكاديمية الافلاطونية الشهيرة التي استمرت في النشاط لمدة 800 سنة. وقد اسس ارسطو مدرسته اللوسيوم، وكانت هناك المدرسة الاتيكيه نسبة الى اتيكا، ضمن مدارس كثيرة متنوعة. وكانت هناك ايضا مدرسة الشك، ذات الاثر الضخم في الفلسفة الحديثة، والتي اسسها بيرو الذي توفي عام 275 ق.م وكان يعتبر أشهر المتشككين ، فيما عرف بمذهب الشك. وقد تبعه في مذهبه الفيلسوفان كريتاديس وثيمون. وقد تأثرت المدارس الفلسفية الرومانية ثم الحديثة بمذهب الشك الذي أسسه بيرو، ذلك أن الشك دافع البحث ومنطلقه.

بيرو الذي ساح كثيرا في العالم وصحب الاسكندر المقدوني في حملته التي بلغت الهند أقام مذهبه على ملاحظة بسيطة مؤداها: ان الحدث الواحد أو الشيء الواحد يبدو لكل شخص بمظهر مختلف وهو ما يجعل معرفة وجهة النظر الصائبة أمرا متعذرا. وانه لما كنا غير قادرين على معرفة طبيعة الأشياء والأحداث فإن ذلك يقتضي منا التوقف والامتناع عن أي عمل يقوم على الجهل وانعدام المعرفة الحقيقية الموثوقة.

ولذلك فإن أفضل ما يفعله الإنسان هو العيش بهدوء وطمأنينة مبتعدا عن الضلالات التي تدعي معرفة الحقيقة وما تخلقه فينا من أوهام. وان على الإنسان أن يكبح رغباته حتى يتحرر من الشقاء الذي يسببه السعي إلى تحقيق الرغبات. 

تدمير المدارس الفلسفية والتراث الفلسفي

لسوء حظ الفلسفة تحولت الامبراطورية الرومانية الى المسيحية، ثم راى اباطرة روما المسيحية ان اغلاق المدارس الفلسفية واجب ديني واخلاقي، فتم تدمير الكثير جدا من المخطوطات الفلسفية الاغريقية، كما تم تدمير مكتبة الاسكندرية الشهيرة، وتم احراق عدد كبير جدا من الكتب، وبحلول العام 529 الميلادي تم اغلاق المئات من المدارس الفلسفية بما فيها اكاديميا افلاطون.

لم يتبق شئ من المخطوطات الاصلية لمدرسة الشك، ولم تصلنا الا مصادر ثانوية في ثلاثة كتب هي: كتاب سكيتوس امبريكوس شرح البيرونيه ، ثم كتاب ستروس اكاديمكا، وكتاب شابكل ديوجنس  لا يوستوس الذي استعرض الفلاسفة و ضمن كتابه بعض الصور القلمية عن حياتهم .    

حظي ارسطو، بسبب اثباتاته النظرية عن وجود الله، فيما كان يسميه المحرك الاكبر، بمكانة خاصة في الكتابات الكنسية . وقد كانت الكتابات المبكره لافلاطون معتمدة لدى الكنيسة، وظهرت بصماته على مؤلفات كنسية مثل القيامة و الابدية .

هذا المزج بين المسيحية والارسطية اصبح مسيطرا على المدارس الرهبانية القروسطية خاصة من خلال كبار المفكرين المسيحيين مثل توماس الاكويني،  وقد لعبت التصورات الفلكية دورا هاما في الفكر المسيحي القروسطي . فعالم ارسطو كان مكونا من العناصر الاربعه وهي الارض والماء والهواء والنار، واعتمادا على فلسفه ارسطو ظهرت المدرسه الاسكولائية المسيحية . نظرة ارسطو للعالم تقوم على ان الارض هي المركز محاطة بالماء ثم الهواء ثم النار ثم المريخ فالزهره ...الخ ؟ وفي نظرته للكون يوجد فرق كبير بين كل ماهو موجود اسفل مدار القمر والذي يعتريه التغير والزوال وكل ما نشاهده ونعانيه على الارض، وبين ما يوجد في القمر وما فوقه حيث كل ما هنالك يوصف بالكمال والجمال والثبات .

ثورة الشك:

بين العامين 1400 و1500 وعقود قليله بعدها ،حدثت امور غيرت كل شئ. حيث ظهرت بعض المخطوطات الاغريقية التي سلمت من التدمير، وذلك في العالم البيزنطي للامبراطورية الرومانية الشرقية في القسطنطينية، وبعض تلك المخطوطات كان العرب قد استجلبوها باثمان باهظة خاصة ضمن مشروع دار الحكمة التي انشاها الخليفة العباسي المامون، وتمت ترجمتها هناك الى العربية. ثم قام العثمانيون بغزو بيزنطة واحتلال القسطنطينية الامر الذي ادى خلال تلك الاحداث الى نزوح كبير لدارسي الفلسفه الى اوروبا ونقلوا معهم اليها ما تبقى من المخطوطات الاغريقية التي كانت محفوظة في بيزنطة. وقد سبق ذلك تعرف اوروبا على الترجمات العربية للفلسفة الاغريقية في الاندلس، والتي سقطت فيها آخر ممالك العرب في غرناطة بيد المسيحيين بالتزامن مع سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين.

وقد كان لاعادة اكتشاف هذه المخطوطات اثر عميق ومتفجر في اوروبا . وما ان حل العام 1415 الا وتم اكتشاف الطباعة لتجري ترجمة هذه المخطوطات الى اللاتينية التي كانت لغة العلم في اوروبا، ومن ثم طباعتها، فانتشرت بشكل واسع بين مثقفي اوروبا بسرعة كبيرة نسبيا، وعلى سبيل المثال، اكتشف كتاب لوكريشس طبيعة الكون عام 1417 وطبع في العام 1486 . وترجم كتاب اسكيتوس امبريكوس شرح البيرونية الى اللاتينية ونشر في العام 1562 .

وفي العام 1462 قام كريستوفر كولومبوس بالابحار لاكتشاف طريق جديدة الى الهند ولكنه اكتشف العالم الجديد. واحدث اكتشاف امريكا ثوره اقتصادية بتدفق الفضه الى اوروبا، واحدث ذلك تغيرات عظيمة في الاوضاع الاجتماعية والفكرية.  فلقرون اعتقد الاوروبيون ان كل الحقيقه موجوده بين الانجيل وارسطو، وفجاه يظهر عالم جديد لم يكن معروفا للانجيل ولا لارسطو، وكان اكبر مثال على ذلك خريطه العالم الشهيره مات موندي والتي ترجع الى العام 1290 ، وكانت قد رسمت بناء على كتاب اروزيس تلميذ القديس سانت جستن . وكانت الخريطه تعرض العالم باكمله وفي المركز منه تقع القدس او بيت المقدس، تماما كالعالم الذي يريد المسلمون اعاده بنائه اليوم وفي مركزه مكة او الكعبة . ولكن الماساة كانت انه لم يكن في خريطة مات موندي اي شئ عن العالم الجديد، وهكذا دواليك في كل فروع المعرفة الطبيعية التي تناولها ارسطو وتبنتها الكنيسة، فظهر كذبها وخطؤها وانهارت دفعة واحدة.

وهنا انتصر مذهب الشك البيروني وبدأت عملية بناء المعرفة في كل مجال من جديد، حيث تسير الفلسفة يدا بيد مع العلم التجريبي وخطوة مع خطوة لبناء معرفة موثوقة الى اقصى حد ممكن . ولكن المسلمين ظلوا بعيدين عن اعادة النظر الجذرية هذه، اذ بقي نقد النصوص والروايات المقدسة محرما حتى يوم الناس هذا تحت طائلة الموت، لتصاب امة كاملة بانفصام الشخصية. واعيق تطورها العلمي والمعرفي والحضاري لذات السبب. والنظر الى المفارقات التي جرت وادت الى قوة العلم والفلسفة في الغرب وتخلفهما في العالم الاسلامي تثير الحزن. 

فقد شهد العالم في عصر النهضة متغيرات كبرى في اوروبا، حيث جرى فصل اللاهوت عن الفلسفة على يد الاصلاح الديني فانحسرت السلطة الكنسية وحدثت نهضة علمية قوامها البحث التجريبي، الى جانب الثورة الادبية والفكرية والفنية. فالأرض لم تعد مركز العالم واصبح الاستقراء طريق المعرفة في مجال الطبيعة، واشار جاليليو الى ضرورة بناء العقل على اساس الملاحظة و التجربة واستخلاص القوانين العامة من الحوادث الجزئية. وفي نهاية القرن السادس عشر طرح الفيلسوف الايطالي جيوردانو برونو نظريته في ان الكون لا نهائي من حيث الزمان والمكان، وان المنظومة الشمسية ليست اكثر من عالم بين عوالم كثيرة تفوق الحصر، وان عناصر الكون مادية وروحية لا تولد ولا تموت بل تتصل وتنفصل وتتفاعل مع بعضها. وان الله لم يخلق العالم بفعل خيار حر بل نتيجة لضرورة باطنية وهو ما قاله ابن عربي بالنص عندما قال ان الله احب ان يخلق الخلق فتنفس النفس الرحماني واوجد البرزخ الذي وجدت فيه الممكنات. وفي الحديث القدسي "كنت كنزا مخفيا.. فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني" ويضيف برونو ان الله حاضر في الاشياء حضور الوجود وفي هذا الكون اللامتناهي ويعتبر الموت غير ممكن لان كل الموجودات لا تدمر ولا تفنى بل تخضع لعملية التغير، فالموت تعبير غير صحيح لان العدم في مفهومة المطلق غير موجود، وكل شيء موجود في الكون والكون موجود في كل شيء وان تزامن الاشياء في وحدة شاملة يجعل من كل حالات التغير شرطا لوجود حقيقي ثابت وغير متناه (قصة الفلسفة الحديثة)

وفي العالم الاسلامي سارت العملية باتجاه عكسي فبدلا من انفصال الدين أو اللاهوت والفلسفة وان يمضي كل في طريقه فقد تم قمع الفلسفة لصالح الدين منذ ان كتب ابو حامد الغزالي كتابه تهافت الفلاسفة فتم قمع الفلسفة والعلوم وانسدل ظلام كثيف على هذا العالم الاسلامي لا يزال مرخيا سدوله حتى يوم الناس هذا.