قراءة في ديوان رياح الذات / لفيلسوف الزجل ..احمد طه السبتي

_________         

   قطعت القصيدة الزجلية بالمغرب مراحل مختلفة, وتميزت كل مرحلة بحساسية خاصة على مستويي الشكل والمضمون؛ ذلك أن الغنائية الرومانسية قديما جعلت الزجل وسيلة ترويح عن النفس وأداة لاستمتاع النخب وأهل السلطة والجاه قبل أن ينتشر مفهوم المثقف العضوي, فيدرك الزجال أنه معني بما يتحرك حوله من وقائع, وأن عليه الانخراط في الصراع الواقعي وتبني موقف حياله.

    غير أن تبني أي موقف من الواقع سيصطدم بأكثر من سبب للهزيمة, لذلك ارتأى الزجال المغربي المعاصر أن يجسِّر الهوة بينه وبين ذاته أوّلا حتى يتسنى له إدراك عمق المأساة في الوجود, ويكون الموقف عميقا أيضا.

    انطلاقا من هذا الوضع تبدو الكتابة عن الذات ورياحها مرتبطة عضويا بالإبداع المعاصر, كما أنها تنطوي على رغبة جامحة في توريط الذات داخل مستنقع العواصف لعلّها تتطهر قبل وعي الوجود أو مواجهته.

    ومن التجارب الزجلية التي أسلمت ذاتها للرياح منذ عنوان الأضمومة الشاعر أحمد السبتي الذي يشير إيقاعُ التطور في قصائده إلى نوع من الحماس في إثبات الذات إبداعيا. والمؤكد أن "رياح الذات" كعنوان للأضمومة يشير إلى إسلام هذه الذات لعوامل الطبيعة العنيفة, لأن إجراءً بهذه الجرأة والمغامرة وحده قمين بصَقل الذات وفرز الجوهر الأصيل  فيها من العارض الزائف. غير أن تجربة الصقل عبر الديوان لم تتم دون حمل الذات على مكابدة الوجع؛ أو لنقل دون أن تعذِّب الذات نصفها:

                              " اللابساني ذات

                                غبار نافضاني" ص7

أو تعذّبها العملية الإبداعية:

                            " ترضعني الحروف سؤال

                              ترميني عظم..." ص10

  بعد إعلان هذه المغامرة التي يفضّل الشاعر أحمد السبتي ركوبها, يمكن 

استجلاء بعض ملامح الأدبية في ديوان "رياح الذات"

   _ الوعي بازدواجية الذات:

  ساد الاعتقاد في الفكر الفلسفي منذ الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى بأن الذات كلٌّ متكامل, وأن الانسجام متحقق, وأن الذات تسيطر على كليتها وتُخضع هذا الكل لمشيئتها الخاصة, بيد أنّ كشوفات التحليل النفسي ستنتهي إلى تدمير هذا الاعتقاد, حيث اقرّ فرويد  S.Freud  أن ما كان يُنظر إليه كوحدة أصبح مثار شك وانتقاد, فالذات لا مركز لها وإنما هي الهو والأنا والأنا الأعلى, وفي كل مرة تكون السيطرة لأحد هذه الأطراف الثلاثة. ويحضر هذا الوعي بتعدد الذات وانقسامها على نفسها داخل الديوان ليشكل أحد المداخل الكبرى لفهم العذاب الداخلي:

                           " نقيس البعاد اللي بيني وبين راسي

                             بين عقلي...وحسي...

                             روحي...ونفاسي

                            ولآخر من نصي" ص33

  بل إن كل محاولة لكشف هذا الآخر في الذات لابد أن تدعو الذات إلى تكبّد المعاناة:

                          " نهجر حيرة السؤال

                           نجني عروقي من نبض الوهام...

                          نركب جنون الخيال" ص33

    ويظهر من خلال هذا المقطع أن من مسارات العذاب أيضا دهاليز السؤال,     وهو ما يجعل السؤال محدِّدا لبنية أخرى داخل الديوان.

  _ بنية الاستفهام:

  باستثناء قصيدة "سر المداد" لا تخلو أي قصيدة داخل الديوان من حرقة السؤال, وهو ما يجعل السؤال هاجسا بالنسبة للشاعر وحامل بنية داخل الديوان, كما ينطوي هذا الاحتفاء بالسؤال على إدراك لقيمته في بناء المعرفة لأن " أهم شيء في الجواب يرد سابقا في السؤال"[1]. وإذا استحضرنا أن الأسئلة التي يطرحها الشاعر مرتبطة أساسا بماهية الذات وكينونتها[2] اقتنعنا بأن محاولة إدراك هذه الماهية في غياب بنية الاستفهام لن يقود إلى شيء ذي بال.

_   بنية الرؤيا:

  تجاوز الشعر المعاصر الرؤية الأفقية للعالم, لأنها تحيل الوجود إلى مشهد ريفي أو منظر طبيعي, وعمل على اقتحام الرؤيا بما تحمله من دلالات الدهشة واللايقين. ومصدر هذه الرؤيا لن يكون بالتأكيد عينا رائية ولا أذنا سامعة ولا أي بعد حسي, بل مصدر الرؤيا النافذة التي تتغيا كشف وجه العالم المخبوء[3] هو البصيرة الكامنة في الروح تحديدا. لذلك انتبه الزجال أحمد السبتي إلى قيمة هذه النافذة لأنها أكثر اقترابا من العوالم التي يحاول كشفها:

                        " نطل من عين الروح

                         نحقق النظرة اكثر" ص 21

  وكلما اقتربت الذات من موضوع كشفها بدت لها الهوة واسعة بين ما تكشفه وبين الوسائل المتحققة لديها فنيا, لأن المعاني تتسع باستمرار وتظل العبارات عاجزة. ولمواجهة هذه الحالة الإبداعية المُرْبكة توسل الزجال بأساليب فنية من جنس القلق ذاته, فهو يميل إلى الجمع بين أعناق المتنافرات ليقينه باقتراب هذه التقنية من عوالم الرؤيا:

                        "نطلع... التحت...التحت

                       نهبط...الفوق...الفوق"ص

  إن الصعود يستحيل أن يكون في اتجاه الأسفل, ومسار الهبوط هو الأسفل دائما, ولا يمكن أن يحدث العكس وتتلاقى الأضداد إلا في الإبداع الذي يستبطن الشحنات العاطفية ذات المنطق والقانون الخاصّيْن بها " لأن منطق العواطف لا يتحرّج من قبول التناقض...بل إن التناقض هو قانون الحياة العاطفية"[4]

  تداخل الأزمنة:

  رغم إنجازات الإبداع الحداثي فإنه لم يجد صيغة مناسبة للتفاعل مع تيمة الزمن, ولعل ذلك راجع بالأساس إلى استمرار النظر إلى الزمن في ابعاده الخارجية فحسب. ولما تواترت هذه الأشكال القاصرة في التعامل مع الزمن أصبحت المناداة بتجاوز الزمن الخارجي, وتجاوز الحداثة ذاتها, ما دامت تستمد شرعيتها من استمرار الانشغال بالزمن الخارجي وتكتفي بالاشتغال في إطاره. وتستوقفنا بعض المقاطع أثناء قراءة ديوان "رياح الذات" لأنها تعاملت بجرأة سيكولوجية مع الزمن:

                                  "و انا فايق شفت ف فياقي

                                    خير وسلام

                                    الحاضر غادي اللور

                                    و الماضي راجع القدام...القدام"

    إن هذا المقطع من قصيدة "عين العقل" يقف عند المنطقة الحدودية بين الحداثة وما بعد الحداثة,و" لعل أقرب المداخل إلى رسم الحدود بين الحداثة وما بعد الحداثة هو مفهوم "الزمن"؛ فهو في "الحداثة" ذو أبعاد خطية وتقدمية, وهو في "ما بعد الحداثة" عبارة عن شبكة مجردة, ناظمة ودالة, تذوب فيها الحدود بين الماضي والحاضر والمستقبل"[5]

   كتابة الوثبة:

  تختلف الدراسات حول الطريقة التي يتعامل بها الشاعر مع ما يحس به, وكيف ينقله من مجال الإحساس على مجال الكتابة, وحين نقرأ مقطعا آخر داخل الديوان, نجد إمكانية الجواب على هذا السؤال, في تجليه عند الزجال أحمد السبتي:

                                    "دم طاعن دم...

                                     دم واكل دم...

                                    دم موسد شطابة..."ص 17

  إن هذا المقطع لم يُكتب, بالتأكيد, سطرا سطرا, وإنما هي لحظة تدفق شعوري تثبت أن "الشاعر لا يبدع القصيدة بيتا بيتا, بل يبدعها قسما قسما, فهو يمضي في شكل مجموعة من الأبيات دفعة واحدة, أو تنساب هذه المجموعة دون أن يوقف الشاعر قليلا أو كثيرا"[6] 

نرجَسَة الحقيقة:

غالبا ما ترتبط النرجسة بحب الذات. وهذا ما أثبتته أسطورة نرسيس وزكّاه التحليل النفسي الفرويدي. لكن التعلق بالذات قد يكون له بعد آخر نلمسه حين تؤمن الذات بأنها محور الحقيقة. وهنا يظهر انسجام النظرية الفرويدية. لكن حينما تغدو الحقيقة مستورةً، من دونها ألف حجاب تُدعى الذات إلى تحمّل شتى أشكال العذاب، أي بدل أن تكون مركز الحقيقة ومركز الكون تتحوّل الى كتلة تتلقى العذاب من كل جانب، وكأن بها مخاضا يسبق ولادة الحقيقة من رحم التيه:

"عافني عقلي وهجر

                        بعد ما صار راسي قبر

                        حلمت كيف تشهاني ترابي نكون

                        علقتْ كمامس حروفي على كتافي

                       شديت شعاب وعقاب المعاني

                       ...

                       من شافك يا عقلي تنوّرني

                      نخرج من تيه السؤال" ص 26ـ 27

_نزيف السؤال:

تتناسل الأسئلة عند الشاعر أحمد السبتي من حقيقة واحدة هي الموت، لكن الموت يتجاوز بُعده الواقعي فيصير محرّكا لفاعلية الكشف والتساؤل مع ما تستقطبه هذه الفعالية من مكابدات وعذاب:

"ما يكونش ضيّعنا الطريق

                     والوقت هرب علينا؟

                     قال: صدفة هو الموت

                                 غفلة...رحيل..؟

وإذا انطلقنا من هذا الأصل الأنطولوجي فإننا نعتبر الذات معادلا إبداعيا للأصل الأنطلوجي (الموت)، وذلك حين يعترف الشاعر بأن الأسئلة تتناسل منه، وهي أسئلة مشدودة إلى أصل التكوّن وإلى زمن البداية؛ فكأنّي بهذا الشاعر عن تقويم جديد للنشأة والخلق:

"مني نفيق سؤال

                     واش يكون آدم من يدّه ضيّع الحقيقة

                    ومسك التفاحة؟"

كما أن الشاعر في أُتون بحثه عن جواب لحقيقة الموت يعلن طلاقه للماضي، ويمزّق جلباب الأب:

"شكون أنا؟

                    أنا النّافض غبار الماضي"

ولا غرو في هذا الإعلان، لأن أحمد السبتي من سُلالة الزجالين الذين يستندون أساسا إلى رصيدهم المعرفي الخاص. وإن تأثروا فإنّما يتأثرون بالكتابة ما بعد الحداثية، وخير نموذج لهذه الكتابة في الزجل المغربي هو الشاعر إدريس أمغار مسناوي الذي متح منه أحمد السبتي وأضاف، كما متح منه آخرون. غير أن تفاعل السبتي مع الزجال إدريس مسناوي من التقليد نحو الحوار.

الإرجاء المستمرّ:

يبدو الشاعر أحمد السبتي مهيّأً لمزيد من المكابدة بحثا عن حقيقته أولا، ثم عن حقيقة الوجود بعد ذلك. والحقيقة المبحوث عنها ليست عادية؛ إنها حقيقة متابّية متمنعة...مستحيلة مادام مصدرها هو:

"يمتى تولدني الحقيقة من عقر السؤال؟"

وفي انتظار الإجابة على هذا السؤال/الولادة يكذِّب الشاعر كل من توهّم مصادفته أو ملاقاته في الواقع الخارجي، إنه يعلن إرجاءَ وجوده وملازمته لفعل الكتابة:

"يلا قال شافني فيها كذب

                  أنا غير وجع القصايد

                  وحرف باقي ما تُّولد".

                                                                                        الدكتور: خالد المساوي 


'[1]' - G.Gennette "Figures 1", Coll."Tel Quel" aux éditions du Seuil 1966; P138

'[2]' ـ يحضر هنا مقطع من داخل الديوان, يُخضع فيه الزجال كوجيطو ديكارت بدوره للشك والمساءلة:

      "أنا نفكر

       واش أنا موجود ف كياني". ديوان" رياح الذات" ص6

'[3]' ـ أدونيس : " زمن الشعر" دار العودة, بيروت. الطبعة الثانية 1978, ص: 9 و 10

'[4]' ـ مصطفى سويف: "الأسس النفسية للإبداع الفني, في الشعر خاصة",منشورات جماعة علم النفس التكاملي , إشراف الدكتور يوسف مراد. دار المعارف.الطبعة الرابعة 1950. ص : ك

'[5]' ـ عبد الواحد المرابط "السيمياء العامة وسيمياء الأدب ـ من أجل تصور شامل",الدار العربية للعلوم, ناشرون. منشورات الاختلاف. الطبعة الأولى 2010م.ص 37

'[6]' ـ مصطفى سويف "الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة" ص 276