صلح الحديبية
صُلْحُ ٱلْحُدَيْبِيَةِ (بتخفيف الياء[1][2][3]) صلحٌ عُقد قربَ مكةَ في قرية الحديبيَة على طريق جدة القديمة، وتُسمىٰ اليوم: الشُّمَيسيّ،[4][5] وكان سنةَ 6 هـ في ذي القَعدة (مارِس 627 م)، بين المسلمين ومشركي قريش، وعليه عُقدت بينهما هدنة مدتها عشر سنوات، فما لبِثَوا أنْ نقضوا الهدنة؛ لاعتداء بني بكر بن عبد مناة من كِنانة على بني خزاعة.
بداية الأحداث
عدلالرؤيا
عدلرأى النبي في منامه أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، فقال لهم: إني قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رؤوسكم ومقصرين.[6] وقص النبي رؤياه على أصحابه فاستبشروا بها وعبروها أنهم داخلون إلى مكة بعمرتهم التي خرجوا لأجلها.[7] فلما جرى الصلح وتأهب الناس إلى القفول أثار بعض المنافقين ذكر الرؤيا فقالوا: فأين الرؤيا فو الله ما دخلنا المسجد الحرام ولا حلقنا وقصرنا. فنزلت الآية تصديقًا لرؤيا النبي: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ٢٧﴾ [الفتح:27]، وتأويلها دخول النبي مكة في عمرة القضاء في العام التالي لصلح الحديبية.[6]
التحضير للخروج
عدلأمر النبي أصحابه باتخاذ الاستعدادات لأداء مناسك العمرة في مكة، بعد أن رأى في منامه أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، واستنفر النبي العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، ساق معه الهدي وأحرم بالعمرة لتعلم قريش أنه خرج زائرًا للبيت الحرام.[8] فأسرعوا وتهيأوا ودخل النبي بيته فاغتسل ولبس ثوبين وركب راحلته القصواء وخرج. فخرج منها يوم الاثنين غرة ذي القعدة سنة 6 هـ، ومعه زوجته أم سلمة، ونحو 1400 أو 1500 من الصحابة،[9] ولم يخرج بسلاح، إلا سلاح المسافر (السيوف في القُرُب)، وساق معه 70 بدنة.[10] فيها جمل أبي جهل الذي غنمه يوم بدر. وأحرم ولبَّى وقدم عباد بن بسر أمامه طليعة في عشرين فرسًا من خيل المسلمين.[9] واستخلف على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي[8] وقيل: استخلف عبد الله بن أم مكتوم.[11][9]
وكان الرسول يخشى أن تتعرض له قريش بحرب أو يصدوه عن البيت الحرام، واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج النبي بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له.[12]
ونزلت الآيات عن تخلف الأعراب في سورة الفتح، قال الله تعالى:[13] ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ١١ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ١٢﴾ [الفتح:11–12]. وقد ذكر مجاهد أن الأعراب الذي عنتهم الآية هم أعراب جهينة ومزينة،[13] وذكر الواقدي أن الأعراب الذين انشغلوا بأموالهم وأولادهم وذراريهم هم أعراب المدينة من غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع وبني الدئل.[14]
بينما حضر الحديبية بعض من قبائل الأعراب، فحضر زيد بن خالد الجهني من جهينة، وخرج مع النبي من أسلم مائة رجل منهم مرداس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفى وزاهر بن الأسود، وأهبان بن أوس، وسلمة بن الأكوع، ومن غفار خفات بن أيماء، ومن مزينة عائذ بن عمرو. وتخلف عن الخروج معه معظمهم، وأعدوا للمعذرة بعد رجوع النبي أنهم شغلتهم أموالهم وأهلوهم، فأخبر الله رسوله بما بيِّتوه في قلوبهم وفضح أمرهم من قبل أن يعتذروا.[15]
استشارة النبي أصحابه
عدلجاء في كلا من صحيح البخاري،[16] ومسند أحمد،[17] أن النبي لما وصل بغدير الأشطاط أتاه أحد عيونه، قال: «إن قريشا جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت، ومانعوك.».[16] فاستشار أصحابه هل يخالف الذين نصروا قريشًا من الأحابيش إلى مواضعهم فيسبي أهلهم،[18] فإن جاؤوا إلى نصرهم اشتغلوا بهم، وانفرد هو وأصحابه بقريش، حيث قال النبي لأصحابه: «أشيروا علي أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم -أي الأحابيش- فنصيبهم، فإن قعدوا، قعدوا موتورين محروبين، وإن يجيئوا تكن عنقا قطعها الله، أو ترون أن نؤم البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه؟». فقال أبو بكر: «يا نبي الله إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ نقاتل أحدًا، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه.».[17] فقال النبي: «امضوا على اسم الله».[16][19]
الوصول إلى الحديبية
عدللمّا علمت قريش بذلك، قررت منعه عن الكعبة، فأرسلوا 200 فارس بقيادة خالد بن الوليد للطريق الرئيسي إلى مكة. ولما وصل النبي لعسفان لقيه بشر بن سفيان الكلبي وأخبره بجيش قريش.[9] وجاء في صحيح البخاري أن النبي أخذ طريقًا آخر فلم يلحظه خالد وجنده.[20]
وذكر محمد بن سعد البغدادي وغيره في ذلك تفصيلًا أن خالد بن الوليد دنا في خيله حتى نظر إلى أصحاب رسول الله، فأمر النبي عباد بن بشر أن يأخذ فرسان المسلمين ويقيم إزاء خالد بن الوليد ومن معه. وصف أصحابه، وحانت الصلاة وصلى النبي بأصحابه صلاة الخوف.[9] فقد أخرج أحمد في مسنده، [21] وأبو داود في سننه، [22] عن أبي عياش الزرقي قال:[21]
كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعسفان، فاستقبلنا المشركون، عليهم خالد بن الوليد، وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا رسول الله الظهر، فقالوا -أي خالد بن الوليد والذين معه من المشركين-: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم. ثم قالوا: تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآيات بين الظهر والعصر: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ١٠٢﴾ [النساء:102]. فحضرت صلاة العصر، فأمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخذوا السلاح، فصففنا خلفه صفين، ثم ركع، فركعنا جميعا، ثم رفع، فرفعنا جميعا، ثم سجد النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسون، فلما سجدوا وقاموا، جلس الآخرون، فسجدوا في مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ثم ركع، فركعوا جميعا، ثم رفع، فرفعوا جميعا، ثم سجد النبى -صلى الله عليه وسلم- والصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلس، جلس الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم، ثم انصرف. |
فهذه أول صلاة خوف صلاها المسلمون، وهو الذي جزم به ابن حجر في فتح الباري بأن أول صلاة خوف صلاها المسلمون كانت في الحديبية.[22]
فلما جاء المساء، اتخذ النبي طريقًا آخر، وكان دليله في هذا الطريق حمزة بن عمرو الأسلمي. وسار النبي بأصحابه حتى دنا من الحديبية.(1)[9] وهي بئر طرف الحرم على تسعة أميال من مكة، سُمي المكان باسمها؛ وهي قرية متوسطة ليست بالكبيرة وبينها وبين مكة مرحلة وبينها وبين المدينةِ تسع مراحل وبعضها في الحل وبعضها في الحرم.[11]
وبركت ناقة النبي قرب الحديبية ناقة النبي وأبت أن تنبعث. فقال المسلمون: «خلأت القصواء». فقال النبي: «إنها ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل. أما والله لا يسألوني اليوم خطة فيها تعظيم حرمة الله إلا أعطيتهم إياها». ثم زجرها فوثبت، فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء.[9][20] فلما نزل المسلمون بجانب البئر، لم يجدوا ماءً به، فأخرج النبي سهمًا من كنانته، فأعطاه رجلًا من أصحابه، فغرزه في البئر، فتدفق الماء وهم جلوس على شفير البئر. وأمطرت السماء بالحديبية مرارًا وكثرت المياه.[9][23]
وقد ذكر ابن إسحاق أن قريشًا كانوا بعثوا أربعين رجلًا منهم أو خمسين رجلًا، وأمروهم أن يطيفوا بمعسكر المسلمين، ليصيبوهم فرموهم بالحجارة والنبل، فأسرهم المسلمون، فعفا عنهم النبي، وخلى سبيلهم.[24]
ذكر ابن إسحاق أن النبي دعا خراش بن أمية الخزاعي، فبعثه إلى قريش بمكة، وحمله على بعير له، ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل النبي، وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش، فخلوا سبيله، حتى رجع إلى النبي.[24]
إرسال عثمان إلى قريش وبيعة الرضوان
عدلأراد النبي أن يبعث أحد الصحابة للتفاوض مع قريش على دخول مكة للعمرة، فدعا عمر بن الخطاب، ولكن عمر قال: «إني أخاف قريشًا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان»، فدعا النبي عثمان بن عفان، فانطلق عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص وأجاره في بيته، وذهب عثمان إلى أبي سفيان بن حرب وأشراف مكة يخبرهم أن المسلمين لم يأتوا لحرب وإنما جاءوا زائرين للبيت الحرام، فقالوا لعثمان: «إن شئت أن تطوف بالبيت فطف». فقال: «ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم»، فاحتبسته قريش عند ذلك ثلاثة أيام، فبلغ المسلمين أن عثمان قد قتل.[25] وقيل: أن عثمان بن عفان دخل مكة ومعه عشرة من الصحابة ليزوروا أهاليهم ولم يذكروا أسماءهم، فلما احتبست قريش عثمان عندها ثلاثة أيام، أشاع الناس أنهم قتلوه.[11]
فعندئذٍ قال النبي للصحابة: «لا نبرح حتى نناجز القوم»،[25] ودعا المسلمين إلى البيعة على القتال حتى الموت، وأمر عمر بن الخطاب أن ينادي الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، وكانت البيعة كما قال سلمة بن الأكوع على عدم الفرار وأنه إما الفتح وإما الشهادة،[26] وكان الناس يقولون أن البيعة كانت على الموت، وكان جابر بن عبد الله يقول: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على أن لا نفر.»[25]
كان عدد المبايعين في ذلك اليوم يُقدَّر بحوالي ألف وأربعمائة من الصحابة،[9][27] كما يعدّ علماء المسلمين عثمان بن عفان ممن حضر البيعة؛ لأن النبي بايع عنه، فوضع يده اليمنى على اليسرى وقال: «اللهم هذه عن عثمان.».[26] ثم علم المسلمون أن خبر مقتل عثمان كان باطلًا، وكانت البيعة سبب من أسباب صلح الحديبية، فلما علمت قريش بهذه البيعة خافوا وأشار أهل الرأي فيهم بالصلح.[26]
المفاوضات
عدلجاء النبي بديل بن ورقاء ونفر من خزاعة ناصحين له، فقال لهم النبي «إنّا لم نجيء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرّت بهم، فإن شاءوا ماددتهم، ويخلّوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جَمُّوا، وإن هم أبَوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذنّ الله أمره».[20] فعادوا إلى قريش موصلين تلك الرسالة.[11]
فبعثت قريش الحليس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة وحلفاء قريش فلما رآه الرسول قال: «إن هذا من قومٍ يتألّهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه»، فلما رأى الحليس بن علقمة الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى الرسولِ محمدٍ إعظامًا لما رأى، فقال لهم ذلك، فقالوا له: «اجلس، فإنَّما أنت أعرابيٌّ لا علمَ لك»، فغضب عند ذلك الحليس وقال: «يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيُصَدُّ عن بيت الله من جاء معظِّماً له؟ والذي نفس الحليس بيده، لَتَخلنَّ بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرنَّ بالأحابيش نفرة رجلٍ واحد»، فقالوا له: «مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به».[11][28][29]
ثم بعثت قريش عروة بن مسعود الثقفي، ليفاوض المسلمين، فأعاد النبي عليه نفس العرض، فقال عروة: «أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخرى، فإني والله لأرى وجوها، وإني لأرى أشوابًا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك.»، فقال أبو بكر الصديق: «امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟»، فقال: «من ذا؟» قالوا: «أبو بكر»، قال: «أما والذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك». وجعل يكلم النبي، فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي ضرب يده بنعل السيف، وقال له: «أخر يدك عن لحية رسول الله»، فرفع عروة رأسه، فقال: «من هذا؟» قالوا: «المغيرة بن شعبة»، فقال: «أي غدر» - يعيِّره، حيث كان المغيرة قد غَدَرَ بقومٍ في الجاهلية - ثم أسلم بعد ذلك. وظل عروة يرمق أصحاب النبي بعينيه، ثم عاد لمكة قائلاً: «أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيتُ ملكًا يعظّمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا، والله ما تَنَخَّمَ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيمًا له، وقد عرض عليكم خطة رُشْدٍ فاقبلوها.».[20]
فبعثت قريش رجلًا من بني كنانة، فلما رآه النبي مقبلًا، قال: «هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له». فبعثت له، واستقبله الناس يُلبّون، فلما رأى ذلك قال: «سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت»، فلما رجع إلى أصحابه قال: «رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت». ثم بعثت قريش مكرز بن حفص بن الأخيف، فلما رآه النبي مقبلًا قال: «هذا مكرز، وهو رجل فاجر»ـ فكلمه بنحو مما كلم به صاحبيه.[20]
الصلح
عدلبعثت قريش سهيل بن عمرو، فقال النبي: «لقد سهل لكم من أمركم». فقال سهيل: «هات اكتب بيننا وبينكم كتابًا»، فدعا النبي الكاتب، فقال النبي: «بسم الله الرحمن الرحيم». قال سهيل: «أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب»، فقال المسلمون: «والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم»، فقال النبي: «اكتب باسمك اللهم». ثم قال: «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله». فقال سهيل: «والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله»، فقال النبي: «والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله». فقال له النبي: «على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به». فقال سهيل: «والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل»، فكتب، فقال سهيل: «وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا». قال المسلمون: «سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلمًا»، فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: «هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي»، فقال النبي: «إنا لم نقض الكتاب بعد». قال «فوالله إذا لم أصالحك على شيء أبدا»، قال النبي: «فأجزه لي». قال: «ما أنا بمجيزه لك»، قال: «بلى فافعل». قال: «ما أنا بفاعل»، قال مكرز: «بل قد أجزناه لك»، قال أبو جندل: «أي معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون ما قد لقيت؟» وكان قد عذب فقال عمر بن الخطاب: «فأتيت نبي الله فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري. قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام. قال: قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به. فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقا، قال بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل، إنه لرسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق؟ قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به، قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به. فعملت لذلك أعمالًا».[20]
نص الصلح
عدلذكر أهل السير أن علي بن أبي طالب هو كاتب الصلح، وحسب رواية ابن إسحاق فإن نص الصلح كان:[30]
هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عيبة مكفوفة،(2) وأنه لا إسلال ولا إغلال،(3) وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. |
ودخلت قبيلة خزاعة في عهد محمد ﷺ، ودخل بنو بكر بن عبد مناة من كنانة في عهد قريش.
فلما فرغ من قضية الكتاب، قال محمد ﷺ لأصحابه: «"قوموا فانحروا، ثم احلقوا، وما قام منهم رجل، حتى قالها ثلاثا. فلما لم يقم منهم أحد، قام ولم يكلم أحداً حتى نحر بدنه ودعا حالقه؛ فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غما"».
وافق الرسول على شروط المعاهدة، التي بدا للبعض أن فيها إجحافا وذلاً للمسلمين، ومنهم عمر الذي قال للنبي ﷺ: (ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟، قال ﷺ: بلى، فقال: فَلِمَ نعطي الدنية في ديننا إذاً؟)، لكن الرسول كان مدركا وموقنا أن هذا الصلح سيكون فاتحة خير وبركة على المسلمين. ثم انصرف رسول الله قاصدا المدينة.[31]
أنزل الله على نبيه سورة الفتح، في طريق عودته للمدينة المنورة، والمسلمون في هم وغم، وقد حيل بينهم وبين نسكهم، فانقلبت كآبتهم فرحا وسرورا، وأدركوا أن التسليم لأمر الله ورسوله فيه كل الخير لهم ولدعوة الإسلام.[32][33]
هوامش
عدل1 الحديبية هي بئر سُمي المكان باسمها؛ وهي قرية متوسطة ليست بالكبيرة وبينها وبين مكة مرحلة وبينها وبين المدينةِ تسع مراحل وبعضها في الحل وبعضها في الحرم.[11] وقيل شجرة جدباء صغرت وسمي المكان بها. قال المحب الطبري: الحديبية قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم.[18]
2 أي صدور منطوية على ما فيها، لا تبدي عداوة، وضرب العيبة مثلًا.[30]
انظر أيضًا
عدلالمراجع
عدل- ^ تثقيف اللسان وتلقيح الجنان ١/٢٠٨ — ابن مكي (ت ٥٠١)
- ^ المصباح المنير في غريب الشرح الكبير [١/١٢٣] — الفيومي (ت نحو ٧٧٠)←(ح د ب)
- ^ تاج العروس من جواهر القاموس [٢/٢٤٦] — مرتضى الزَّبِيدي (ت ١٢٠٥)
- ^ "مسجد الشميسي. شهد أهم معاهدة في التاريخ الإسلامي - البيان". www.albayan.ae. مؤرشف من الأصل في 2018-02-23. اطلع عليه بتاريخ 2019-12-01.
- ^ أشهر، محمد أبوبكر المصلح منذ 9 (21 مارس 2019). "دلالة قوله تعالى { ببطن مكة } [الفتح : 24]". IslamOnline اسلام اون لاين. مؤرشف من الأصل في 2019-03-22. اطلع عليه بتاريخ 2019-12-01.
{{استشهاد ويب}}
: صيانة الاستشهاد: أسماء عددية: قائمة المؤلفين (link) - ^ ا ب الطبري (2010)، ج. 22، ص. 258.
- ^ ابن عاشور (1984)، ج. 198، ص. 26.
- ^ ا ب ابن كثير (1997)، ج. 6، ص. 207.
- ^ ا ب ج د ه و ز ح ط ابن سعد (1990)، ج. 2، ص. 73.
- ^ ابن هشام (1955)، ج. 2، ص. 309.
- ^ ا ب ج د ه و رشيد رضا (1949)، ج. 1، ص. 414.
- ^ ابن هشام (1955)، ج. 2، ص. 308.
- ^ ا ب الطبري (2010)، ج. 22، ص. 211، 212.
- ^ ابن عاشور (1984)، ج. 26، ص. 160.
- ^ ابن عاشور (1984)، ج. 26، ص. 161.
- ^ ا ب ج صحيح البخاري (1993)، ج. 4، ص. 1531، حديث رقم 3944.
- ^ ا ب مسند أحمد (2001)، ج. 31، ص. 244، حديث رقم 18928.
- ^ ا ب فتح الباري (1959)، ج. 5، ص. 334.
- ^ العازمي (2011)، ج. 3، ص. 282، 283.
- ^ ا ب ج د ه و صحيح البخاري (1993)، ج. 2، ص. 975: 980، حديث رقم 2581.
- ^ ا ب مسند أحمد (2001)، ج. 27، ص. 120، حديث رقم 16580.
- ^ ا ب العازمي (2011)، ج. 3، ص. 283: 285.
- ^ ابن كثير (1997)، ج. 6، ص. 210.
- ^ ا ب ابن هشام (1955)، ج. 2، ص. 314.
- ^ ا ب ج ابن كثير (1997)، ج. 6، ص. 214، 215.
- ^ ا ب ج رشيد رضا (1949)، ج. 1، ص. 416.
- ^ صحيح البخاري (1993)، ج. 4، ص. 1526، حديث رقم 3923.
- ^ ابن سعد (1990)، ج. 2، ص. 74.
- ^ ابن كثير (1997)، ج. 6، ص. 211.
- ^ ا ب ج ابن هشام (1955)، ج. 2، ص. 317، 318.
- ^ "صلح الحديبية دروس وعبر - موقع مقالات إسلام ويب". www.islamweb.net. مؤرشف من الأصل في 2021-02-23. اطلع عليه بتاريخ 2021-04-12.
- ^ "شروط صلح الحديبية وموقف الصحابة منه". www.alukah.net. 8 نوفمبر 2013. مؤرشف من الأصل في 2018-10-24. اطلع عليه بتاريخ 2021-04-12.
- ^ "الفتح في صلح الحديبية - الشبكة الإسلامية". ar.islamway.net. مؤرشف من الأصل في 2021-04-12. اطلع عليه بتاريخ 2021-04-12.
معلومات المراجع المُفصَّلة
عدل- الكتب مرتبة حسب تاريخ النشر
- مسلم بن الحجاج (1916)، صحيح مسلم (ط. 1)، إسطنبول: دار الطباعة العامرة، OCLC:862990803، QID:Q123415095
- محمد رشيد رضا (1949)، محمد صلى اللّه عليه وسلم، القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، OCLC:936117174، QID:Q60797170
- عبد الملك بن هشام (1955)، السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق: مصطفى السقا، إبراهيم الإبياري، عبد الحفيظ شلبي، القاهرة: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، OCLC:784296253، QID:Q120885568
- ابن حجر العسقلاني (1959)، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تحقيق: محب الدين الخطيب، بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، OCLC:1103728639، QID:Q116945634
- محمد بن جرير الطبري (1967)، تاريخ الرُّسُل و المُلُوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (ط. 2)، القاهرة: دار المعارف، OCLC:934442375، QID:Q114456807
- أبو عيسى محمد الترمذي (1975)، سنن الترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، محمد فؤاد عبد الباقي، إبراهيم عطوة عوض، القاهرة: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، OCLC:4770378521، QID:Q116878327
- محمد الطاهر بن عاشور (1984)، التحرير والتنوير من التفسير، تونس: الدار التونسية للنشر، OCLC:11603545، QID:Q115641984
- محمد بن سعد البغدادي (1990)، الطبقات الكبرى، تحقيق: محمد عبد القادر عطا (ط. 1)، بيروت: دار الكتب العلمية، OCLC:949938103، QID:Q116749953
- محمد بن إسماعيل البخاري (1993)، صحيح البخاري، تحقيق: مصطفى ديب البغا (ط. 5)، دمشق: دار ابن كثير، OCLC:235973867، QID:Q124370879
- ابن كثير الدمشقي (1997)، البداية والنهاية، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، القاهرة: هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، OCLC:4770896261، QID:Q113496832
- محمد بن عبد الوهاب (1997)، مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، السعودية: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية، ج. 1، QID:Q134540430
- أحمد بن حنبل (2001)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط (ط. 1)، بيروت: مؤسسة الرسالة، OCLC:38490947، QID:Q115484580
- صفي الرحمن المباركفوري (2002)، الرحيق المختوم، بيروت: دار الهلال، OCLC:4770120781، QID:Q121008886
- علي بن برهان الدين الحلبي (2006)، إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون: السيرة الحلبية (ط. 2)، بيروت: دار الكتب العلمية، OCLC:4770543226، QID:Q116753167
- شمس الدين الذهبي (2006)، سير أعلام النبلاء، تحقيق: محمد أيمن الشبراوي، القاهرة: دار الحديث، OCLC:85849749، QID:Q120648548
- محمد بن جرير الطبري (2010)، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: محمود محمد شاكر، مكة المكرمة: دار التربية والتراث، QID:Q121008769
- موسى بن راشد العازمي (2011)، اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون، مدينة الكويت: المكتبة العامرية، QID:Q135216658
وصلات خارجية
عدل- من الذي نقض صلح الحديبية، الإسلام سؤال وجواب.
- فوائد ودروس وعِبَر من صلح الحديبية، موقع على بصيرة.
- صلح الحديبية وشروطه، مقالات إسلام ويب.
قبلها: معركة ذي قرد |
غزوات الرسول صلح الحديبية |
بعدها: غزوة خيبر |