ويكيبيديا:مسابقة مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله للموهبة والإبداع/مقالات/القرآن مداد لأقلام الشعراء

رفع الله- سبحانه وتعالى- البيان وأدواته إلى أسمى منزلة وأشرفها، حين أقسم سبحانه بالقلم والكتابة في سورة تحمل اسم القلم: ?ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ? (القلم:1)، وتوَّج تكريمه للبيان بأن جعل المعجزة الخاتمة هي القرآن الكريم، الذي يعد من أهم المصادر التي أقبل عليها الشعراء، باعتبارهم حملة مشاعل البيان، وقد تنوعت التأثيرات القرآنية في أشعارهم على مختلف مشاربهم ومذاهبهم، قديمهم ومعاصرهم.

وعلى مر الأزمان مثَّل دين الإسلام ينبوعًا حانيًا، استنطق حِسَّ الأدباء والكتاب؛ لجأوا إليه مقتبسين، أو مسترشدين بنصوصه، أو موظِّفين لتراثه، فأضاف بذلك مسحةً روحانيةً على أدبهم نثرًا وشعرًا، وعلى كتاباتهم المختلفة، والتراث الديني في كل صوره ولدى كل الأمم مصدر سخٌّي من مصادر الإلهام الشعري؛ إذ يستمد منه الشعراء نماذج موضوعات وصورًا أدبية، وقيمًا إنسانية، يستهدي بها كل مقبل على الشعر يشغله صقل شخصيته وحسه معًا، وقد جاء توظيف الدين في النص الأدبي عامةً عبر محورين رئيسَين:

أولاً: توظيف مباشر

يتمثل في تضمين النصوص الدينية أو توظيف الشخصيات الدينية- من خلال نص أدبي ما- لخدمة قيمة أخلاقية أو سلوكية، يحرص الدين على تأكيدها، والدفع للإقتداء بها؛ وهو ما يمكن أن نسميه بـ"الأدب الديني".

ثانيًا: توظيف غير مباشر

يتم فيه توظيف أو تضمين أو استدعاء الشخصيات والرموز الدينية؛ من أجل توظيفها لخدمة قيمة فكرية أو إنسانية بشكل عام، دون قصرها على الجانب الأخلاقي.

فالمستوى الأول يجعل المبدع مصلحًا اجتماعيًّا، ينتقل بالمجتمع من كبوة افتقاد القيم الأخلاقية، وقد يأتي هذا على حساب الجوانب الفنية والإبداعية، أما المستوى الثاني فإنه يمنح المبدع الإمكانيات الثرية للدين كافة؛ حتى يعبر بها ومن خلالها عن قضايا فكرية أو قيم إنسانية، من غير أن يأتي ذلك على حساب الجوانب الفنية أو تألُّق المبدع.

ويُعتبر القرآن الكريم من أهم المصادر التي أقبل عليها الشعراء، وهم حملة مشعل البيان، فاقتبسوا كلماته، واستلهموا عباراته، وتمثلوا بنظمه، واستوحوا قصصه، واستضاءوا بعِبَره؛ فهو دائمًا وأبدًا منهل عبْق، ونبع صاف، ونبراس هادٍ، ومع اختلاف الشعراء في ملكاتهم وتِبيانهم، وتباينهم في أساليبهم وطرائقهم تنوعت التأثيرات القرآنية في أشعارهم، في القديم والحديث.

نماذج لتأثر الشعراء بالقرآن

من هذا التأثر ما نجده عند شاعرنا "الأعشى" حين يقول:

لو أطعموا المن والسلوى مكانهمُ ما أبصر الناس طعمًا فيهمُ نجعا

فنراه متأثرًا بقوله تعالى: ?وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ? (البقرة: 57).

ونجد أبو العتاهية في قصيدته التي يمدح فيها المهدي يقول:

أتته الخلافة منقادةً إليه تـجرر أذيالـــها

فلم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لــها

ولو رامها أحد غيره لزلزلت الأرض زلزالـها

ولو لم تطعه بنات القلــوب لما قبل الله أعمالها

وهو في البيت الثالث يعد تولي الخلافة لأحد غير المهدي أمرًا جللاً، يكاد يقترب في هوله من يوم الزلزلة؛ يوم القيامة، متأثرًا بقوله تعالى: ?إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا? (الزلزلة: 1).

بينما نجد أبو تمام يرثي محمَّدًا وقحطبة وأبا النصر بني حميد الطوسي، فيقول:

وغدا غدوة والحمد نسج ردائه فلم ينصرف إلا وأكفانه الأجر

تردى ثياب الموت حمرًا فما دجى لها الليل إلا وهي سندس خضر

فهو هنا يقرر أن الفتى تردى ثوب الموت أحمر قانيًا بدماء البسالة والشهادة، فما إن جاءت ظلمة الليل إلا وأصبح ثوبه في خضرة السندس؛ لباس أهل الجنة، وقد استلهم قوله في البيت الأخير من قوله تعالي: ?عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا? (الإنسان: 21).

ويقول ابن الرومي في رثاء ابنه محمد:

عجبت لقلبي كيف لم ينفطر له ولو أنه أقسى من الحجر الصلدِ!!

بودي أني كنت قد مِتُّ قبله وأن المنايا دونه صمدت صمدي!!

ولكن ربي شاء غير مشيئتي وللرب إمضاء المشيئة لا العبدِ!!

يعجب الشاعر كيف أن قلبه يخذله؛ فلا ينفطر ولا يتقطَّع، حتى لو ساوى الحجارة الصلد في شدة بأسها وقسوتها، وينتهي في البيت الثالث إلى أن ما حدث إنما هو مشيئة الله النافذة، فليس للعبد من الأمر شيء، وهو في ذلك متأثر بقوله تعالي: ?ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الآنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ? (البقرة: 74)، وقوله تعالى: ?وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا? (الإنسان:30).

وانطلاقًا من قوله تعالى: ?فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ? (الحج: 46) يقول أبو محمد عبد الله بن محمد بن سارة الأندلسي الشنتريني (ت: 517هـ):

يا مَن يصيخ إلى داعي الشقاء وقد نادى به الناعيان الشيب والكبر

إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ترى في رأسك الواعيان السمع والبصر؟!

ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل لم يهده الهاديان العين والأثر

ومن العصر الأموي يقول العجاج مادحًا الخليفة عبد الملك؛ بأن اختاره الله لخلافة أمر المسلمين:

فالأرض لله ولاَّها خليفتَه وصاحِبُ الله فيها غير مغلوب

بعد الفساد الذي قد كان قام به كذابُ مكة من مكر وتخريب

فهو يشير إلى أن الله اختار عبد الملك خليفةً دون غيره من عباده سبحانه، مستلهمًا ذلك المعنى من قوله تعالى: ?إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ? (الأعراف: 128).

ومن نماذج التأثر بالنص القرآني في العصر الحديث نجد رفاعةَ الطهطاوي في شعره الوطني الذي يأتي متناثرًا في قصائده؛ يقول:

ولئن حلفت بأن مصر لَجَنَّةٌ وقطوفها للفائزين دواني

والنيل كوثرها الشهيُّ شرابه لأبرُّ كل البرِّ في أيماني

فالشاعر يرى مصر جنة نضجت قطوفها فدنت، والنيل فاض بمائه الرقراق العذب فهو كوثرها، وهو هنا متأثر بقوله تعالى: ?فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ* قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ? (الحاقة: 23)، وقوله تعالى: ?إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ? (الكوثر: 1).

وها هو الشاعر الفارس محمود سامي البارودي يحرِّض على الثورة وحرب المحتل، وحصد رءوس الحكَّام الدخلاء الطغاة، فيقول:

فيا قوم هبُّوا إنما العمر فرصة وفي الدهر طُرْقٌ جمة ومنافع

أصبرًا على مس الهوان وأنتم عديد الحصى؟! إني إلى الله راجع

وكيف ترون الذل دار إقامة وذلك فضل الله في الأرض واسع

فالشاعر هنا يستنهض همم الأمة؛ علَّها تفيق من كبوتها، فقد صبر كثيرًا منتظرًا موقفًا إيجابيًّا من هذا الشعب، الذي يخضع تحت ذل المحتل وأعوانه، وقد بلغ صبره مداه؛ حيث لا يرى معنًى للصبر حين يفوق الشعب أضعاف هذا المحتل عددًا وعدةً، فلا يصح أبدًا أن يرضى بالذل سمتًا لدار مقامه ووطنه والتراب الذي نشأ فوق ثراه، ويتبين لنا تأثر الشاعر بما ورد في كتاب الله- عز وجل- من مثل قوله تعالى: ?وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ? (البقرة: 155)، وقوله تعالى: ?الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ? (فاطر: 53)، وقوله تعالى: ?ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ? (المائدة: 54). وهكذا نرى مدى ثراء وغنى المصدر الديني- القرآن الكريم- وتأثيره في الشعراء حين يعبرون عن العديد من الجوانب الفكرية والروحية والوجدانية لتجاربهم وكامل حياتهم.