نقاش المستخدم:Isa albuflasa/أرشيف 1

أرشيف هذه الصفحة صفحة أرشيف. من فضلك لا تعدلها. لإضافة تعليقات جديدة عدل صفحة النقاش الأصيلة.
أرشيف 1


خليجُ الأرواحِ الضائعةِ

تصغير

                                       روايــــــــــــة

1

للأرواحِ نفثاتُها على هذه المياهِ المشتعلةِ ولهمامِ جسدهُ الصلبُ المنغرس في الخشبِ والأرضِ، سفنٌ كثيرةٌ نزلتْ إلى الأعماق، أجسادٌ كثيرةٌ لم تُكفن وهي تُحاصرُ بين الأشياءِ المحطمةِ والأشلاءِ، أجسامُهم صارتْ جزءً من الأعشابِ والأسماكِ والمحار والقواقع. سألتهُ القوقعةُ وقروشُ البحر من أكثر خلوداً أنا أم أنت؟ الموجُ يدقُ الخشبَ، ظلمةٌ كاويةٌ وهو يرى خرزَ النور، الحمولةُ ثقيلةٌ والأخطارُ شديدةٌ، والبحارةُ أغرابٌ، والأنصالُ قريبة. الرجالُ السمرُ الذين وحدَّوا النورَ والظلامَ في أجسادِهم، والمياهَ المالحةَ والمياهَ الحلوةَ، أصداءَ السحرةِ والموتِ وحريةِ الحقولِ والعصافير. السفينةُ في ظلمةٍ شديدةٍ، والذهولُ يخيم على البحارة، ومنظارهُ يمسحُ الوجودَ، والنجومُ خيوطُ الضوءِ التي يعرفُها ويمشي على هدبِها، ثمة بقعٌ صغيرةٌ من السوادِ الجامد المُنتظر، الأمواجُ تُرقصُ الخشبَ والحديدَ ولا تحركهُ، امتدتْ يداهُ خريطةً من العروقِ ممتدةً من النخيلِ المترامي الحضورِ في الأرضِ حتى جريد المصائد الكثيفة المحبةِ للسمك. يعودُ همامٌ بذاكرتهِ للوراء. في بيتهِ في دارين، في غابةِ القواربِ والسفنِ والأكواخِ والبيوت الصغيرةِ والسعفِ المشاكسِ والحجرِ شقيقِ البحر، جاءهُ رجالٌ كبارٌ ومضوا بهِ إلى الوالي التركي، لم تكن العيونُ والسيوفُ والبنادقُ والمبنى الهائلُ في جوفِ الصحراءِ وغابةُ الحيواناتِ الذائبةِ في الرمال ، بقادرةٍ على هزِ شعرةٍ من روحه. الوالي متوترٌ، والمبنى المهيمنُ على الجبالِ والأرواحِ والظلال يرتعشُ خوفاً، امرأتهُ الحريريةُ البيضاءُ كالقشدةِ عاصفةٌ من الحركةِ والآهات، تضمُ طفلَها بحنانِها الحار، وتنزل من الطوابقِ العليا إلى التربةِ الصفراء ورمالها المتحركة، تقتربُ من الجِمال اللامبالية التي تمضغُ بقايا العشب بمحبة، تمشي بقربهِ وصوتُها يختنقُ وهي تقتربُ من البوابةِ والصحارى بأشداقها المفتوحة. يقتربُ همام من قلبِ العاصفة، من المجلسِ الكبيرِ الذي لم يدخلهُ أبداً وصارَ مشاعاً، أناسٌ تحملُ الكراسيَّ الضخمةَ الخشبيةَ المنقوشة بفسيسفاءٍ زجاجيةٍ عميقةِ الألوانِ الخافتةِ المضيئة، الصورُ الكبرى للسادةِ العظامِ التي لم تنزلْ للسجادِ المغبرِ أبداً، هي الآن مكومةٌ على بعضِها البعض، تبدو شظايا من وجوهِها، وشواربُها مقطوعةٌ ، وعيونُها وحيدة. الوالي ناظم بك يتكلم بتوترٍ مع حراس. لمحهُ وهو يدخلُ في طوفانِ المتاعِ المتحرك، شيءٌ يبدو منهُ ويغيب، الأشياءُ تبدو ثمينةً، ذاتُ روائحٍ غريبةٍ مفعمة بالأناقةِ والأصالةِ والجدة، الوحيدةُ التي لا تلامسُ الغبار، حراكُها من المبنى الهائلِ القوي نحو رمالِ الصحراءِ المتحركةِ يبلبلهُ ويؤلمه، أشارَ عليه المسئولُ بالاقتراب، دخلَ همام شيئاً من الزوبعة، تكادُ الصناديقُ السائرةُ نحو المجهول أن تضربه، والخدمُ يؤشرون ويهمسون كأنهم مُلصَقون بهذه الأشياء، وهم يُخدشون ويَسقطون فلا يتذمرون، وتُسلم الصناديق، نهرٌ من الكتلِ يمضي نحو الشمال ، هو الهربُ الواسعُ المجهول. يتطلع ناظم فيه. الآن يتمكنُ من إلتقاطِ ملامحهِ بوضوحٍ بارق، الوجهُ الأبيضُ المُحَّمر، الوسيم، ذو الشاربِ الكثيفِ وخطا الحاجبين الدقيقين اللامعين، والوجه العريض الهادئ ذو البروق النابضة من الأسى والتساؤل والحيرة، والفم الصغير المطبق، تجعله يتناغمُ بقوةٍ بهذه الشخصية النائية العالية البعيدة لسنين. يتكلمُ بثقة وقوة: - سيد همام أمامك مهمة كبيرة وخطيرة، عليك أن تنقلَ بضاعةً ثمينةً فلا تحاولْ أن تفتحَ الصناديق وأن تعرف ما فيها، أرحلْ بها سريعاً إلى الشمال حيث ميناء الكوت، هناك سوف يتسلمها منك مسئولٌ من قبلنا. هل تقدر على ذلك؟ أبصارُ الرجالِ الكبارِ تحدقُ فيه، وجوُهُهم المنتفخةُ من النِعم، وشواربُهم الكثيفة، وطرابيشُهم وعماماتُهم كلها ترسلُ إشعاعاتِها نحوه، كأن الإمبراطوريةَ كلها تتوقفُ على كلمةٍ منه. - سوف تواجهكَ صعوباتٌ كبيرةٌ خطيرة، المياهُ الملبدةُ بالاحتمالاتِ والغيومِ والألغامِ والسفن، البحرُ كلهُ في غليانٍ ، فهل تقدر؟ - نعم. بهدوءٍ وكبرياء قالها رغم وشوشة الحذر داخله، ومرآى سفينة ابيه الراحلة في الغمر، وأخوه المتمرد عن ظل الأب، ورؤاهُ الحلميةُ المغمورةُ بالأشباحِ والجنيات وبالصحارى الملأى بالأطيافِ والقبائلِ الهاجعةِ الجائعةِ، وبدا له إنه سيدُ البحر لا أحدَ ينازعهُ على سفنهِ الخشبيةِ المسكونة بالرياحِ وقوى الأسلاف. لهم أن يتطلعوا إلى بعضِهم البعض بشكٍ ودهشة، وتتدلى أطيافُ إبتساماتِهم من وجوههِم، وينظروا إلى ثوبهِ المغزول من طينِ الترابِ وسعفِ الحقول وريشِ الطيورِ بإحتقارٍ، وإلى هيكلهِ النحيف ولخريطةِ عظامهِ الناتئة في خيمةِ القماشِ الأرضي الملوثة، بمشاعر من الهزء والذهول.

    - أتعرف يا سيد همام لم أجدْ غيرَك في هذه اللحظةِ الرهيبة، توجهتُ لأبيك فكان قد غادر اليابسة، عائلتكم كانت دائماً ملاذي في مهماتِ البحر، تلمستُ رباناً آخر من هؤلاء الصناديدِ الذين أمتلأتْ أجسامُهم بالنوى وأخاديد سيوفِ قروشِ البحر وبآثارِ الرصاصِ فكلهم تهربوا! يا إلهي لم أظن إن حالةَ الرعب وصلتْ إلى هذه الذروة، وكلمني أحدُ موظفي بإن ثمة شخصاً من عائلة جبر قد يقدر على القيام بهذه المهمة. ودهشتُ أن ثمة رجلا آخر من هذه العائلة التي لا تنفد من الرجال الشجعان، وكان الأبُ العملاق يحجب كلَ شيء! ولم تتأخر يا رجل!
كانت الثلةُ تهمسُ لبعضها:

- هل هو أخرس؟ - لا بد من إرسالِ مجموعةٍ معه، ربما ذهبَ بوديعتنا إلى جهةٍ مجهولة! - إنه محل ثقة، أطمئنوا. في تلك اللحظةِ دخلتْ المرأة، حجابُها الخفيفُ لم يمنعْ ثورةَ شعرِها، وجهُها براقٌ، ألقتْ عليه نظراتٌ ساحرة، إندفعتْ إلى ناظم، تطلعتْ إلى ناظم المغمور بنورِها، أشارتْ إليه، لم يسمعْ كلماتِها لكن صوت الوالي كان جهيراً: - لا، ليس هو الذي سوف يأخذكم. الهواءُ الحارُ، الغبارُ الكثيفُ الانتشار، السماءُ الممحيةُ الألوان، الطرقُ المفتوحةُ على كلِ إحتمال، والمرأةُ تدخلُ وابنُها الصغيرُ جوفَ العربة، وحراسُها على صهواتِ خيولِهم، وبنادقُهم جاثمةٌ وراءَ ظهورِهم، وهو يضعُ الصناديقَ على ظهورِ الجمال، والبريةُ الواسعةُ الضاريةُ تراقبُ الجميعَ ، وتفتحُ أذرعَها المتوهجةَ لاحتضانِهم، ويندفعُ متأخراً وراء تلك القافلة القوية التي تهز الأرض. بدا له أن يمضي في دربٍ آخر، أقصر وأسرع للشرق، لكن طريق المرأة سلبَ حسَهُ، الرجالُ الحراسُ، الدليلُ البدوي ذو النظرات القلقة، أيقظتْ شكوكاً غريزيةً مبهمة، وراح يغذُ السيرَ بسرعةٍ كافية وراء خطى الجماعة، ورجاله المشككون لم يكن لديه وقت لنقل الأسئلة إلى رؤوسهم. اللحمُ البشري السائرُ بين التلال، مضاربُ القبائلِ المتناثرةِ قرب الأوديةِ، الأراضي المقفرةُ إلا من أشجارٍ قليلة، ثم تتراءى البقعُ الرماديةُ لقماشِ الخيامِ المفتوحةِ على الهواءِ، وتومضُ بضعةُ آبارٍ، وتتدفقُ أراضٍ بها بعضُ النبات، وتسرحُ قطعانُ النوقِ في الأرض الواسعة، والطريقُ الترابي لا نهايةَ له، وقافلةُ السيدة تصلُ إلى مصيدةٍ حجرية واسعة، وتتراءى نقاطٌ سوداءُ في القمم، وتنزلُ أحجارٌ كثيفةٌ على طليعةِ القافلةِ المذعورةِ التي تصهلُ خيولُها بعنف، ويتساقطُ رجالٌ بين سنابكِها، وتثورُ الرمالُ بينها، وينزل ملثمون من بين الشعابِ مثل الذئاب والثعالب، ويسمعون طلقاتِ نارٍ كثيفة وآهات مروعة، وهو يجري مستطلعاً يزيحُ طبقاتِ الترابِ المتعالي الثائر، وينصتُ للكلماتِ النادرةِ المنفجرة، ويرى اللصوصَ يقتربون من جوهرةِ القافلة ومن الصناديق الثمينة، وبضعةُ حراس يقاومون ويُجندِلون بعضاً من المهاجمين الكثار الممطرين سيول النار، والمنهارين من بين الأحجار، والمتسللين قرب العربة والإبل الصائحة المروعة. إقتربتْ جماعةُ همام منه، وجوهُهم إمتلأتْ كرهاً وقلقاً، وتحفزتْ أجسادُهم، لكنه رفعَ يدَهُ، راحَ يفكرُ هل يحيدُ عن مهمته؟ وجه السيدة يقلقُ مشاعرَهُ، طفلها يبكي في قلبه، والجِمال وراءه عليها الصناديق الثمينة، ذات الأسرار، لن تأتي لحظة أفضل من ذلك لُينقذَ أثمنَ الأشياء عند الوالي. لكن من هو الوالي حقيقة؟ وبدا أن الرصاصَ قد نفدَ من المدافعين، ويبدو أن لغةَ النارِ الكثيفةِ المجلجلةِ دوتْ في البرية، وأن القبائلَ السارحةَ، ومجالسَ الكلامِ والحكايا والرباباتِ العازفةَ على أوتارِ القلوبِ الممزقة، والرعاةَ الجاثمين على الصخورِ يغزلون الشعرَ وآهاتِ النايات وحتى النسوة جامعات الحطب والأعشاب اليابسة، كلهم سيندفعون للغنائمِ المتبقيةِ من الأتراكِ المثقلينِ من المكوسِ والضرائب والجزى، سيجدون بضعةَ خواتم يقطعونها من الأصابعِ المتمسكةِ بها حتى والجثث تتحشرجُ، أو يعثرون على قلادةٍ ما نزفتْ على التراب، أو قطعاً من الليراتِ الذهبيةِ تاهتْ من الأكياسِ القابضةِ بقوةٍ على أنفاسها. ليكن ما يكون! تلك المرأة وذلك الطفل أثمن لديه من كل الكنوز والعطايا والمكانة الرفيعة في الشمال! حين خمدتْ لعلعةُ الرصاصِ وتحولَ البارودُ إلى بقايا دخانٍ يتموجُ في الفضاء، وجاءتْ الحشرجاتُ الأخيرةُ لضحايا الغدرِ والنداءاتِ المستجيرةِ لمرتكبي العدوان، وبدأتْ الصناديقُ تسقطُ من فوقِ ظهورِ الجمال، والمطارقُ تضربُ الأقفالَ بحدةٍ مسعورةٍ، وسُمعتْ اللغةُ الرقيقةُ المنزعجةُ الباكيةُ للمرأة، هجموا على الذين فتحوا الصناديقَ بفرحٍ صبياني مبهور، وغرفوا من أكداسِ الليرات الذهبية بأيديهِم الملوثةِ بالدم لا تزال يرفعونها في الضوءِ بجنون المُعدَّمين الذين يشارفون على الثروةِ فجأة، كانت الرصاصاتُ تنتزعُ آخرَ لحظاتِ السعادةِ في حياتِهم، ويترنحون بأسىً وألمٍ مَذهولين من إنطفاء الأحلام والحياة معاً. وهم ينتفضون برمقِِ أعضائِهم الأخيرةِ ويهزون التربةَ وآخرون يولولون ويطلقون بغضبٍ وفوضى النارَ، تتقدمُ بينهم النعالُ الصلدةُ وكعوبُ البنادقِ القاسيةِ وتُطلقُ عليهم رصاصاتُ الرحمةِ فيسكنون على الترابِ كلياً بعد حراكٍ طويل، كانت ثلةٌ قد أحتازتْ العربةَ وراحتْ تحركُها بخللٍ بَينٍ، العجلاتُ تدوي وتحفرُ الترابَ، ويدُ المرأةِ تضعُ بصمتَها المرتعبةَ على الزجاج، وهمام وجماعته يتقدمون بحذرٍ من السائق والخاطفين الذين وضعوا أسلحتَهم على ذلك اللحم الرقيق الباكي مهددين، وإندفعتْ العربة وهزتْ الأرضَ الصحراوية بعنف، والخيل تجري وراءها ثم تثقب إطاراتها وتقف بقوة. .--109.161.160.87 (نقاش) 22:20، 12 مايو 2021 (ت ع م).--109.161.160.87 (نقاش) 22:20، 12 مايو 2021 (ت ع م)ردّ

عد إلى صفحة Isa albuflasa/أرشيف 1