نقاش:محمد الخضر حسين/أرشيف 1

أرشيف هذه الصفحة صفحة أرشيف. من فضلك لا تعدلها. لإضافة تعليقات جديدة عدل صفحة النقاش الأصيلة.
أرشيف 1


نقاش بدون عنوان

الشّيخ العلاّمة محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى

" بحٌر(من العلم) لا ساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج" هذا ما قاله عنه العلامة عبد المجيد اللبان رئيس لجنة علماء الأزهر التي شكلت لاختبار الشيخ، وقال عنه العلامة محمد الطاهر بن عاشوررحمه الله: "كان إماماً من أئمة العربية في العصور المتأخرة، وفذاً من أفذاذ علماء الإسلام"

جمع وترتيب الأستاذ علي سعيّد

المولد والنشأة العلميّة وُلد "محمد الخضر الحسين" في مدينة نفطة بجنوبي تونس في(26 رجب 1293هـ= 16 أغسطس 1876م)، ونشأ في أسرة كريمة تعتز بعراقة النسب وكرم الأصل. حفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادىء القراءة والكتابة، وألمّ بشيء من الأدب والعلوم العربيةوالشرعية.وقد ذكر أن والدته قد لقنته مع إخوانه (الكفراوي) في النحو و(السفطي) في الفقه المالكي. انتقل وهو في الثانية عشرة من عمره سنة (1888) إلى تونس العاصمة، والتحق بعد عامين بجامع الزيتونة، أرقى المعاهد الدينية وأعظمها شأناً في المغرب، حيث تُقرأ علوم الدين من تفسير، وحديث، وفقه، ونحو، وصرف. كان من أبرز شيوخه الذين اتصل بهم وتتلمذ لهم: عمر بن الشيخ، ومحمد النجار وكانا يدرّسان تفسير القرآن الكريم، والشيخ سالم بوحاجب وكان يدرس صحيح البخاري، وقد تأثر به الخضر الحسين وبطريقته في التدريس. وفي الزيتونة تقدم الطالب النابغة في تحصيل العلم، وظهرت أمارات نبوغه في العلوم العربية والشرعية. تخرَّج سنة (1903) حاصلاً على الشهادة العالمية في العلوم الدينية والعربية، وأصبح بذلك من علماءالزيتونة.

جهاده وجهوده العلمية ليس من السهل الفصل بين جهود الشيخ العلاّمة رحمه الله في الدعوة والإصلاح، وجهاده لتحرير وطنه ورفعة أمته مواجها مؤامرات قوى الاحتلال من وجه، وعاملا على إحياء قيم الحرية والتحرر في النفوس من وجه آخر فـ"إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ".

في تونس في العام الذي تخرَّج فيه أنشأ الشيخ مجلة "السعادة العظمى"و هي أوّل مجلّة تصدر بتونس باللغة العربية؛لتَنْشر محاسن الإسلام، وتفضح أساليب الاحتلال الذي حاول أن يطمس نور الشريعة عن عيون المسلمين، ولم يدخر جهدا لتشويه اللغة العربية، ورميِها بالجمود والتخلُّف؛ لينصرف الناس عن قرآنهم المجيد وأحاديث نبيِّهم الكريم صلى الله عليه وسلم. وقد لقيت "السعادة العظمى" صدى واسعا في مختلف الأوساط ، وكان من أبرز من شجعه و نوه بمشروعه الشيخ سالم بوحاجب ، وكان أستاذه محمد النجار من بين المحررين بالمجلة، وكان من بين محرريها أيضا الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور والشيخ محمد النخلي وهؤلاء يعتبرون من رواد حركة الإصلاح والاجتهاد في تونس. إلى جانب التدريس والخطابة بالجامع الكبير بمدينة "بنزرت" تولَّى قضاءها في سنة (1905)، غير أنه ما لبث أن ترك وظيفة القضاء المرموقه سنة (1908) لأن ميدان القضاء حال بينه وبين الدّعوة إلى الإصلاح والجهاد. عاد إلى تونس العاصمة، وعمل مدرسًا بالمدرسة الصادقية، وهي المدرسة الثانوية الوحيدة بتونس يومئذ، وفي العام التالي تطوع للتدريس بجامع الزيتونة، ثم أُحيلت إليه مهمة تنظيم خزائن الكتب الخاصة بهذه الجامعة العريقة، وتمَّ تعيينه رسميًا مدرسًا بها. وكان في أثناء ذلك يقوم بالخطابة في المنتديات الثقافية، داعيًا إلى إحياء قيَم الحرية والتحرُّر، وبثِّ الروح الإسلامية في النفوس، والعناية بالنشءوتعليمه. لما قامت الحرب الإيطالية الطرابلسية سنة (1911)،وزحفت الجيوش الغازية، واحتلت طرابلس وبني غازي وقف الخضر بقلمه ولسانه في مجلته "السعادة العظمى" يستنفر الأمة، ويستنهض الدولة العثمانية؛ لاستخلاص الحق من مغتصبيه، وأشعلت مقالات الشيخ الحماس في النفوس، ونبَّهت الغافلين من الأمة، وشعرالمستعمر الفرنسي بخطورة ما يقوم به الشيخ المجاهد، فاتَّهمه ببثِّ روح العداء للغرب، وبدأ يضيّق عليه، ممّا دفع به إلى طلب حياته الفكرية والعملية في خارج تونس ، خصوصاً وأنه من أنصار (الجامعة الإسلامية) الذين يؤمنون بخدمة الإسلام خدمة لا تضيق بها حدود الأقطار .

كالغيث أينما حلّ نفع قـام الشيخ بـعـدة سـفـرات متوالية بادئاً بالجزائر عام (1909) لإلقاء المحاضرات والدروس فلقي ترحيباً من علمائها ، وكانت هذه الرحلة بداية جديدة شرع بعدها في إعداد نفسه وأفكاره الإصلاحية.

بين الشام والآستانة وفي عام (1911) لمّا وجهت إليه تهمة بث العداء للغرب ، ولاسيما فرنسا يمم الشيخ وجهه صوب الشرق ، وزار كثيراً من بلدانه ، وزار خاله في الآستانة ولعل هذه الرحلة لاكتشاف أي محل منها يلقي فيه عصا الترحال . في الآستانة لـقـي وزيـر الحربية (أنور باشا) فاختاره محررًا عربيًا بالوزارة فعرف دخيلة الدولة، فأصيب بخيبة أمل للواقع المؤلم الذي لمسه ورآه رؤيا العين، فنجد روحه الكبيرة تتمزق وهي ترى دولة الخلافة تحتضر وقال في قصيدة (بكاء على مجد ضائع) : أدمـى فـؤادي أن أرى الـ * أقـلام تـرسـف في قـيـود وأرى ســيــاسـة أمــتــي * في قبضة الخصم العـنـيد

ثم بعثه إلى برلين في مهمة رسمية، فقضى بها تسعة أشهر، أتقن فيها اللغة الألمانية والتقى هناك بزعماء الحركات الإسلامية من أمثال: عبد العزيز جاويش، وعبد الحميد سعيد، وأحمد فؤاد. وقد نقل لنا من رحلته هذه نماذج طيبة مما يحسن اقتباسه ، لما فيه من الحث على العلم والجد والسمو نجدها مفرقة في كتبه: (الهداية الإسلامية) و(دراسات في الشريعة الإسلامية) . عاد إلى العاصمة العثمانية، واستقر بها فترة قصيرة لم ترقه الحياة فيها، فعاد إلى دمشق، وفي أثناء إقامته تعرَّض لنقمة الطاغية "أحمد جمال باشا" حاكم الشام، فاعتقل سنة: (1915)، وحوكم أمام مجلس عسكري بالإعدام ولكن وقعت تبرئته وإطلاقه بعد أن لبث في السجن سنة وأربعة أشهر، وبعد الإفراج عنه عاد إلى إستانبول، وما كاد يستقر بها حتى أوفده أنور باشا مرة أخرى إلى ألمانيا سنة (1916). ثم عاد إلى إستانبول، ومنها إلى دمشق، وتولى التدريس بثلاثة معاهد هي : (المدرسة السلطانية - المدرسة العسكرية - المدرسة العثمانية) وعن هذه المرحلة حدّث تلميذه علاّمة الشّام الشّيخ محمّد بهجة البيطار رحمه الله تعالى فقال: (( أستاذنا الجليل الشّيخ محمّدالخضر حسين، عَلَمٌ من أعلام الإسلام هاجر إلى دمشق في عهد علامتي الشّام المرحومين: جدّي عبد الرّزّاق البيطار، وأستاذي الشّيخ جمال الدّين القاسمي فاغتبطا بلقائه، واغتبط بلقائهما، وكنّا نلقاه، ونزوره معهما ونحضر مجالسه عندهما، فَأُحْكِمَتْ بيننا روابط الصّحبة والألفة والودّ من ذلك العهد. ولمّا توفّي شيخنا القاسمي تغمّده المولى برضوانه أوائل سنة 1332 هـ لم نجد نحن معشر تلاميذه مَنْ نقرأ عليه أحبّ إلينا ولا آثر عندنا من الأستاذ الخضر لما هو متّصف به من الرّسوخ في العلم، والتّواضع في الخلق، واللّطف في الحديث، والرّقّة في الطّبع، والإخلاص في المحبّة، والبرّ بالإخوان والإحسان إلى النّاس، فكان مصداق قولالشّاعر: كأنّك من كل الطّباع مركبٌ *فأنت إلى كلِّ النفوس محبَّبُ

وأخذنا من ذلك الحين نقتطف ثمار العلوم والآداب من تلكم الرّوضة الأُنُف، ونرتشف كؤوس الأخلاق من سلسبيل الهدى والتّقوى، ولم يكن طلاّب المدارس العالية في دمشق بأقلّ رغبة في دروسه، وإجلالا لمقامه، وإعجاباً بأخلاقه من إخوانهم طلاّب العلوم الشّرعيّة، بل كانوا كلّهم مغتبطين في هذه المحبّة والصّحبة، مجتمعين حول هذا البدرالمنير. وقد قرأنا عليه في المعقولوالمنقول، والفروع والأصول، طائفة من أفضل ما صنف في موضوعه، وهي لعمر الحقّ دالة على حسن اختياره، وسلامة ذوقه، وقوّة علمه، وشدّة حرصه على النّهوض بطلاّبه، وإعدادهم للنّهوض بأمّتهم... وقد كنت نظمت أبياتاً جمعت فيها بين ذكر هذه الكتب، ووصف دروس الأستاذ، وجعلتها ذكرى لنفسي ولمن شاركوني في الطّلب والتّحصيل، عند أستاذنا الجليل، فقلت:

يـا سائلي عَنْ درسِ ر * بِّ الفضْل مولانا الإمام ابـن الـحسين التونسيِّ * مـحمد الـخضر الهمام سَلْ عنهُ مُسْتصفى الأصـ * ول لليث معترك الزحام أعـني الـغزالي الحكيـ * م رئـيس أعـلام الكلام وكـذاك فـي فن الخلا * ف بـداية الـعالي المقام أعـني ابن رشد من غدا * بـطل الـفلاسفة العظام وكـذا صحيح أبي حسيـ * ن مـسلم حَـبْر الأنـام وكـذلك الـمغني إلـى * شـيخ النحاة ابن الهشام وكـذا كـتاب أبي يزيـ * د ابـن المبرّد في الختام تـلك الدروس كما الشمو * س تـنير أفلاك الظلام يـدني إلـيك بـها حقا * ئـق كـل علم بانسجام فـتكون مـنك دقائق الـ * معنى على طرف الثمام فـالحق عـوضنا بـه * مـن شـيخنا شيخ الشآم فـعـليه مـا ذرّ الـغزا * لـة رحمة الملك السلام

أبقى الله - تعالى - أستاذنا الخضر الجليل للدين والعلم والأدب ركناً ركيناً، وحصناً حصيناً.)).. انتهى

إلى القاهرة

كانت السلطات الفرنسية بتونس قد صادرت أملاكه في 20 جوان 1917م، وحكمت عليه بالإعدام بتهمة التحريض على مقاومة فرنسا أثناء رحلتيه إلى ألمانيا .. ووجد الشيخ نفسه عرضة من جديد لملاحقة السلطات الفرنسية في سوريا عقب معركة ميسلون سنة (1920)، فلجأ إلى مصر. نزل محمد الخضر الحسين القاهرة سنة (1920)، واشتغل بالبحث وكتابة المقالات، ثم عمل محررًا بالقسم الأدبي بدار الكتب المصرية، واتصل بأعلام النهضة الإسلامية في مصر،وتوثَّقت صلته بزعماء الفكر الإسلامي من أمثال "أحمد تيمور" و"محب الدين الخطيب" و"عبدالوهاب النجَّار" و"محمد رشيد رضا"، الذين عرفوا قدر الرجل ومنزلته العلمية، وفي أثناء ذلك حصل على الجنسية المصرية ، وتقدَّم لامتحان شهادة العالمية بالأزهر، وعقدت له لجنة الامتحان برئاسة العلامة عبد المجيد اللبان مع نخبة من علماء الأزهر الأفذاذ، وأبدى الطالب الشيخ من رسوخ القدم ما أدهش الممتحنين، وكانت اللجنة كلما تعمَّقت في الأسئلة وجدت من الطالب عمقًا في الإجابة وغزارة في العلم، وقوة في الحجة ، وبلغ من إعجاب رئيس اللجنة بالطالب العالم أن قال: "هذا بحٌر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج". منحته اللجنة شهادة العالمية الأزهرية، وبها أصبح من كبار الأساتذة في كلية (أصول الدين والتخصص) لاثنتي عشرة سنة.

معاركه الفكرية

وفي هذه المرحلة من حياة الشيخ امتحنت الحياة الفكرية بفتنة ضارية أثارها كتابا: "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق و"في الشعر الجاهلي" لطه حسين، وكان الشيخ محمد الخضر حسين واحدًا ممن خاضوا هذه المعركة بالحجة القوية والاستدلال الواضح والعلم الغزير. أما الكتاب الأول فقد ظهر في سنة (1926) وأثار ضجة كبيرة وانبرت الأقلام بين هجوم عليه ودفاع عنه، وقد صدم الكتاب الرأي العام المسلم حين زعم أن الإسلام ليس دين حكم، وأنكر وجوب قيام الخلافة الإسلامية، ونفى وجود دليل عليها من الكتاب والسنة، وكانت الصدمة الثانية أن يكون مؤلف هذا الكتاب عالمًا من علماء الأزهر. وقد نهض الشيخ محمد الخضر حسين لتفنيد دعاوى الكتاب فأصدر كتابه: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" سنة (1926) تتبع فيه أبواب كتاب علي عبد الرازق، فكان يبدأ بتلخيص الباب، ثم يورد الفقرة التي تعبّر عن الفكرة موضوع النقد فيفندها، ونقد استخدام المؤلف للمصادر، وكشف أنه يقتطع الجمل من سياقها، فتؤدي المعنى الذي يقصده هو لا المعنى الذي يريده المؤلف. وقد كشف الخضر الحسين في هذا الكتاب عن علم غزير وإحاطة متمكنة بأصول الفقه وقواعد الحجاج وبصيرة نافذة بالتشريع الإسلامي، ومعرفة واسعة بالتاريخ الإسلامي ورجاله وحوادثه. وأمَّا الكتاب الآخر فقد ظهر سنة (1927)، وأحدث ضجة هائلة، حيث جاهر مؤلفه الدكتور طه حسين بالاحتقار والتشكيك في كل قديم دُوِّن في صحف الأدب، وزعم أن كل ما يُعد شعرًا جاهليًا إنما هو مختلق ومنحول، ولم يكتف بهذه الفرية فجاهر بالهجوم على المقدسات الدينية حيث قال: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، ولكن هذا لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي…"، وقد انبرت أقلام غيورة لتفنيد ما جاء في كتاب الشعر الجاهلي من أمثال الرافعي، والغمراوي، ومحمد فريد وجدي، وألَّف الشيخ محمد الخضر حسين كتابا شافيا في الرد على طه حسين وكتابه بعنوان: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" فنَّد ما جاء فيه، وأقام الأدلة على أصالة الشعر الجاهلي وكشف عن مجافاة طه حسين للحق، لم يكن الشيخ في ردّه متطفلا أو متهافتا ولكنه ردّ من موقع العالم العارف المتضلّع في اللغة والآداب العربيّة فضلا عن تمتعه بملكة الشعر حفظا و إنتاجا، على حد تعبير السيد خالد العقبي.

جهوده الإصلاحية في القاهرة

- سنة (1928) اشترك الشيخ مع جماعة من الغيورين على الإسلام منهم: أحمد تيمور , وعبد العزيز جاويش , ومحمد أحمد الغمراوي , وعبد الوهاب النجار , وحسن البنا، وصالح حرب .. وغيرهم في إنشاء جمعية الشبان المسلمين، ووضع لائحتها الأولى مع صديقه محب الدين الخطيب، وأسندت رئاستها للدكتور عبد الحميد سعيد، وقامت الجمعية بنشر مبادئ الإسلام والدفاع عن قيمه الخالصة، ومحاربة الإلحاد العلمي، فكانت منارة إصلاح ورسالة توجيه وإرشاد.

- وفي السنة نفسها أنشأ "جمعية الهداية الإسلامية" وكان نشاطها علميا أكثر منه اجتماعيا، وضمَّت عددا من شيوخ الأزهر وشبابه وطائفة من المثقفين، وكوَّن بها مكتبة كبيرة كانت مكتبته الخاصة نواة لها، وكان هدف الجمعية القيام بما يرشد إليه الدين الحنيف من علم نافع وأدب رفيع مع السعي للتعارف بين المسلمين ونشر حقائق الإسـلام ومـقـاومـة مـفـتـريات خصومه، وصدر عنها مجلة باسمها هي لسان حالها، كانت بستانا للروائع من التفسير والتشريع واللغة والتاريخ. - تولى رئاسة تحرير مجلة نور الإسلام – الأزهر الآن – التي أصدرها الأزهر في (1931)، ودامت رئاسته لها ثلاثة أعوام. - تولى رئاسة تحرير مجلة لواء الإسلام سنة (1946)، وتحمل إلى هذه الأعباء التدريس بكلية أصول الدين، فالتف حوله الطلاب، وأفادوا من علمه الغزير وثقافته الواسعة. - عندما أنشئ مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة (1932) كان من الرعيل الأول الذين اختيروا لعضويته ضمن عشرين عالمًا وأديبًا من كبار رجال العلم في مصر والعالم العربي وأوروبا ، كما اختير عضوا بالمجمع العلمي العربي بدمشق، وأثرى مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة ببحوثه القيمة عن صحة الاستشهاد بالحديث النبوي، والمجاز والنقل وأثرهما في حياة اللغة العربية، وطرق وضع المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية.

الإمام الأكبر نال الشيخ عضوية جماعة كبار العلماء برسالته القيمة "القياس في اللغة العربية" سنة (1950)، ثم لم يلبث أن وقع عليه الاختيار شيخا للجامع الأزهر في (16 سبتمبر 1952)، وكان الاختيار مفاجئًا له فلم يكن يتوقعه أو ينتظره بعدما كبر في السن وضعفت صحته، لكن مشيئة الله أبت إلا أن تكرم أحد المناضلين في ميادين الإصلاح، حيث اعتلى أكبر منصب ديني في العالم الإسلامي. تـولـى مـشـيـخـة الأزهـر وفـي ذهـنـه رسالة طالما تمنى قيام الأزهر بها، وتحمل هذا العبء بصبر وجد، وفي عهده أرسل وعاظ من الأزهر إلى السودان ولاسيما جنوبه، وعمل على اتصال الأزهر بالمجتمع وكان يـصـدر رأي الإسـلام في المواقـف الحاسـمـة: كتب أحمد عبد العزيز أبو عامر: ولا أزال أذكر ما قصه علينا أستاذ أزهري كان آنذاك طالباً في أصول الدين إبان رئاسة الشيخ للأزهر ، حين دعا أحد أعضاء مجلس الثورة إلى مساواة الجنسين في الميراث ، ولما علم الشيخ بذلك اتصل بهم وأنذرهم إن لم يتراجعوا عن ما قيل فإنه سيلبس كفنه ويستنفر الشعب لزلزلة الحكومة لاعتدائها على حكم من أحكام الله ، فكان له ما أراد .

كان في ذهن الشيخ حين ولي المنصب الكبير وسائل لبعث النهضة في مؤسسة الأزهر، وبرامج للإصلاح، لكنه لم يتمكن من ذلك، ولم تساعده صحته على مغالبة العقبات، فلم يلبث أن قدم استقالته لخلافه مع عبد الناصر بسبب إلغائه المحاكم الشرعية وإدماجها في القضاء الأهلي، وكان من رأيه أن العكس هو الصحيح، فيجب إدماج القضاء الأهلي في القضاء الشرعي؛ وكانت استقالته في (7 يناير 1954)، ويذكر له في أثناء توليه مشيخة الأزهر قولته:"إن الأزهر أمانة قي عنقي أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأت أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقل من أن لا يحصل له نقص" وكان كثيرا ما يردد: "يكفيني كوب لبن وكسرة خبز وعلى الدنيا بعدها العفاء".

معركة التحرير مستمرّة إنّ تعدد مسؤوليات الشيخ وأعباءه التي تنوء بها العصبة لم تصرفة عن قضايا بلده الرازح تحت نير الاحتلال البغيض فأسس سنة 1924 "جمعية تعاون جاليات شمال إفريقيا" إلى جانب نخبة من الجزائريين والمغاربة والليبيين، وفي سنة: 1944 أسس صحبة مجموعة من أبناء المغرب العربي ما عرف بـ"جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية" التي رأسها الأميرعبد الكريم الخطابي. ولمزيد التعريف بالقضيّة التونسية في الشرق أصدر سنة 1948 كتابا يحمل عنوان: " تونس 67 عاما تحت الاحتلال الفرنساوي"، جاء فيه: " وحيث أن التونسيين قد حرموا في بلادهم من الحريات الأوّلية حريات التفكير والنشر والقول والاجتماع والتجول حتّى أن الخمس وستين سنة التي مرّت على الحماية قضى منها التونسيّون أكثر من عشرين سنة تحت الحكم العسكري العرفي والباقي تحت رقابة البوليس." وأبرز فيه إيمانه العميق بالتعليم كرافعة لنهضة الأمم حيث أراده لكل التونسيين مسويا في ذلك بين الجنسين فعرض لحالة التعليم تحت الاحتلال مدعّما قوله بالأرقام: " عدد البنين والبنات الذين هم في سن الدراسة من التونسيين 973700، عدد البنين والبنات الذين يزاولون الدراسة في مختلف الفصول والأقسام 71921، وبإجراء عملية بسيطة يتّضح أنّ الباقي وهو 901779 هو عدد أبنائنا وبناتنا الذين لا يجدون مدرسة يأوون إليها فهم يجوبون الشوارع ضحية الجهل يتلقون دروس الإجرام وانحطاط الأخلاق ليصبحوا بعد ذلك سوسا ينخر جسم هذا المجتمع الذي يحاربه الاستعمار بالفقر والجهل و كفى بها معاول للهدم والتحطيم..." وكشف فيه عن تعلّقه بأسباب التقدّم والاستنارة فقال متحدّثا عما فعله الاستعمار بالشعب التونسي : "...كما اغتصبت منه موارد الثروة و أقفلت في وجهه سبل الحضارة و الرقيّ و منعته من الاستنارة بنور العلم و المدنيّة..." ثم واصل مبرزا إيمانه بالرأي العام الدولي الذي بدأ يتشكل غداة الحرب العالمية الثانية معتقدا في وجود منصفين وأصحاب ضمائر وإنسانيين عبر كل الأمم موجها إليهم النداء قائلا : " إنّنا نضع هذه الحقائق أمام العالم المتمدّن عسى أن ينتبه ضميره و يشعر بمسؤوليّته خصوصا الدول التي قطعت على نفسها وعودا بذلك وقالت عن الحرب الأولى والثانية إنّها حرب الحريّة و الدفاع عن حقوق الإنسان..."

مؤلّفاته لم يخلف الشيخ رحمه الله تعالى وراءه من حطام الدنيا شيئًا، لكنه ترك ذكرى طيبة، وسيرة حسنة في ميادين السياسة والجهاد والقدوة الحسنة، وترك كنوزًا من الفكر شاهدة على عقله المبدع وجهده الدؤوب، تنوعت بتنوع اهتماماته العلميّة، بين القرآن والحديث وعلومهما، والفقه وأصوله، والدعوة والإصلاح والتربية، والمقاصد، واللغة، والأدب، والتاريخ والتراجم...، سلاحه في كلّ ذلك بيانه الساحر، وقلمه السيّال الذي قلّما يوجد له نظير في العصور المتأخرة، بل إنه يضارع أرباب البيان الأوائل. ومن هذه المؤلفات: 1ـ آداب الحرب في الإسلام 2ـ أديان العرب قبل الإسلام 3ـ أسرارالتّنزيل. 4ـ بلاغةالقرآن 5ـ تراجمالرّجال 6ـ تعليقات على كتاب الموافقات للشّاطبي 7ـ تونس وجامعالزّيتونة 8 ـ تونس 67 عاما تحتالاحتلال الفرنساوي 1881- 1948 9 ـ الحرّيّة فيالإسلام 10ـ حياة ابن خلدون ومثل من فلسفتهالاجتماعية 11 ـ "خواطر الحياة": ديوان شعر جمعه بعض محبّيه 12 ـ الخيال في الشّعر العربي 13 ـ دراسات في الشّريعة الإسلاميّة 14 ـ دراسات في العربيّة وتاريخها 15 ـ دراسات في اللغة 16 ـ الدعوة إلى الإصلاح 17 ـ الرّحلات 18 ـ رسائل الإصلاح: وهي في ثلاثة أجزاء، أبرز فيها منهجه في الدعوة الإسلامية ووسائل النهوض بالعالم الإسلامي. 19 ـ الشريعة الإسلامية صالحة لكلّ زمان ومكان 20 ـ القاديانية والبهائية 21 ـ محمّد رسول الله وخاتم النبيين 22 ـ مقتطفات من الفكر الاقتصادي العربي الاسلامي 23 - نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم 24 - نقض كتاب في الشّعر الجاهلي 25 - هدى ونور مع عدّة بحوث ومقالات نشرت في " السّعادة العظمى" و "الأزهر" و "نور الإسلام" و" لواء الإسلام" و"الهدايةالإسلامية"...

وإليك بعض ما قاله الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - في بيان رأيه في كتب ستة قرأها للشيخ الخضر، وهي: تونس وجامعة الزيتونة، وبلاغة القرآن، ورسائل الإصلاح، والشريعة صالحة لكل زمان ومكان، ومحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، والخيال في الشعر الجاهلي. قال الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - : (( بيان عن هذه الكتب جملة في أمور مشتركة بينها: أ. تشترك هذه الكتب الستة في قوة الأسلوب، وعلوه، مع سلاسة العبارة، ووضوحها، وسمو المعاني، ودقتها، وإصابة الهدف من قرب بلا تكلف فيها، ولا غموض، ولا حشو، ولا تكرار. ب. تشترك في الدلالة على سعة علم المؤلف، وتضلعه في العلوم العربية، والاجتماعية، والدينية، واستقصائه في بحثه، وفي نقاشه لآراء مخالفيه، وأدلتهم، واعتداله في حكمه، وفتاويه. ج. يتمثل فيها نزاهة قلم المؤلف، وحسن أدبه، ونبل أخلاقه. لكن لم يمنعه ذلك أن ينقد الملحدين، ومَنْ انحرفَ به هواه عن الجادة، والصراط المستقيم نقداً لاذعاً لا يخرج به عن الإنصاف، ولا يتجاوز حد الأدب في المناقشة؛ رعاية لحق مخالفيه، وصيانة لعلمه ولسانه عما يشينه، وسيراً مع الكتاب والسنة وآدابهما في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فلا جهل، ولا سفاهة، إنما يقابل سيئة خصمه وسبَّه بالحسنة، وغض الطرف عنها. د. ويتمثل فيها الصدع بالحق، والكفاح عنه بحسن البيان، وقوة الحجة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لا يخشى في ذلك لَومة لائم، عماده في ذلك كتاب الله، وسنة رسوله، ودليل العقل، وشاهد الحس، والواقع مع ذكر الشواهد من اللغة، والقضايا التي جرت في العالم))

وفاته رحمه الله وبعد استقالته من مشيخة الأزهر استمر الشيخ إلى أواخر حياته يلقي المحاضرات ويمد المجلات والصحف بمقالاته ودراساته الـقـيمة، بالرغم مما اعتراه من كبر السن والحاجة إلى الراحة وهذا ليس غريباً عمن عرفنا مشوار حياته المليء بالجد والجهاد والاجتهاد . قال رحمه الله في مرضه:

أطلّ عليّ الموت من خلل الضنا * فآنست وجه الموت غيركئيب ولو جسّ أحشائي لخلت بنانه * وإن هال أقواما بنان طبيب فلا كان من عيش أرى فيه أمّتي * تساس بكفي غاشم وغريب

ولبى نداء ربه في مساء الأحد (13 من رجب 1377هـ = 3 من فبراير 1958م)، فشيَّعه العلماء وعارِفُو فضله ونضاله في مشهد مهيب ودفن بجوار صديقه أحمد تيمور باشا بوصية منه، ونعاه العلامة محمد علي النجار بقوله: "إن الشيخ اجتمع فيه من الفضائل ما لم يجتمع في غيره إلا في النّدْرَى، فقد كان عالما ضليعا بأحوال المجتمع ومراميه، لا يشذ عنه مقاصد الناس ومعاقد شئونهم، حفيظا على العروبة والدين، يردّ ما يوجه إليهما وما يصدر من الأفكار منابذًا لهما، قوي الحجة، حسن الجدال، عف اللسان والقلم …".

فلا تنس أيّها القارئ الكريم شيخنا من دعواتك في سجودك، عسى أن ينفعك الله بذلك وينفعه، فقد حرص رحمه الله على أن يعلّمنا أنّ الدعاء للميت خير من تأبينه فقال كأروع ما يقال في هذا المعنى:

تـسائلني هل في صحابك شاعرٌ * إذا مـت قـال الشعر وهو حزينُ فـقلت لـها: لا همَّ لي بعد موتتي * سوى أن أرى أخراي كيف تكون وما الشعر بالمغني فتيلاً عن امرئ * يـلاقي جـزاءًا والـجزاءُ مُهين وإن أحظ بالرُّحمى فماليَ من هوىً * سـواها وأهـواء النفوسِ شجون فَـخَلِّ فـعولنْ فـاعلاتنْ تقال في * أنـاس لـهم فـوق التراب شؤون وإن شـئت تـأبيني فدعوةُ ساجدٍ * لـها بـين أحـناءِ الضلوع حنينُ

رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام خير الجزاء

مصادرالشخصية:

  • أنور الجندي: الفكر والثقافة المعاصرة في شمال إفريقيا – الدار القومية للطباعة والنشر – القاهرة – (1385هـ= 1965م).
  • علي عبد العظيم: مشيخة الأزهر منذ إنشائها حتى الآن – مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية – القاهرة – (1399 هـ= 1979م).
  • محمد رجب البيومي: النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين – دار القلم – دمشق - (1415 هـ= 1995م).
  • محمد مهدي علام: المجمعيون في خمسين عاما – مطبوعات مجمع اللغة العربية – القاهرة - (1406هـ= 1986م)
  • محمد علي النجار: كلمة في تأبين الشيخ محمد الخضر حسين – محاضر جلسات مجمع اللغة العربية - الجزء الحادي والعشرون.
  • محمد عبد المنعم خفاجى – "الأزهر في ألف عام" – عالم الكتب – ببيروت –1988 م
  • محمد عمارة – "معركة الإسلام وأصول الحكم" – دار الشروق – القاهرة – 1989م

بعض الروابط التي جمعت منها مادة الدراسة:

1- الخضر حسين: يكفيني كوب لبن وكسرة خبز- أحمد تمام http://www.islamonline.net/Arabic/history/1422/03/article16.SHTML

2- الشيخ محمد الخضر حسين - أحمد عبد العزيز أبو عامر http://www.islamweb.net/ver2/archive/readArt.php?id=10389

3- بعض ملامح الحسّ التحرّري لدى العلاّمة محمد الخضر بن الحسين.1876/ 1958- خالد العقبي http://www.tunisnews.net/25jan08a.htm

4- محمد الخضر حسين..المجاهد بالقلم http://www.ikhwanonline.com/Article.asp?ArtID=1306&SecID=456

5- الشيخ العلامة محمد الخضر حسين http://www.toislam.net/files.asp?order=3&num=1058&per=1050&kkk

6 - الصداقة عند الشيخ محمد الخضر حسين http://www.toislam.net/files.asp?order=3&num=1059&per=1050&kkk= __________________ علي سعيد

  • بعد أن بحثت في جوجل تبين أن الرجل رحمه الله مولود في تونس، أما أصول عائلته فتعود إلى مدينة طولقة الواقعة في الجنوب الشرقي من الجزائر العاصمةRiadismet اكتب لي رسالة 23:45، 10 فبراير 2008 (UTC)
عُد إلى صفحة "محمد الخضر حسين/أرشيف 1".