نقاش:المنذر بن ساوى




حركة الردة التي اجتاحت الجزيرة العربية زمن الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه، والموقف البطولي الذي اتخذه رضي الله عنه نحوها. ذكرنا أصناف المرتدين في زمنه، وبعض القبائل التي ارتدت، كقبيلة أسد وغطفان وعبس وذُبيان. وذكرنا أخبار المرتدين من نساء اليمن، ثم موقفه رضي الله عنه من طليحة الأسدي. نكمل في ذكر من ارتد من القبائل والمجتمعات: فممن ارتد عن الإسلام أيضاً أهل عُمَان: كان أهل عمان قد استجابوا لدعوة الإسلام، وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه، ثم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم نبغ فيهم رجل يقال له: لقيط بن مالك الأزدي، فادعى النبوة وتابعه الجهلة من أهل عمان، فتغلّب عليها، فبعث إليه الصديق بأميرين هما: حذيفة بن محصن وعرفجة بن مهرة، وأمرهما أن يجتمعا ويتفقا، وأرسل عكرمة بن أبي جهل مددًا لهم، وبلغ لقيط بن مالك مجيء الجيش، فخرج في جموعه فعسكر بمكان يقال له: "دَبَا" وجعل الذراري والأموال وراء ظهورهم ليكون أقوى لحربهم، فتقابل الجيشان هناك وتقاتلوا قتالاً شديدًا، وابتلي المسلمون وكادوا أن يولّوا، فمنَّ الله بكرمه ولطفه أن بعث إليهم مددًا في الساعة الراهنة من بني ناجية وعبد القيس في جماعة من الأمراء، فلما وصلوا إليهم كان الفتح والنصر، فولَّى المشركون مدبرين، وركب المسلمون ظهورهم، فقتلوا منهم عشرة آلاف مقاتل، وسبوا الذراري وأخذوا الأموال والسوق بحذافيرها، وبعثوا بالخمس إلى الصدّيق في المدينة. وأيضاً ممن ارتد أهل البحرين: فقد أسلم أهل البحرين بعدما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى ملكها وحاكمها المنذر العبدي، وقد أسلم هو وقومه وأقام فيهم الإسلام والعدل، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي المنذر بعده بمدة قصيرة، ارتد أهل البحرين وملكوا عليهم المنذر بن النعمان. وأرض البحرين تمتد من القطيف إلى عمان، فهي تشمل اليوم إمارات الخليج العربي والجزء الشرقي من المملكة عدا الكويت. بعث الصدّيق بجيش إلى البحرين بقيادة العلاء بن الحضرمي، فلما دنا من البحرين انضم إليه ثمامة بن أثال في محفل كبير من قومه، واستنهض المسلمين في تلك الأنحاء، فاجتمع إليه جيش كبير قاتل به المرتدين، فلما اقترب من الجيوش المرتدة وقد حشدوا وجمعوا خلقًا عظيمًا، نزل ونزلوا، وباتوا مجاورين في المنازل، فبينما المسلمون في الليل إذ سمع العلاء أصواتاً عالية في جيش المرتدين، فقال: من رجل يكشف لنا خبر هؤلاء؟ فقام عبد الله بن حذف فدخل فيهم فوجدهم سُكارى لا يعقلون من الشراب، فرجع إليه فأخبره، فركب العلاء من فورهم والجيش معه فكبسوا أولئك فقتلوهم قتلاً عظيمًا وقلّ من هرب منهم، واستولى على جميع أموالهم وحواصلهم وأثقالهم، فكانت غنيمة عظيمة جسيمة، ثم ركب المسلمون في آثار المنهزمين يقتلونهم بكل مرصد وطريق، وذهب من فرّ منه أو أكثر إلى دارين، ركبوا إليها السفن، ثم شرع العلاء بن الحضرمي في قسمة الغنيمة ونفل الأنفال، ولما فرغ من ذلك قال للمسلمين: اذهبوا بنا إلى دارين لنغزو من بها من الأعداء، فأجابوا إلى ذلك سريعًا، فسار بهم حتى أتى ساحل البحر ليركبوا في السفن، فرأى أن الشُقّة بعيدة لا يصلون إليهم في السفن حتى يذهب أعداء الله، فاقتحم البحر بفرسه وهو يقول: يا أرحم الراحمين، يا حكيم يا كريم، يا أحد يا صمد، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت يا ربنا. وأمر الجيش أن يقولوا ذلك ويقتحموا، ففعلوا ذلك فأجاز بهم الخليج بإذن الله على مثل رملة دمثة فوقها ماء لا يغمر أخفاف الإبل، ولا يصل إلى رُكَبِ الخيل، ومسيرته بالسفن يوم وليلة فقطعه إلى الجانب الآخر فعاد إلى موضعه الأول وذلك كله في يوم، ولم يترك من العدو مخبرًا، وساق الذراري والأنعام والأموال، ولم يفقد المسلمون في البحر شيئًا إلاّ عليقة فرس لرجل من المسلمين، ومع هذا رجع العلاء بها، ثم قسّم غنائم المسلمين فيهم، فأصاب الفارس ستة آلاف، والراجل ألفين مع كثرة الجيشين، وكتب إلى الصدّيق فأعلمه بذلك، فبعث الصدّيق يشكره على ما صنع، وقد قال رجل من المسلمين في مرورهم في البحر وهو عفيف بن المنذر: ألم تر أن الله ذلّل بحره

	 	وأنزل بالكفار إحدى الجلائل


دعَونا إلى شق البحار فجاءنا

	 	بأعجب من فلق البحار الأوائل


وبعد هزيمة المرتدين رجع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين وضرب الإسلام بجرانه، وعز الإسلام وأهله وذل الشرك وأهله. ومن المرتدين أيضاً مسيلمة الكذاب: متنبئ من المعمّرين، وفي الأمثال: "أكذب من مسيلمة". ولد ونشأ باليمامة وتلقب في الجاهلية بالرحمن، وعُرف برحمان اليمامة. وكان مسيلمة يدعي النبوة والرسول صلى الله عليه وسلم بمكة، وكان يبعث بأناس إليها ليسمعوا القرآن ويقرؤوه على مسامعه، فينسج على منواله، وفي العام التاسع للهجرة الذي عمّ فيه الإسلام ربوع الجزيرة العربية أقبل وفد بني حنيفة على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم يعلنون إسلامهم، وكان مسيلمة معهم، ولما رجع وفد بني حنيفة إلى اليمامة حيث ديارهم، ادعى مسيلمة النبوة، وأعلن شراكته للرسول صلى الله عليه وسلم في النبوة، وفي العام العاشر للهجرة عندما أصيب النبي صلى الله عليه وسلم بمرض موته، تجرأ الخبيث فكتب رسالة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يزعم لنفسه فيها الشراكة معه في النبوة. وقد ذكر علماء التاريخ أنه كان يحاول أن يتشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبلغه أن الرسول صلى الله عليه وسلم بصق في بئر فغزر ماؤه، فبصق مسيلمة في بئر فغاض ماؤه بالكلية، وفي أخرى فصار ماؤه أجاجًا، وتوضأ فسقي بوضوئه نخلاً فيبست وهلكت، وأتى بولدان يبرّك عليهم، فجعل يمسح رؤوسهم فمنهم من قرع رأسه، ومنهم من لثغ لسانه، ويقال: إنه دعا لرجل أصابه وجع في عينيه فمسحهما فعمي. كان أبو بكر t قد أمر خالدًا إذا فرغ من أسد وغطفان ومالك بن نويرة أن يقصد اليمامة وأكّد عليه في ذلك، سار خالد إلى قتال بني حنيفة باليمامة وعبّأ معه المسلمين، وكان على الأنصار ثابت بن قيس بن شماس، فسار لا يمر بأحد من المرتدين إلا نكّل به، وسيّر الصدّيق جيشاً كثيفًا مجهزًا بأحدث سلاح ليحمي ظهر خالد حتى لا يوقع به أحد من خلفه، وكان خالد في طريقه إلى اليمامة قد لقي أحياء من الأعراب قد ارتدت، فغزاها وردّها إلى الإسلام، ولما سمع مسيلمة بقدوم خالد عسكر بمكان يقال له: "عقرباء" في طرف اليمامة، وندب الناس وحثهم على لقاء خالد، والتقى خالد بعكرمة وشرحبيل فتقدم وقد جعل على مقدمة الجيش شرحبيل بن حسنة وعلى المجنبتين زيد بن الخطاب وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، ووضع خالد بن الوليد خطته الحربية وكان t لا يستخف بعدوه، وكان في ميدان المعركة على أهبة وحذر دائمين مخافة أن يفجأه عدوه بغارة غادرة والتفاف مكر، وقد وُصف t بأنه: كان لا ينام ولا يبيت إلا على تعبأة، ولا يخفى عليه من أمر عدوه شيء. وقد قدّم خالد في هذه المعركة شرحبيل بن حسنة، وقسّم الجيش أخماسًا، على المقدمة خالد المخزومي، وعلى الميمنة أبو حذيفة، وعلى الميسرة شجاع، وفي القلب زيد بن الخطاب، وجعل أسامة بن زيد على الخيّالة. ولما تواجه الجيشان قال مسيلمة لأتباعه وقومه قبيل المعركة الفاصلة: اليوم يوم الغيرة، اليوم إن هزمتم تُستنكح النساء سبيات، وينكحن غير حطيات، فقاتلوا على أحسابكم وامنعوا نساءكم، وتقدم خالد t بالمسلمين حتى نزل بهم على كثيب يشرف على اليمامة فضرب به عسكَره، واصطدم المسلمون والكفار فكانت جولة وانهزمت الأعراب حتى دخلت بنو حنيفة خيمة خالد بن الوليد، وقُتل زيد بن الخطاب، ثم تذامر الصحابة بينهم، وقاتلت بنو حنيفة قتالاً لم يعهد مثله، وجعلت الصحابة يتواصون بينهم ويقولون: يا أصحاب سورة البقرة بطل السحر اليوم، وحفر ثابت بن قيس لقدميه في الأرض إلى أنصاف ساقيه وهو حامل لواء الأنصار بعدما تحنّط وتكفّن، فلم يزل ثابتًا حتى قتل هناك. وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: أتخشى أن تؤتى من قبلك؟ فقال: بئس حامل القرآن أنا إذًا. وقال زيد بن الخطاب: أيها الناس عضوا على أضراسكم واضربوا في عدوكم وامضوا قُدمًا. وقال: والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله أو ألقى الله فأكلمه بحجتي، فقتل شهيدًا t. وقال أبو حذيفة: يا أهل القرآن زيّنوا القرآن بالفعال، وحمل فيهم حتى أبعدهم، وأصيب t، وحمل خالد بن الوليد حتى جاوزهم، وسار لقتال مسيلمة وجعل يترقب أن يصل إليه فيقتله، ثم رجع ثم وقف بين الصفّين ودعا إلى المبارزة، وقال: أنا ابن الوليد، ثم نادى بشعار المسلمين وكان شعارهم يومئذ: "يا محمداه"، وجعل لا يبرز له أحد إلا قتله، وقد ميّز خالد المهاجرين من الأنصار من الأعراب، وكل بني أب على رايتهم يقاتلون تحتها حتى يعرف الناس من أين يُؤتَون، وصبر الصحابة رضي الله عنهم في هذه المواطن صبرًا لم يعهد مثله، ولم يزالوا يتقدمون إلى نحور عدوهم حتى فتح الله عليهم وولى الكفار الأدبار، واتبعوهم يقتلون في أقفائهم ويضعون السيوف في رقابهم حيث شاءوا، حتى ألجأوهم إلى حديقة الموت، وقد أشار على المرتدين محكم بن الطفيل بدخولها فدخلوها وفيها عدو الله مسيلمة، وأدرك عبد الرحمن بن أبي بكر محكم بن الطفيل فرماه بسهم في عنقه وهو يخطب فقتله، وأغلقت بنو حنيفة الحديقة عليهم وأحاط بهم الصحابة، وقدّموا بطولات نادرة، منهم البراء بن مالك الذي قال: "يا معشر المسلمين، ألقوني عليهم في الحديقة"، فاحتملوه فوق الترس، ورفعوها بالرماح حتى ألقوه عليهم، فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه، ودخل المسلمون الحديقة من الباب الذي فتحه البراء، وفتح الذين دخلوا الأبواب الأخرى، وحوصر المرتدون وأدركوا أنها القاضية، وأن الحق جاء وزهق باطلهم، وخلص المسلمون إلى مسيلمة، وإذا هو واقف في ثلمة جدار كأنه جمل أورق، وهو يريد يتساند لا يعقل من الغيظ، وكان إذا اعتراه شيطانه أزبد حتى يخرج الزبد من شدقيه، فتقدم إليه وحشي بن حرب قاتل حمزة فرماه بحربته فأصابه، وخرجت من الجانب الآخر، وسارع إليه أبو دجانة سِمَاك بن خرشة فضربه بالسيف فسقط، فكان جملة من قُتلوا في الحديقة وفي المعركة قريبًا من عشرة آلاف مقاتل، وقتل من المسلمين ستمائة، ثم بعث خالد الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مال وسبي، وقد استشهد في معركة اليمامة عدد من سادات الصحابة منهم: ثابت بن قيس بن شماس : وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشره بالشهادة، وقتل يوم اليمامة شهيدًا، وكانت راية الأنصار يومئذ بيده. واستشهد أيضاً زيد بن الخطاب t: وهو أخو عمر بن الخطاب لأبيه وكان أكبر من عمر، أسلم قديمًا وشهد بدرًا وما بعدها، وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين معن بن عدي الأنصاري وقد قتلا جميعًا باليمامة، وقد كانت راية المهاجرين يومئذ بيده فلم يزل يتقدم بها حتى قتل فسقطت، فأخذها سالم مولى أبي حذيفة، وقد قال عمر لما بلغه مقتل زيد بن الخطاب: رحم الله أخي زيد سبقني إلى الحسنيين، أسلم قبلي واستشهد قبلي. وقتل أيضاً عبد الله بن سهيل بن عمرو: ولما حج أبو بكر عزى أباه فيه، فقال سهيل: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يشفع الشهيد لسبعين من أهله". فأرجو أن يبدأ بي. واستشهد أبو دجانة سِمَاك بن خرشة: وكان أبو دجانة يوم اليمامة من أبطال المسلمين، فقد رمى بنفسه إلى داخل الحديقة فانكسرت رجله فقاتل وهو مكسور الرجل حتى قتل. واستشهد أيضاً عبَّاد بن بشر: وقد أبلى يوم اليمامة بلاء حسنًا، فقد وقف على نشز مرتفع من الأرض، ثم صاح بأعلى صوته: أنا عبّاد بن بشر، يا للأنصار يا للأنصار، ألا إليَّ ألا إليَّ، فأقبلوا إليه جميعًا وأجابوه: لبيك لبيك، ثم حطّم جفن سيفه فألقاه، وحطّمت الأنصار جفون سيوفهم، ثم قال جملة صادقة: اتبعوني، فخرج حتى ساقوا بني حنيفة منهزمين حتى انتهوا بهم إلى الحديقة فأغلق عليهم. ولما تمكن المسلمون من اقتحام باب الحديقة، ألقى درعه على بابها، ثم دخل بالسيف صلتا يجالدهم حتى قتل شهيدًا باليمامة وهو ابن خمس وأربعين سنة، ولم يعرف إلا بعلامة في جسده لكثرة ما فيه من الجراح t. وقتل أيضاً الطفيل بن عمرو الدوسي: وقد رأى الرؤيا قبل استشهاده حيث قال: خرجت ومعي ابني عمرو فرأيت كأن رأسي حُلق، وخرج من فمي طائر، وكأن امرأة أدخلتني فرجها، فأولتها: حلق رأسي قطعه، وأما الطائر فروحي، وأما المرأة فالأرض أدفن فيها، فاستشهد يوم اليمامة. رضي الله عن هؤلاء الأبطال من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين نالوا شرف إيقاف زحف حركة الردة في زمانهم، بتقديم هذه النماذج الرائعة والفريدة في التضحية والإخلاص لله جل وتعالى. بارك الله لي ولكم ..

وقد أبلى في معركة اليمامة أبا سليمان خالد بن الوليد بلاءً عجيباً وقدم بطولات نادرة، فقد ضرَّس في القتال فجعل يقحم فرسه ويقولون له: الله الله! فإنك أمير القوم ولا ينبغي لك أن تتقدم، فيقول: والله إني لأعرف ما تقولون، ولكن ما رأيتني أصبر وأخاف هزيمة المسلمين. ولما اشتد القتال ولم يزد بني حنيفة ما قتل منهم إلا عنفًا وضراوة، برز حتى إذا كان أمام الصف دعا إلى المبارزة ونادى الناس بشعارهم يومئذ وكان: "يا محمداه"، فجعل لا يبرز له أحد إلا قتله ولا شيء إلا أكله، فقد كان يرغب في النصر ويتحرى الشهادة. ولنترك لخالد يصف لنا جولة من المصارعة بينه وبين أحد جنود مسيلمة داخل حديقة الموت قال رضي الله عنه: ولقد رأيتني في الحديقة وعانقني رجل منهم وأنا فارس وهو فارس، فوقعنا عن فرسينا، ثم تعانقنا بالأرض، فأجؤه بخنجر في سيفي، وجعل يجؤني بمعول في سيفه، فجرحني سبع جراحات، وقد جرحته جرحًا أثبته به فاسترخى في يدي وما بي حركة من الجراح، وقد نزَفت من الدم، إلا أنه سبقني بالأجل فالحمد لله على ذلك. وقد شهد خالد لبني حنيفة على قوتهم وشدة بأسهم فقال: شهدت عشرين زحفًا فلم أر قومًا أصبر لوقع السيوف ولا أضرب بها ولا أثبت أقدامًا من بني حنيفة يوم اليمامة، وما بي حركة من الجراح، ولقد أقحمت حتى أيست من الحياة وتيقنت الموت. وكان من ضمن شهداء المسلمين في حرب اليمامة كثير من حفاظ القرآن، وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر t بمشورة عمر بن الخطاب t بجمع القرآن حيث جُمع من الرقاع والعظام والسعف ومن صدور الرجال، وأسند الصدّيق هذا العمل العظيم إلى الصحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصاري t. وقد استشهد كثير من المهاجرين والأنصار في هذه المعركة الفاصلة، وكانت المدينة على الرغم من فرحها بانتصار المسلمين على المرتدين ما زالت تبكي شهداءها، ففي حرب اليمامة وحدها قتل من المسلمين مائتان وألف، منهم عدد من كبار الصحابة، وفيهم أكثر حفّاظ القرآن، نحو أربعين من القرّاء، وعصرت الأحزان قلب المدينة، وغمرت الدموع ابتسامات الفرح بالنصر، وضاقت الصدور، وثقلت المحنة على القلوب بقدر ما أضاء انتصار المسلمين غيابات النفوس، وقَوّى من إيمانهم، وغرس الثقة في أعماقهم. لقد تركت حروب الردة آثارًا ونتائج لم تكن محدودة الزمان والمكان، وإنما شملت أجيالاً وآمادًا وتصورات، وأفكارًا وسلوكيات، وأحكامًا ما زالت تُغذّي الأجيال من بعدها وتمدها بالكثير، ومن أهم تلك النتائج: أولاً: تميز الإسلام عما عداه من تصورات وأفكار وسلوك: إن من نتائج أحداث الردة حفظ التصور الإسلامي من التحريف والتشويه، وأنْ تجردت الراية الإسلامية من العصبية الجاهلية والولاء المختلط، وصارت خالصة من أيّة شائبة. ثانياً: أظهرت أحداث الردة معادن أصيلة في بنية قاعدة هذه الدولة، وكشفت عن عناصر صلبة، فلم يكونوا أفراداً متناثرين، ولكنهم كانوا يشكلون القاعدة لهذا المجتمع ولهذه الدولة، ولم تكن قاعدة رخوة أو هشة أو ساذجة، وإنما كانت قاعدة صلبة واعية، تدرك حقيقة نفسها وحقيقة عدوها وتعي أبعاد المخاطر من حولها، وتخطط بانتباه ويقظة كاملة في مواجهة كل الصعاب، وهي مع هذا وذاك موصولة بالقوي العزيز، ولهذا انتصرت على كل خصومها وأزالت كل العوائق من طريقها. ثالثاً: أصبحت جزيرة العرب بسكانها قاعدة الفتوح الإسلامية بعد ذاك، وصارت هي النبع الذي يتدفق منه الإسلام ليصل إلى أصقاع الأرض فاتحًا ومعلمًا ومربيًا. رابعاً: ومن خلال أحداث الردة التي ميزت الصفوف وامتَحنت الطاقات والقدرات، وكَشفت عن الطبقة التي كانت تغطي معادن الأمة، ظهرت المعادن الخسيسة على حقيقتها، وأُعطيت القيادة للمعادن النفيسة الصلبة المصقولة لتمسك بزمام الأمور في حركة الفتوح القادمة. خامساً: إن أية محاولة للتمرد على دين الإسلام سواء أقام بها فرد أم جماعة أم دولة، إنما هي محاولة يائسة مآلها الإخفاق الذريع والخيبة الشنيعة، لأن التمرد إنما هو تمرد على أمر الله المتمثل بكتابه الذي تكفّل بحفظه وحفظ جماعة تلتف حوله وتقيمه في نفوسها، إن مصير الكائدين لدين الله هو البوار في الدنيا والآخرة، وما أجمل ما قال الشاعر: كناطح صخرة يومًا ليوهنها

	 	فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل 


وللحديث بقية ...

عُد إلى صفحة "المنذر بن ساوى".