مستخدم:Michel Bakni/ملعب 1
الباب الثاني
أصل الدولة ومنشأها
الفصل الرابع
قسطنطين الكبير والقسطنطينية
قسطنطين الأول الكبير
هو قسطنطين بن قسطنديوس كلوروس Constantius Chlorus من زوجته هيلانة، ولد في نيش من أعمال يوغوسلافية حوالي السنة ٢٨٠ بعد الميلاد، وقد اختُلف في أصل والدته، فهي إما أناضولية بلقانية في بعض المصادر، أو سورية رهوية في البعض الآخر.
نشأ قسطنطين في نيقوميذية في حاشية الإمبراطور ديوقليتيانوس، والتحق بالجيش في الخامسة عشرة من عمره، وأظهر شجاعةً وبأسًا وحنكةً ودرايةً، فرقي إلى رتبة قائدٍ في الثامنة عشرة، وكان أن استقال ديوقليتيانوس وتولى غلاريوس مكانه، ففصل قسطنطين عن الجيش وأبقاه في مَعِيَّتِهِ لتعلُّق الجند به واستبسالهم في سبيله، ولتخوفه مما قد ينتج عن هذه السيطرة على الجُند. ويروى أن غلاريوس حاول إهلاك قسطنطين، فأمره بمصارعة أسد مرة، نشأ قسطنطين في نيقوميذية في حاشية الإمبراطور ديوقليتيانوس، والتحق بالجيش في الخامسة عشرة من عمره، وأظهر شجاعةً وبأسًا وحنكةً ودرايةً، فرقي إلى رتبة قائدٍ في الثامنة عشرة، وكان أن استقال ديوقليتيانوس وتولى غلاريوس مكانه، ففصل قسطنطين عن الجيش وأبقاه في مَعِيَّتِهِ لتعلُّق الجند به واستبسالهم في سبيله، ولتخوفه مما قد ينتج عن هذه السيطرة على الجُند. ويروى أن غلاريوس حاول إهلاك قسطنطين، فأمره بمصارعة أسد مرة، وجبار من السرامتة مرة أخرى، ولكن قسطنطين نجا من المحنتين، ثم استدعاه والده قسطنديوس قيصر فالتحق به، وكان قد تولى الحكم في غالية وإسبانية وبريطانية.
وكان قسطنطين طويل القامة ضخم الجثة، ممتلئ البدن سمين الأطراف، كبير العينين عابسًا مقطبًا، ثابت العقد ماضي العزيمة، ولكنه كان في الوقت نفسه سهل الانقياد كثير التخلي، وكان واسع الخلق رحب الصدر حليم الطبع، ولكنه يجمع إلى ذلك سرعة البادرة وشدة الغضب، وجاء أيضًا أنه كان متواضعَ النفس وشديد الكبرياء في آنٍ معًا.
أخباره الأولى
وأراد ديوقليتيانوس الإمبراطور أن يجعل جُلُوس الإمبراطور أمرًا مدنيًّا لا علاقة له بالجيش، فجعل للدولة الرومانية إمبراطورين وجعل لكلٍّ منهما قيصرًا يعاونُهُ في الحكم ويحل محله عند الوفاة أو اعتزال الوظيفة، وطَبَّقَ هذا النظام الجديد، فجعل مكسيميانوس إمبراطورًا يشاطره الحكم، وحكم هو الشرق متخذًا نيقوميذية قاعدة له، وحكم مكسيميانوس الغرب وجعل قاعدته ميلان، ثم نصب غلاريوس قيصرًا يحكم إيليرية واليونان ومقدونية، وأقام قسطنديوس كلوروس أبا قسطنطين قيصرًا حاكمًا على غالية وإسبانية وبريطانية، فلما استقال الإمبراطوران ديوقليتيانوس ومكسيميانوس في السنة ٣٠٥، تولى الحكم بعدهما — بموجب النظام الجديد — كُلٌّ من: غلاريوس في الشرق وقسطنديوس في الغرب، وعين الإمبراطوران الجديدان قيصرين جديدين: سويروس على إيطالية وأفريقية، ومكسيميانوس على سورية ومصر.
ثم تُوُفي قسطنديوس الإمبراطور الغربي في السنة ٣٠٦ في يورك من أعمال بريطانية، فعبث ابنُهُ قسطنطين بالنظام الجديد، وأعلن نفسه قيصرًا على غالية وإسبانية وبريطانية، ولم يَرْضَ الحرس في رومة عن غلاريوس فنادَوا بمكسنتيوس بن مكسيميانوس إمبراطورًا، وعادتْ شهوة الحُكم إلى قلب مكسيميانوس الوالد المستقيل، فأعلن نفسه إمبراطورًا أيضًا، وأَصْبَحَ للدولة الرومانية أباطرةٌ ثلاثةٌ وقياصرةٌ ثلاثة، وثار جُنُود سويروس عليه فقتلوه، فعين غلاريوس قيصرًا جديدًا محله يدعى ليكينيوس، وقُبض على مكسيميانوس في مرسيلية في السنة ٣١٠ فقُتل بأمر قسطنطين في السنة ٣١١، وتُوُفي غلاريوس في هذه السنة نفسها مِنْ مَرَضٍ أَلَمَّ به، ثم زحف قسطنطين على إيطالية وقهر مكسنتيوس في تورينو في السنة ٣١٢، فارتد هذا إلى رومة، فلحق به قسطنطين ودَحَرَه مرة ثانية في ساكسة روبرة عند الصخور الحمراء،١ وغرق مكسنتيوس في نهر التيبر، فلم يبق في الميدان سوى قسطنطين وليكينيوس، فحكم الأول الغرب وحكم الثاني الشرق، ثم شجر الخلاف بينهما في السنة ٣١٤ فاضطر ليكينيوس أن يتنازل عن إيليرية ومقدونية وآخية لقسطنطين، واستأنف الإمبراطوران القتال في السنة ٣٢٣ فانكسر ليكينيوس في أدريانوبل وخلقيدونية واستسلم في نيقوميذية، فأمر قسطنطين بقتله، فقتل في السنة ٣٢٤، وهكذا أصبح قسطنطين حاكم الإمبراطورية الفرد.
موقفه من النصرانية
والشائع الذي دوَّنه المعاصرون٢ هو أن قسطنطين في شفق ليلة من ليالي حربه ضد مكسنتيوس في خريف السنة ٣١٢، شاهد فوق قُرص الشمس الجانحة إلى المغيب صليبًا من نور مكتوبًا عليه: «بهذا تغلب»،٣ وأن السيد ظهر له في أثناء تلك الليلة حاملًا هذه الشارة نفسها موصيًا إياه باتخاذها راية يهجم بها على العدو، وتنص هذه المصادر أيضًا على أن قسطنطين استدعى أركانه عند فجر اليوم التالي، وقَصَّ عليهم ما رأى وأمر باتخاذ الصليب شعارًا، وراية قسطنطين هذه٤ التي أصبحت فيما بعد راية دولة الروم، كانت تتألف من صليب تنسدل من عارضته الأُفُقية قطعةٌ من الحرير المزركش بالذهب المرصع بالحجارة الكريمة تحمل صورة قسطنطين وولديه، ويعلو الصورة إكليلٌ من ذهب في وسطه مونوغرام السيد المسيح.
ومما جاء في المصادر المتأخرة أن قسطنطين تقبل سرَّ المعمودية بعد انتصاره على مكسنتيوس في السنة ٣١٢ نفسها، ويرى العالم الإفرنسي جول موريس الاختصاصي في المسكوكات البيزنطية القديمة، أن لا بد لقسطنطين أن يكون قد تعمد آنئذٍ لظهور مونوغرام السيد المسيح على مسكوكاته ولاهتمامه وعنايته بالنصارى بعد ذلك، ولأسباب أخرى لا مجال لذكرها هنا فلتراجع في مظانها،٥ ويرى غير هذا العالم من رجال الاختصاص أيضًا أن دليله ضعيفٌ، وأن المراجع الأولية قليلةٌ غامضة، وأن قسطنطين بقي وثنيًّا طوال حياته وأنه لم يتقبل النصرانية إلا على فراش الموت.٦
براءة ميلان
وسواء تقبل قسطنطين المعمودية فور انتصاره على خصمه في رومة في السنة ٣١٢ أم على فراش موته؛ فإنه ما كاد يرتب أُمُور رومة حتى انتقل إلى ميلان في مطلع السنة ٣١٣؛ ليجتمع بزميله ليكينيوس، وكان هذا قادمًا إلى ميلان ليتزوج من قسطندية Constantia أخت قسطنطين، وبقي الإمبراطوران شهرين كاملين يَشتركان في ميلان في أفراح العُرس ويتشاوران في أُمُور الدولة.
وكان غلاريوس الإمبراطور قد أصدر قُبيل وفاته في السنة ٣١١ براءة صفح فيها عما سلف للمسيحيين من مخالفات لأوامر الدولة، وأَقَرَّ حقهم الشرعي في ممارسة دينهم: «وللمسيحيين أن يستمروا في الوجود، وأن ينظموا اجتماعاتهم، شرط ألا يُخلُّوا بالنظام، وعليهم — بناءً على تسامحنا وتعطفنا — أن يصلوا إلى إلههم ليسعد ظروفنا وظروف الدولة وظروفهم.»٧ ورأى الإمبراطوران المجتمعان أن يُشَدِّدَا في تنفيذ هذه البراءة، فكتب كلٌّ منهما إلى عمَّاله بوجوب السهر على التنفيذ، ولدى عودة ليكينيوس إلى نيقوميذية، كتب إلى حاكمها في الثالث عشر من حزيران سنة ٣١٢ أن يبيح للمسيحيين — ولغيرهم أيضًا — العبادة كما يشاءون؛ وذلك ليصبح كل إنسان حرًّا في أمر عبادته،٨ ورد للمسيحيين الأبنية والكنائس التي كانت قد صُودرت مِن قبل، وفي خريف السنة ٣١٥ أحيا قسطنطين أوامرَ أسلافه الأباطرة، فحرَّم التبشير باليهودية والدعاية لها،٩ ثم بعد سنة وجد نفسه في ميلان مرة أُخرى؛ لينظر — هذه المرة — في أمر الدوناتيين فيحكم عليهم، وفي أول آذار من السنة ٣١٧ نلقاه في سرميوم في إيليرية يُعلن ابنيه كريسبوس وقسطنطين الأصغر قيصرين، وذلك في الوقت نفسه الذي أعلن فيه زميله ليكينيوس ابنه ليكينيانوس قيصرًا أيضًا، ونراه يتقبل — بهذه المناسبة — الحرفين اليونانيين «خي» و«أيوته» فيأمر بنقشهما على خوذته في النقود الصادرة عنه، وهذان الحرفان هما مونوغرام السيد المسيح باليونانية، وفي السنة ٣٢٦ بعد تغلُّبه على زميله ليكينيوس، نراه يتخذ لنفسه علم اللبَّاروم الشهير المشار إليه آنفا، فيظهر على رأس هذا العلم المونوغرام المسيحي المذكور.
مجمع نيقية
وعلى الرغم من هذا كله استمرت سياسة الدولة الرومانية الدينية، هي نفسها التي أَقَرَّتْ في ميلان سنة ٣١٢ سياسةَ تسامُح وتساوٍ بين جميع الأديان، واستمر الإمبراطور قسطنطين حبر الدولة الأعظم يرعى جميعَ الأديان بالتساوي والتسامُح، وهكذا نراه يُعلن لجميع الرعايا بعد انتصاره على خصمه ليكينيوس أنه وإن يكن قد انتصر بمعونة إله المسيحيين، فإنه لا يُكره أحدًا أن يذهب مذهبه، وأن لكلٍّ من رعاياه أن يتبع الرأي الذي يراه.١٠
واختلف الأحبار المسيحيون في هذه الآونة واختصموا، واتصل خلافُهُم بالقساوسة والرهبان والأفراد، فاضطر قسطنطين الكبير أَنْ يتدخل في الأمر؛ لأنه كان حبر الدولة الأعظم ورأسها فمِن واجبه أن يُحافظ على الأمن وحرية العبادة. ثم إنه كان يعطف على النصرانية ويَعترف بفضل إله النصارى — كما أشرنا — وكان قد سبق له مثلُ هذا عند ظهور الدوناتية في أفريقية، ولكن الانشقاق الذي أَدَّى إلى تدخُّله الشخصي هذه المرة كان أشد خطرًا بما لا يُقاس مما حدث في ولاية أفريقية، فإنه حادثٌ هدد السلم في الولايات الشرقية.
وتفصيل الأمر أن آريوس Arius أحد قساوسة مصر وراعي كنيسة بوكاليس فيها، قال بخلق الابن وخلق الروح القدس، فأنكر بذلك أُلُوهية المسيح، وأثار عاصفة هوجاء من الانتقاد والاحتجاج شملت العالم المسيحي بكامله. ولسنا نعلم الشيءَ الكثير عن آريوس هذا. نجهل محل ولادته وتاريخها، كما نجهل تفاصيل فلسفته الدينية، وقد ضاعت رسائلُهُ ولم يبق منها إلا مقتطفات يسيرةٌ جاءتْ في بعض الردود عليه، ولا سيما ما كتبه القديس أثناسيوس الكبير، ولولا تعلُّق المؤرخ يوسيبيوس به لَمَا حفظت رسائل قسطنطين عنه. وقد يكونُ لِمَا أورده القديس أمبروسيوس أهمية خاصة لأنه اطلع — فيما يظهر — على تقارير الأسقف هوسيوس الذي انتُدب للتحقيق في قضية آريوس قُبيل انعقاد المجمع المسكوني الأول.
وهال قسطنطين أمرُ هذا الانشقاق، وكان يجلُّ أسقفًا إسبانيا يُدعى هوسيوس، وهو الذي سبق ذِكْرُهُ، وكان هذا شيخًا جليلًا محترمًا، فاستدعاه قسطنطين إليه وأنفذه إلى الإسكندرية ليتصل بحبرها ألكسندروس ويُصلح الحال. وكتب إلى كلٍّ من ألكسندروس وآريوس فيها بوجوب التآلف ونبذ الخصام، وألمع إلى وجوب طاعة الرئيس، كما أشار إلى «أن الاختلاف العقائدي أمرٌ فلسفيٌّ دقيقٌ لا يستوجب ذلك الاهتمام.» ولكن هوسيوس أخفق في الإسكندرية وعاد إلى نيقوميذية، وقصد إليها كلٌّ من ألكسندروس وآريوس، واقترح هوسيوس عَقْدَ مجمعٍ مسكونيٍّ يضم جميع أساقفة النصرانية للبَتِّ في قضية آريوس، فقبل الإمبراطور اقتراحه، ووجه الدعوة إلى جميع الأساقفة في الإمبراطورية الرومانية، جاعلًا تحت تصرفهم وسائل النقل الرسمية، وعيَّن نيقية مركز الاجتماع بدلًا من نيقوميذية عاصمة الدولة الموقتة؛ لانحياز أسقف نيقوميذية إلى آريوس ولعطف قسطندية عليه.
ولبَّى الدعوة عددٌ غيرُ قليل من الأساقفة، مائتان وخمسون في رواية بوسيبيوس، ومائتان وسبعون في رواية افسيتاثيوس، وثلاثمائة في رواية أثناسيوس القديس، وثلاثمائة وثمانية عشر في رواية القديس هيلاريوس، وكان معظم هؤلاء من الولايات الشرقية. ودامت جلسات المجمع سبعة وتسعين يومًا بين العشرين من أيار سنة ٣٢٥ والخامس والعشرين من آب من السنة نفسها.
وجلس افسيتاثيوس بطريرك أنطاكية إلى يمين الإمبراطور، وكان قد اشتهر بعلمه ورسائله وتقواه، فافتتح المجمع بكلمة شكرٍ رفعها إلى الإمبراطور وبيَّن فيها فضلَه على النصارى، وقام قسطنطين فألقى كلمة باللاتينية تُرجمت إلى اليونانية أشار فيها إلى جَمَال الدين المسيحيِّ، مستشهدًا ببعض أخبار السيد مؤكدًا تَعَلُّقه بمشيئة رب السموات. ثم طلب إلى المجتمعين أَنْ يعودوا إلى الكتب ليوحدوا الصفوفَ، وخرج من المجمع تاركًا الأساقفة في خلوة للعمل، فتشاوروا برئاسة أحدهم، ولعله الأسقف هوسيوس صديق الإمبراطور، وظل قسطنطين يُتابع أعمالهم عن كثب، وفي الخامس والعشرين من تموز دعاهم إلى حفلة في قصره في نيقوميذية لمناسبة انقضاء عشرين سنة على تسلُّمه الحكم، فاستقبلهم فيها حرس الإمبراطور مقدمين السلاح.
واستمع الأعضاء إلى شكوى ألكسندروس الإسكندري، ثم إلى موقف آريوس من الثالوث — كما ظهر هذا الموقف في رسائله — فأيد آريوس عشرون أسقفًا وخالفه الباقون، وأقر الأعضاء دستور إيمان عُدِّل في المجمع الثاني، فأصبح دستور إيمان المسيحيين أجمعين ولا يزال كذلك. وهو يسند إلى ألكسندروس وأثناسيوس الإسكندريين وهوسيوس الإسباني، ونظر المجمع في مسائلَ أُخرى كمسألة عيد الفصح والمعمودية، وسنَّ عشرين قانونًا، أهمها ما تعلق بنظام الكنيسة: فنَصَّ القانونُ الرابعُ على أن الأسقف الواحد يجب أن يشترك في اختياره جميعُ أساقفة الأبرشية، فإن كان هذا مستصعبًا لضرورة قاهرة أو لبُعد المسافة فلا بُدَّ من اجتماعِ ثلاثةٍ معًا بعد اشتراك الغائبين في التصويت وموافقتهم كتابةً، وحينئذٍ يعملون الشرطونية، أَمَّا تثبيت الإجراءات في كل أبرشية فمنوطٌ بالمتروبوليت.
وجاء في القانون الخامس: «لقد رأينا حسنًا أن تعقد مجامع في كل أبرشية مرتين في السنة؛ لكي تُبحث أمثال هذه المسائل باجتماعٍ عموميٍّ من جميع أساقفة الأبرشية.» وقضى القانون السادس: «بأن تكون السلطة في مصر وليبية والمدن الخمس لأسقف الإسكندرية؛ لأن هذه العادة مرعيةٌ للأسقف الذي في رومة أيضًا، وعلى غِرار ذلك فليُحفظ التقدم للكنائس في أنطاكية وفي الأبرشيات الأخرى.» وجاء في القانون السابع: «أنه جرتِ العادةُ والتسليم أن يكون الأسقفُ الذي في إليَّة؛ (أي أوروشليم) ذا كرامة، فلتكنْ له المتبوعيةُ في الكرامة.»
وأيد قسطنطين هذه القرارات، وأَمَرَ بوُجُوبِ تنفيذها والخضوع لها، ونفى من الأساقفة كُلَّ من امتنع عن الموافقة عليها، ونفي الأب آريوس أيضًا، ومنح الإكليروس المسيحي والعذارى والأرامل مبالغَ محدودة كانت تؤخذ من دخل المدن لا من موازنة الدولة، ووهب الكهنةَ الضماناتِ نفسها التي كان يتمتع بها الكهنة الوثنيون، واهتم قسطنطين في هذه الآونة نفسها — ولا سيما السنتين ٣٢٥ و٣٢٦ — للضعفاء، فمنع تفريق عائلات الأرقاء عند اقتسام الأراضي، وحرَّم مطالبة الكولوني بأكثر من طاقتهم، كما حرَّم مشاهد المصارعة المؤلمة، وأمر بهدم بعض المعابد الوثنية التي اشتهرتْ بفسقها، ومنها هيكل عشتروت في أفقا لبنان، فقد جاء في ترجمة حياة قسطنطين ليوسيبيوس المؤرخ ما تعريبه: «لما استوى قسطنطين على منصة الملك رقب من سمو عرشه ما نصبه إبليس من الأشراك في فينيقية لصيد النفوس، فوجد من ذلك على هضاب لبنان — في موضع قفر لا تطرقه السابلة — معبدًا تحدق به غيضة، وكان المعبد قد أُقيم لبعض الأصنام الدنسة يدعى الزهرة يتوارد إليه البغايا وأهل الفجور، فأضحى بذلك أشبه بماخور منه بمعبدٍ دينيٍّ، ولم يتجاسرْ أحدٌ مِن أهل الفضل أَنْ يدخل إليه ليتحقق صحةَ ما تناقلتْه الألسنُ، بَيْدَ أن قسطنطين وقف على حقيقة الأمر فَرَأَى من أخص واجباته أن يقوِّضَ أركان ذلك الزون النجس، فأمر عُمَّاله بأن يهدموا ذلك المقام ويكسروا أصنامه ويُتلفوا ما حمل إليه من الهدايا النفيسة، فأرسلت إلى أفقا فئةٌ من الجُند نفذوا أوامر الملك ولم يُبقوا ولم يذروا، وكان ذلك في السنة ٣٢٥. أما سكان أفقا فأمروا بأن يبارحوا مساكنهم فاستوطنوا بعلبك.»١١
القديسة هيلانة
وفي مطلع السنة ٣٢٦ قام قسطنطين إلى رومة؛ ليحتفل فيها كما احتفل في نيقوميذية بعيده العشرين، وأصدر في الثالث من شباط قانون الزنى، وأردفه في أول نيسان بقانون الخطف والاغتصاب وبقانون زواج اليتيم، ولعله حرَّم السراري على المتزوجين في هذه الآونة أيضًا، ورأت زوجته فاوسطة أن تستغل محافظة زوجها على الآداب والأخلاق فاتهمت كريسبوس ابنه من ضرَّتها — وكان قد بلغ العشرين من العمر ولمع في ميادين القتال — بمحاولة الاعتداء على عفتها، فأماته والده مسمومًا، ثم اتُهمت هي بدورها بالخيانة وكانت لا تزال وثنية تشابه في صورتها الجانبية والدها مكسيميانوس، وكان قسطنطين يكرهه، فأمر قسطنطين بإماتتها هي أيضًا خنقًا بحمامٍ ساخنٍ.
وكانت والدته القديسة هيلانة قد استقرت في رومة وتمتعت بلقب أوغوسطة وأثرت ثراءً كبيرًا، فعزمتْ في السنة ٣٢٦ على القيام برحلة إلى فلسطين؛ للتبرك بزيارة الأماكن المقدسة، وغادرت رومة في أواخر الصيف، واتجهت شطر فلسطين بحرًا. وكان قسطنطين قد فاوض مكاريوس أسقف أوروشليم في إقامة كنيسة لائقة بالسيد في جلجثة في أوروشليم تكون أفضل الكنائس، فاستحثت القديسة الأسقف على إتمام هذا العمل، فتم البناء في السنة ٣٣٥، وكان قد سبق للنصارى أن أقاموا في القرن الثالث بناءً مثمَّن الأضلاع والزوايا فوق الكهف الذي وُلد فيه السيد في بيت لحم، فأضافتْ إلى هذا المثمن بازيليقة فخمة، وفعلت مثل هذا عند كهف الصعود. وعند انتهاء هذا القرن الرابع بدأ النصارى يتناقلون خبرًا مؤداه: أن القديسة هيلانة، بعد تفتيشٍ دقيقٍ وعناءٍ شديدٍ، وجدت ثلاثة صلبان في جلجثة، وأنها أحبت أن تتعرف إلى صليب السيد منها فلمست بها جسد مريضٍ شابٍّ وانتقتْ منها ذاك الذي شفى المريض، ولَدَى عودتِها أذابت بعض مسامير الصليب في معدن خوذة قسطنطين الأول والآخر في لجام حصانه، كما أنها وزعت عود الصليب على كنائس عدة.
آريوس ثانيةً
ولم يتمكن المجمع المسكوني من استئصال بذور الشقاق، فالآريوسيون كانوا كثرًا تؤيدهم قسطندية أخت الإمبراطور، ويقول المؤرخ صوزومينوس إن قسطندية أوصتْ أخاها وهي على فراش الموت بكاهن آريوسي كان قدْ أصبح معلم ذمتها، وأن هذا الكاهن قدم يوسيبيوس الآريوسي أسقف قيصرية إلى قسطنطين الإمبراطور، فتمكن الأسقف من إقناع الإمبراطور أنه لا فرق بين إيمان آريوس وإيمان المجمع، وأن الإمبراطور أعاد آريوس من منفاه وأرسله في السنة ٣٣٠ إلى الإسكندرية.١٢
وعاد الآريوسيون إلى العمل، فعقدوا مجمعًا في أنطاكية في السنة ٣٣٠ وقطعوا افسيتاثيوس بطريرك أنطاكية وغيره ونفوهم بأمر قسطنطين. وقام آريوس إلى الإسكندرية فمنعه بطريركها أثناسيوس الكبير من الدخول إليها، فاتهمه الآريوسيون بالتعاون مع مُطالبٍ بالحكم على مصر وبدفع الضرائب إليه، فاضطر أثناسيوس أن يقصد القسطنطينية للدفاع عن نفسه، فأصغى قسطنطين إليه وعفى عنه وسمح له بالعودة إلى الإسكندرية، وفي السنة ٣٣٣ عقد الآريوسيون مجمعًا في قيصرية فلسطين ودعوا أثناسيوس إليه فلم يحضر، ثم أعادوا الكرة في السنة ٣٣٥ فعقدوا مجمعًا في صور فدعوا أثناسيوس فحضر فقطعوه، فاستأنف حبر الإسكندرية قرارهم، فأمر قسطنطين بانعقاد مجمع في القسطنطينية في السنة ٣٣٦، وفاز الآريوسيون بأغلبية المقاعد فحكم هذا المجمع على أثناسيوس فنُفي إلى فرنسة،١٣ وأصر آريوس على العودة إلى الإسكندرية ولكن الإسكندريين لم يقبلوا به، فأمره الإمبراطور أن يخدم الأسرار في القسطنطينية، فاعترض أسقفها ألكسندروس فأُكره على ذلك إكراهًا، ومات آريوس في السنة ٣٣٦ وظلت قضيتُهُ قائمةً حتى السنة ٣٩٥ — كما سيجيء بنا.
القسطنطينية
وقضت ظروف قسطنطين السياسية والعسكرية ببقائه في الشرق أكثر من الغرب؛ فالقبائل البربرية التي كانت تهدد حدود الدولة في أوروبة كانت تتأثر كثيرًا بحركات القبائل الضاربة في مراعي روسية الجنوبية، والأسرة الساسانية التي كانت قد أعادت إلى فارس نشاطها وطموحها كانت قد بدأت تطمع في ولايات رومة الشرقية، وكانت هذه الولايات الشرقية قد احتفظت بنشاطها الاقتصادي فكانت تؤدي إلى الخزينة مبالغَ عظيمة من المال تَفُوقُ بكثيرٍ ما كانت تؤديه الولايات الغربية، وكانت ولاياتُ البلقان تقدم أفضل الرجال للجيش. ولمس قسطنطين هذا كله فرأى أنْ لا بد من إنشاءِ عاصمةٍ جديدةٍ في الشرق تُسَهِّلُ الدفاعَ عن الدانوب والفرات وتضمن الطمأنينة اللازمة لأبناء الولايات الشرقية، فأراد في البدء أن يجعل مسقط رأسه نيش عاصمةً لملكه، ثم اتجهت أنظارُهُ نحو صوفية Sardica وثيسالونيكية، ورأى بعد ذلك أن طروادة أحق بالشرف من هذه جميعها؛ لأنها كانت موطن الجبابرة ومسقط رأس الرومانيين الأولين الذي أسسوا رومة. وقام إليها بنفسه وخطط العاصمة الجديدة فيها وفي ضواحيها وأنشأ الأبواب الرئيسية، ولكنه تراءى له في الحلم أن إلهه يأمره بالتفتيش عن محلٍّ آخرَ، فوقع اختياره على بيزنطة.١٤
وكانت بيزنطة مستعمرة يونانية قديمة أسسها أبناء ميغارة Megara في السنة ٦٥٢ قبل الميلاد؛ للاتجار بحبوب روسية الجنوبية ومعادن حوض البحر الأسود ومصايد البوسفور، وقامت بيزنطة هذه على رأسٍ ناتئٍ في البحر عند أَوَّل فجوة داخلة في ساحل البوسفور الأوروبي. وكانت هذه الفجوةُ على شكل هلالٍ مائيٍّ داخل في الأرض عشرة كيلومترات؛ ولذا اسمه المتأخر «القرن الذهبي»، واتخذت بيزنطة شكل الرأس الذي عليه فأصبحت مثلثًا تحمي المياه جانبين من جوانبه الثلاثة، ويحمي جانبه الثالث سورٌ قويٌّ لا تتحكم فيه أَيَّةُ مرتفعات مجاورة.
وجاء في التقليد أَنَّ الإمبراطور المؤسس عندما بدأ بتخطيط العاصمة الجديدة أمسك رمحًا بيده وطاف حول بيزنطة وأطال الطواف، فقال له رجال الحاشية: متى تقف يا سيد؟ فأجاب: عندما يقف هذا الذي يسير أمامي، وشاع بين القوم أن قوة سماوية كانت ترشده سواء السبيل،١٥ والواقع أن قسطنطين لم يقف إلا بعد أن أدخل في تخطيطه كل التلال السبع التي ضمها الرأس بين بحر مرمرة والقرن الذهبي، واختار قسطنطين الجزء الجنوبي الشرقي من بيزنطة فأنشأ فيه قصرَه الإمبراطوري، وجعل من الساحة المستطيلة التي وقعت إلى الشمال الغربي من هذا القصر ساحةً عموميةً رئيسيةً دعاها الأوغوسطايوم Augustaeum؛ أي ساحة أوغوسطوس، فغطى أرضها بالمرمر، وأحاطها مِن جميع جوانبها بالمنشآت العامة، وأقام إلى غربي ساحل أوغوسطوس الملعب الكبير Hippodromus الذي أصبح فيما بعد مسرحًا للسياسة ولجميع ظواهر الحياة العامة في العاصمة، فكان يَشمل فيما شمل الكاثيسمة Kathisma؛ أي لوج الإمبراطور، وكان العرش العظيم الذي أُقيم في وسط هذا اللوج هو المكان الذي يطل منه الإمبراطور على شعبه في غالب الأحيان. وازدان هذا الملعب بمسلة فرعونية أُحضرت من مصر، وبالثعبان النحاسي ذي الرءوس الثلاثة الذي صنعه بوسانياس لهيكل دلفي بمناسبة الانتصار على الفُرس في بلاتية (٤٧٩ق.م)، وبالعمود البرونزي المربع.
وأنشأ قسطنطين بالقرب من هذا الملعب وإلى شرقيه بناءً صغيرًا جَعَلَه نقطة الانطلاق لبُعد المسافات في جميع أنحاء العالم الشرقي ودعاه المليون Milion، وكان هذا المليون يُشبهُ الهياكل، ويقوم سقفُهُ على سبعة أعمدة، وبداخله تمثالٌ للإمبراطور وتمثال آخرُ لوالدته هيلانة، وخص قسطنطين المسيحيين بكنيسةٍ كبيرة أسماها كنيسة الحكمة الإلهية Hagia Sophia، ولم تكن هذه كنيسة الحكمة الإلهية الحالية، بل كانت بازيليقة احترقت مرتين فاندثرت، وأقام قسطنطين في هذه المنطقة نفسها مجلسًا للشيوخ وقصرًا للبطريرك.
ولا نعلم بالضبط متى خطط قسطنطين عاصمته الجديدة، وربما كان ذلك بين السنة ٣٢٨ والسنة ٣٢٩، ولكننا نعلم أن تدشينها جرى في الحادي عشر من أيار سنة ٣٣٠ وأن الأساقفة النصارى باركوا القصر وأقاموا صلاة خصوصية في كنيسة الحكمة.
ودعا قسطنطين عددًا من شيوخ رومة القديمة وعددًا كبيرًا من كبار الأغنياء في بلاد اليونان وآسية للإقامة في العاصمة الجديدة، وأغرى آلافًا من رجال الفن والصناعة والتجارة للغرض نفسه، ووزع القمح والزيت مجانًا على السكان، وخصص القمح الذي كان «يُجبى» من مصر للعاصمة الجديدة، وجعل قمح قرطاجة لمئونة العاصمة القديمة، وأصدر أمرًا منح بموجبه المدينة الجديدة لقب «رومة الجديدة» ولكن الشعب أطلق عليها اسم القسطنطينية.١٦
ولا يختلف اثنان في أَنَّ نقل العاصمة إلى هذا المقر الجديد كان — في حد ذاته — عملًا تاريخيًّا عظيمًا؛ لأنه أعطى الدولة الرومانية حصنًا منيعًا تصمد فيه فتصد هجمات البرابرة وتحفظ تراثًا مدنيًّا كبيرًا، ولأنه أمدَّ النصرانية بعاصمةٍ تنطلق منها إلى جميع الجهات، لا سيما وأن رومة كانتْ لا تزال حصن الديانة القديمة وأنها بقيت وثنية إلى وقت طويل.١٧
الإدارة
ونهج قسطنطين في إصلاح الإدارة الطريقَ نفسه الذي سلكه ديوقليتيانوس، ففصل السلطة العسكرية عن السلطة المدنية، وقوَّى الحكومةَ المركزية وحَصَرَ سُلطتها العليا في شخص الإمبراطور، ولم يكن هذا الاتجاه في الإصلاح ابن ساعته، فسويتونيوس المؤرخ الروماني يقول: إن كاليكيولا الإمبراطور (٣٧–٤١ب.م)، كان على استعدادٍ تامٍّ لتقبُّل التاج، وإن الإمبراطور هيليوس جبلوس الحمصي لبس التاج في ظروف خاصة، وإن أورليانوس (٢٧٠–٢٧٥ب.م) زين رأسه بالتاج في المواقف الرسمية واتخذ لنفسه لقب الإله في نُقُوشه الرسمية وعلى نقوده،١٨ ويرى رجالُ الاختصاص أن الأباطرة نقلوا رأيهم هذا في الحُكم عن البطالسة والسلوقيين ثم عن الساسانيين في أيام ديوقليتيانوس وقسطنطين.
وليس لدينا من النصوص الأولية ما يخولنا التبسُّط في وصف الإدارة كما أنشأها ديوقليتيانوس وأقرها قسطنطين، والمرجع الأولي الأساسي في هذا الموضوع هو لائحة رسمية١٩ بوظائف البلاط والإدارة والجيش وبأسماء الولايات ظَنَّهَا المؤرخون السابقون من مخلفات القرن الرابع فاعتمدوها في أبحاثهم، ولكن النقد الحديث يجعلُها من بقايا القرن الخامس لا الرابع.
وعلى الرغم من هذا، يجوز القول إن حكومة الدولة الرومانية في عهد قسطنطين الكبير كانت قد أصبحتْ حكومةً مطلقةَ الصلاحيةِ تستمد سلطتها من قوة الجيش المرابط، ومن محافظتها على الأنظمة الموروثة، ومن احترامها للقانون. وكان على رأس هذه الحكومة إمبراطور متجلبب بعظمة شرقية، يعلو رأسه التاج ويردِّي جسمه الأرجوان، وقد اعتزل قومه وعظم قدره وغشيتْ جلالته الأبصار، فخشعتْ أمامها العيون وتصاغرت عندها الهمم لا يقوم بين يديه إلا كل متهيب ناكس مطرق، وجمع الإمبراطور في شخصه شقي السلطة المدنية والعسكرية، وأصبح مصدر التشريع كما أصبحت أوامره التفسيرات الوحيدة لِمَا يصدر عنه من تشريعٍ. ولما كانت جميع أُمُور الدولة في عُرف الرومان تخضع لسيطرة الحكام، كان الإمبراطورُ — بطبيعة الحال — رئيسَ رجال الدين أيضًا وحبرًا من أحبارهم.٢٠
وجاء على رأس الإدارة المدنية مجلسٌ استشاريٌّ أعلى٢١ مؤلف من رؤساء دوائر الدولة من رئيس الخصيان أقرب المقربين إلى الإمبراطور،٢٢ ومن قومس الإحسان والإنعام،٢٣ وقومس الأملاك الخاصة،٢٤ ومن قسطور القصر المقدس٢٥ أمين القوانين، ومن رئيس ديوان الرسائل،٢٦ وكان هذا يشرف على الكتبة والبريد والحرس ودور الصناعة والشرطة، وكان بين هؤلاء رجال الأمن العام.٢٧
وكان الإمبراطور ديوقليتيانوس قد أقصى الشيوخَ عن إدارة الولايات وجعلها جميعها تابعة له وضاعف عددها؛ ليقلل مواردَ حُكَّامها وأهميتهم، فجعلها مائة وعشرين بدلًا من خمسين، وجعل على رأس كُلٍّ منها رئيسًا٢٨ يشرف على إدارتها وينظر في دعاويها القضائية، ثم جمع بينها فجعلها اثنتي عشرة ذيقوسية: بريطانية وغالية وإسبانية وأفريقية وإيليرية في الغرب، وداقية ومقدونية وتراقية وآسية والبونط والشرق ومصر في الشرق.
وجعل على رأس كل ذيقوسية نائبًا٢٩ يشرف على أعمال رؤساء الولايات وينظر في ما يُستأنف إليه من الدعاوى، وجرَّد قسطنطين المدبر الروماني القديم البرايفيكتوس٣٠ من صلاحياته العسكرية وجعل منه حاكمًا مدنيًّا أعلى، فقسم الإمبراطورية إلى أربع برايفكتورات: غالية وإيطالية وإيليرية والشرق، فشملت برايفكتورة الشرق ذيقوسيات الشرق ومصر وآسية والبونط وتراقية، وشملت ذيقوسية الشرق ولايات فلسطين الأولى وفينيقية وسورية الأولى وقيليقية وقبرص وفلسطين الثانية وفلسطين الثالثة وفينيقية اللبنانية، والفرات وسوريا الثانية والرها، وما بين النهرين وقيليقية الثانية وإسورية والعربية. ولا تزال أسماء هذه الولايات محفوظةً في ألقاب أحبار الكنيسة الأرثوذكسية حتى يومنا هذا.
فمتروبوليت بيروت «مقام من الله على بيروت وتوابعها، متقدم في الكرامة، متصدرٌ في الرئاسةِ على كل فينيقية الساحلية، ومثله متروبوليت طرابلس، ومتروبوليت صور وصيدا. أما متروبوليت حمص فإنه متصدر في الرئاسة على كل فينيقية اللبنانية، ومثله متروبوليت بعلبك ومتروبوليت دمشق، ومتروبوليت حماه متصدر في الرئاسة على كل سورية الثانية، ومتروبوليت حلب على سورية الأولى، ومتروبوليت حوران على كل بلاد العرب الصخرية.»٣١
وراقب رجال الأمن العام الموظفين ورفعوا تقاريرهم إلى رئيس ديوان الرسائل ولكن دون جدوى؛ لأن معظمهم كان بحاجة هو نفسه للمراقبة، وقضت قوانين الدولة بأن يقام في كل مدينة أو قرية كبيرة مَن يفتقد الفقراء في بؤسهم وينظر في أمرهم،٣٢ وكان الأسقف المسيحي أفضل من هذا وذاك، لا سيما وأن الإمبراطور منحه حق النظر في بعض الأُمُور برضاء الطرفين.
الجيش
وأعلى ضباطه سيد الخيالة،٣٣ وسيد المشاة،٣٤ وكان هؤلاء الأسياد أربعة في آخر أيام قسطنطين، وأصبحوا ثمانية فيما بعد، وكان عليهم أَنْ يقودوا الجيوش ويُنَظِّمُوا الحرب، وجاء بعد هؤلاء خمسة وثلاثون دوقًا يقودون قواد الحدود، وكان الجيش مؤلفًا مِن قوات ثلاث: قوة مرابطة على الحدود لا تحيد عنها، وقوتين متحركتين، وكانت القوة المرابطة على الحدود٣٥ بربرية الأصل تحرث ما أُقطعت من أرضٍ وتستغلها، وكان الابن فيها ملزمًا أن يأخذ مكان أبيه. أما القوتان المتحركتان فإنهما كانتا تحت تصرف الإمبراطور، الواحدة تدعى جماعة الرفقاء،٣٦ والثانية جماعة البلاط،٣٧ وكان هنالك نوعان من الفُرسان: نوعٌ خفيف ونوعٌ ثقيل، وكان الأول قديمًا يعود الفضل في إنشائه إلى الإمبراطور غاليانوس الذي ألحق بالفرقة المجندة من المواطنين الرومان جماعة من الفرسان جُنِّدَ أفرادُها من حلفاء رومة؛ ولذا الاسم فرسان الحلفاء.٣٨
وكان النوع الثاني أحدث عهدًا من الأول وأثقل سلاحًا، وقد أُنشئ على طراز الفرسان الفرس ودعي المدرَّع،٣٩ وكان معظم أفراده من البرابرة من وراء الحدود.
طبقات المجتمع
ومنح الإمبراطور كركلا حقوق الرومان المدنية لجميع سكان المدن في جميع أنحاء الإمبراطورية، فأصبح كلهم مواطنين رومانيين منذ السنة ٢١٢ بعد الميلاد، ولكن هذا لم يعنِ التساوي بين جميع المواطنين، فبقي هنالك شرفاء ووضعاء:٤٠ شيوخ وفرسان وجنود لا تنالهم شدة القانون في العقوبات، وأكثرية ساحقة خاضعة لكل ما جاء في القانون من قساوة وشدة، وانتظم الشرفاء طبقات طبقات: فجاء على رأسهم القناصل ثم البطارقة ثم المدبرون فأبناء الجنود والموظفين وقد عرف هؤلاء باللقب كلاريسيمي،٤١ ثم الموظفون المستجدون في الوظيفة الذين استحقوا لقب «صاحب الأفضلية»٤٢ أو لقب «صاحب الكمال أو البراعة.»٤٣
وانتظم سائر أفراد الشعب طبقات وانحصروا فيها وأورثوها أبناءهم من بعدهم، وجاء في طليعة هذه الطبقات طبقة الكوريالس٤٤ أصحاب الأملاك المقيمين في المدن وأمهات القرى الذين تربعوا في دست الحكم فيها جيلًا بعد جيل، واتسق التجار وأصحاب المهن والحرف نقابات مقفلة موروثة، ولا يستبعد أن يكون أصحاب الفاقة ممن تناول خبزه يوميًّا من مخابز الدولة٤٥ قد أصبحوا في عهد قسطنطين طبقة موروثة أيضًا ومثله الكولوني الذين سبقت الإشارة إليهم في فصل سابق.
الثقافة العامة
وكان قد طال عهد الإمبراطورية ودام ثلاثة قرون متتالية وظل الناس في أطرافها يتكلمون لغاتهم الخاصة غير عابئين باللاتينية أو اليونانية، فالقديس إيريناوس الذي كان يجيد اللاتينية واليونانية اضطر أن يتعلم الغاليَّة للتفاهم مع سكان المنطقة التي كان يعمل فيها. وتكلم سكان الجزر البريطانية اللغة الكلتية، كما تكلم المور في أفريقية لهجاتهم البربرية الخاصة، ولم يتكلم الفينيقية فيها سوى الطبقة العُليا من السكان وسكان مالطة، وعلى الرغم من انتشار اللاتينية في إيليرية فإن سكان هذه المنطقة احتفظوا بلهجتِهِم الخاصة التي تطورتْ فيما بعد فأصبحتْ اللغةَ الألبانية، وظل الأقباط والآراميون والعرب والأرمن محتفظين بلغاتهم الأصلية على الرغم من انتشار اليونانية واللاتينية في أوساطهم.
ومعظم الذين تكلموا اليونانية واللاتينية كانوا لا يزالون في عصر قسطنطين أميين لا تهزهم الفصحى، ولم يتعلم الفصحى من هاتين اللغتين إلا عدد قليل من الناس، وعني هؤلاء عناية خاصة بقواعد اللغة وبعلم المعاني والبيان وبذلوا قصارى جهدهم في حقل الخطابة. وكانت جامعة أثينة لا تزال تعنى بالفلسفة، وكانت الفلسفة الرائجة الأفلاطونية الجديدة القائلة بوحدة الوجود، أي: أن الله والكون واحدٌ وأن الكون المادي منبثقٌ من الله.
وأول مَن قال بهذا النوع من التوحيد ووفق بينه وبين فلسفة أفلاطون نومانيوس٤٦ الفيلسوف، وهو فيلسوفٌ سوريٌّ أبصر النور في أبامية في القرن الثاني بعد الميلاد، وتلقى علومه الفلسفية في الإسكندرية ثم أقام في أثينة مدة وعاد إلى أبامية يعلم ويرشد، ويرى رجال الاختصاص اليوم أن أفلوطين (٢٠٥–٢٧٠ب.م) إنما ادعى لنفسه بما كان لغيره،٤٧ وأشهر من علم بهذه الفلسفة بعد نومانيوس وأفلوطين مالك البثني (٢٣٣–٣٠١) الذي درَّس العلم والفلسفة في صور ثم انتقل منها إلى أثينة فأخذ عن فيلسوفها لونجينوس السوري، وترجم اسمه مالك إلى اليونانية فعرف بالفيلسوف بورفيريوس؛ أي المتوشح بالأرجوان الملكي،٤٨ واشتهر بعد بورفيريوس في حقل الأفلاطونية الجديدة يمبليخوس٤٩ العيطوري، ولد في خلقيس «مجدل عنجر» في سهل البقاع في لبنان وعلم فيها وتُوُفي في السنة ٣٣٠ بعد الميلاد، واشتهر يمبليخوس بعدائه للنصرانية ودفاعه عن الوثنية وتطرُّفه في ذلك.
وآثر أبناء العائلات الرومانية الكبيرة درس القانون على غيره من العلوم، وأقبلوا عليه؛ إما للحصول على وظيفة حكومية، أو للمُحاماة أمام المحاكم، أو لمجرد الاطلاع والتثقف، وأدى اهتمامهم بالقانون إلى الاعتناء بعلوم اللغة — ولا سيما الخطابة والفصاحة — وإلى الاطلاع على مبادئ الفلسفة. وعندما حَلَّ القرن الثالث بعد الميلاد كان عصرُ البحث والتنقيب والاجتهاد في القانون قد أشرف على النهاية، وحَلَّ محله عصر الجمع والتنسيق، وكانت بيروت قد أصبحت مستودعًا هامًّا للقوانين الرومانية ومركزًا خطيرًا لدرس هذه القوانين وتدريسها، وكان قد لمع بين أساتذتها أميليوس بابنيانوس الحمصي، مستشار الإمبراطور سبتيميوس سويروس، ودوميتيوس أولبيانوس الصوري٥٠ في القرن الثالث، فقام غريغوريوس البيروتي بجمع القوانين في السنة ٢٩٥،٥١ وجاء بعده هيرموغنيانوس يعمل العمل نفسه فيُكمل مجموعة سلفه في السنة ٣٢٤.٥٢
وكان هنالك طبقةٌ من العلماء آثروا الإحاطةَ على التدقيق والتحقيق، فصَنَّفُوا في المواضيع الجامعة العامة، ولعل أبرزهم في عهد قسطنطين كان يوسيبيوس أسقف قيصرية فلسطين الذي تُوُفي في السنة ٣٤٠ بعد الميلاد، وقد ألف في الدفاع عن النصرانية ضد تَهَجُّمَات اليهود والوثنيين، وكتب في تاريخ الكلدانيين والآشوريين والعبرانيين والمصريين واليونان والرومان، واشتهر بمؤلفه تاريخ الكنيسة٥٣ «منذ ظهور السيد حتى استظهار قسطنطين على ليكينيوس» الذي أصبح فيما بعدُ مِنْ أَهَمِّ المراجع لتاريخ النصرانية في القرون الثلاثة الأُولى، وقد يكون تاريخ قسطنطين الكبير٥٤ له، وقد لا يكون.
تَنَصُّرُهُ ووفاتُه
وفي السنة ٣٣٧ بعد الميلاد أعد قسطنطين العُدَّة لمحاربة الفرس، ولكن هؤلاء فاوضوه في الصلح قبيل عيد الفصح فأوقف استعداده للحرب، واحتفل قسطنطين بعيد الفصح في الثالث من نيسان، ونالتْه الحمى، فذهب إلى مياه معدنية قريبة يستحم فيها، ثم انتقل إلى هيلانوبوليس فأنقيرة بالقُرب من نيقوميذية، وكان يُلازمُهُ في أثناء هذا كله معلم ذمة أخته قسطندية، وكان هو يود أن يعتمد في مياه الأردن كما فعل السيد نفسه، ولكن الوقت عاجله فتقبل سر المعمودية عن يد يوسيبيوس أسقف نيقوميذية، وخلع الأرجوان وألقاه جانبًا وتردى بالبياض.
وتُوُفي يوم العنصرة في الثاني والعشرين من أيار من السنة نفسها. ولم يكن أحدٌ مِنْ أولاده بالقرب منه، وحُنِّط جسمه ووُضِعَ في تابوت من ذهب ونُقل إلى القصر في القسطنطينية ليتقبل احترام الوجهاء، وجاء ابنُهُ قسطنس قيصر من أنطاكية، فعرض جثمانه مكللًا بالتاج ملفوفًا بالأرجوان في أبهى قاعات القصر وأجملها، ثم أمر بنقله بموكب فخم إلى كنيسة الرسل؛ حيث صلى الإكليروس عليه طوال الليل ودفن فيها في ناووس من الرخام السمَّاقي، وأَلَّه الشيوخ قسطنطين حسب العادة الرومانية وعظَّمه الشعبُ الوثنيُّ وعبده أمام تمثاله الذي نصب فوق عمود من الرخام السماقي في الفوروم.٥٥
١ Saxa Rubra وهي Primaporta الحالية.
٢ Lactantius, De Mortibus Persecutorum; Eusebius, Constantini, I, 38–40.
٣ هكذا في الأصل اليوناني وفي المراجع اللاتينية: IN HOC SIGNO VINCES.
٤ Labarum.
٥ Manrice, Jules, Constantin le Grand, 30–36.
٦ Vasiliev, A. A., Byz. Emp., 48.
٧ Lactantius, De Mortibus Persecutorum, 34: 4-5.
Eusebius, Historia Ecclesiastica, vii, 9-10.
٨ Lactantius, Op. Cit., 48, 4–8, Eusebius, Op. Cit., X, 5, 6–9.
٩ Cod. Theod., XVI, 18, 1.
١٠ Eusebius, Vita Constantini, II, 48–60.
١١ Eusebius, Vita Con. III, 55.
٦ Vasiliev, A. A., Byz. Emp., 48.
٧ Lactantius, De Mortibus Persecutorum, 34: 4-5.
Eusebius, Historia Ecclesiastica, vii, 9-10.
٨ Lactantius, Op. Cit., 48, 4–8, Eusebius, Op. Cit., X, 5, 6–9.
٩ Cod. Theod., XVI, 18, 1.
١٠ Eusebius, Vita Constantini, II, 48–60.
١١ Eusebius, Vita Con. III, 55.
١٢ Sozomenis, Hist. Eccl. II, 16-17, III, 13.
Gwatkin, Studies on Arianism, 57, 96.
١٣ Theodoretus, Hist. Ecc..
Socrates Scholasticus, Hist. Ecc..
١٤ Sozomenis, Hist. Ecc. II, 3.
Piganiol, A., Emp. Chretien, 49.
١٥ Philostorgii, Hist. Ecc., ii, 9.
١٦ Maurice, J., Origines de Constantinople, Paris, 1904.
Brehier, L., Constantin et la Fondation de Const., Rev. Hist., 1915, 238.
Emereau, C., Notes sur les Origines de Const., Rev. Arch. 1925, 1–25.
أومان: الإمبراطورية البيزنطية، تعريب الدكتور مصطفى طه بدر، الفصل الأول ص٣–١٣.
١٧ Uspensky, Th. Hist. of Byz. Emp. I, 60–62.
١٨ Deus et Dominus Aurelianus Augustus; Homo, L., Règne de l’Empereur Aurelien, 191–193.
١٩ Notitia Dignitatum.
٢٠ Pontifex Maximus.
٢١ Consistorium Principis.
٢٢ Praepositus Sacri Cabiculi.
أومان: الإمبراطورية البيزنطية، تعريب الدكتور مصطفى طه بدر، الفصل الأول ص٣–١٣.
١٧ Uspensky, Th. Hist. of Byz. Emp. I, 60–62.
١٨ Deus et Dominus Aurelianus Augustus; Homo, L., Règne de l’Empereur Aurelien, 191–193.
١٩ Notitia Dignitatum.
٢٠ Pontifex Maximus.
٢١ Consistorium Principis.
٢٢ Praepositus Sacri Cabiculi.
٢٣ Sacrae Largitiones.
٢٤ Res Privata.
٢٥ Quaestor Sacri Polatii.
٢٦ Magister Officiorum.
٢٧ Agentes in Rebus.
٢٨ Praeses.
٢٩ Vicarius.
٣٠ Praefectus.
٣١ خدمة القداس الإلهي، ليوحنا الذهبي الفم وباسيليوس الكبير وغريغوريوس الذيالوغوس، ترجمة جراسيموس متروبوليت بيروت، ص٢٤٧–٢٥٠.
٣٢ Defensores.
٣٣ Magister Militum Equitum.
٣٤ Magister Militum Peditum.
٣٥ Limitanei.
٣٦ Comitatenses.
٣٧ Palatini.
٣٨ Auxilia.
Cataphracti وهو لفظٌ يونانيٌّ معناه الدرع.
٤٠ Honestiores, Humiliores.
٤١ Clarissimi.
٤٢ Eminentissimus.
٤٣ Perfectissimus.
٤٤ Curiales.
٤٥ Proletarii.
٤٦ Numenius.
٤٧ Guthrie, K., Numenius of Apamea, 96.
٤٨ Porphyrios.
٤٩ Jamblichus.
٥٠ Aemilius Papiaianus, Domitius Ulpianus.
٥١ Codex Gregorianus.
٥٢ Codex Hermogenianus.
٥٣ Historia Ecclesiastica.
٥٤ Vita Constantini.
٥٥ Eutropius, Breviarium Historiae Romanae, X, 8.
Grégoire, Conversion de Const., Rev. Univ.,
Bruxelles, 1930–1391, 270.
Eusebius, De Laudibus Constantini, XVI, 3–5.
الفصل الخامس
قسطنديوس الثاني ويوليانوس الجاحد
٣٣٧–٣٦٣
قسطنديوس (٣٣٧–٣٦١)
وتُوُفي قسطنطين الكبير عن ذُكُور ثلاثة جميعُهُم من زوجته فاوسطة بنت الإمبراطور مكسيميانوس، وهم: قسطنطين الثاني وقسطنديوس الثاني وقسطنس، وحكم الثلاثة الإمبراطورية معًا، فتولى قسطنطين الثاني الغرب: إيطالية وغالية وإسبانية وقسمًا من أفريقيا. وتولى قسطنديوس الثاني الشرق بأكمله. أما قسطنس فإنه حكم إيليرية وقسمًا من أفريقيا، وطمع قسطنطين الثاني في مُلك قسطنس فحاربه ولكنه خَرَّ صريعًا في أكويلية سنة ٣٤٠، ثم تمرد الجُند على قسطنس وقتلوه في السنة ٣٥٠، فأصبح قسطنديوس الثاني المالك وحده، وكان رجلًا عاقرًا لا وارث له، فاستدعى ابن عمه غالوس من منفاه ورفعه إلى رُتبة قيصر وأَمَّرَهُ على برايفكتورة الشرق وجعل مقره أنطاكية، ولكن غالوس هذا كان جافي الطبع فَظَّ القلب قليلَ الرحمة، فطغى وتجبَّر وأرهب الناس إرهابًا، فاستدعاه ابن عمه الإمبراطور إليه في إيطالية في السنة ٣٥٣، وحاكمه وأمر بقطع رأسه، وعندئذٍ طلب ابن عمه الأصغر يوليانوس وجعله قيصرًا على غالية.
شابور ذو الأكتاف١
وتُوُفي هرمز الثاني ابن نرسي في السنة ٣٠٩ بعد الميلاد وأوصى بالملك لشابور ابنه وهو لا يزال جنينًا، فدام السلم بين فارس وبين رومة زمنًا طويلًا، وشب شابور الثاني وتسلم أَزِمَّةَ الحكم، فهاله انتشارُ النصرانية وعطفُ قسطنطين عليها؛ خصوصًا لأنها كانت قد انتشرت بين رعاياه في بابل وطيسفون وجند شابور وآشور وغيرها. ولأن تيريداتس الثالث ملك الأرمن كان قد تقبلها في السنة ٣٠١، فتطورت الخصومة بين شابور وزميله الروماني وأصبح النزاع بينهما نزاع عقائد بعد أن كان نزاعًا ماديًّا استراتيجيًّا — كما سبق أن أشرنا — وهكذا، فإننا نرى شابور يعقد مجمعًا زرادشتيًّا يضم أئمة الدين الفارسي في السنة نفسها التي عقد فيها قسطنطين الكبير المجمع المسكوني الأول، فيقر نصًّا رسميًّا نهائيًّا لكتاب الفستا، ونراه ينزل بنصارى بلاده بين السنة ٣٤٠ والسنة ٣٧٩ اضطهاداتٍ قاسيةً واسعةَ النطاق لأنهم دانوا بدين قيصر وشاطروه المحبة والعطف والولاء.٢
وكادت الحرب تقع قبيل وفاة قسطنطين الكبير في السنة ٣٣٧ — كما سبق أن أشرنا — فقطع ذو الأكتاف الحدودَ في السنة ٣٣٨، وحاصر نصيبين، ثم عاد إليها في السنة ٣٤٦، وفي السنة ٣٤٨ جَرَتْ موقعةٌ ليليةٌ في منطقة سنجار، وفي السنة ٣٥٠ طلب ذو الأكتاف تغرانوس السابع ملك أرمينية للمفاوضة، فأسره ومضى به إلى بلاده. ويقال إنه سمل عينيه؛ لأنه كان نصرانيًّا مثل سلفه. وفي السنة نفسها مشى ذو الأكتاف إلى نصيبين للمرة الثالثة وشارف أسوارها مستعينًا بالفيلة التي استقدمها من الهند، ولكنه أخفق مرة أخرى وارتد على أعقابه لدرء خطر الشينيين الذين تدفقوا على فارس من الشمال والشرق.
وفي السنة ٣٥٥ جدد مَلِك أرمينية أرشاك الثالث (٣٥١–٣٦٧) التحالفَ الرومانيَّ الأرمني، وتزوج من أوليمبياس خطيبة قسطنس السابقة، فأَقضَّ ذلك مضجعَ شابور الثاني ذي الأكتاف واستفزه للحرب؛ وخصوصًا لأن عامله في بابل كان قد جرَّأَه بما بالغ له في تصوير المشاكل التي كان يُعانيها قسطنديوس الإمبراطور في الغرب، وعبر شابور دجلة في جيش عظيم في السنة ٣٥٨ فتجاوز نصيبين هذه المرة ولم يحاصرْها بل زحف على آمد «ديار بكر» فأخذها عنوةً بعد حصار دام شهرين. وكان قسطنديوس لا يزال في سيرميوم في إيليرية يعالج بعض المشاكل الدينية المسيحية، ولا سيما علاقة الآب بالابن، فقام منها إلى القسطنطينية وبقي فيها طوال شتاء السنة ٣٥٩-٣٦٠.
وفي ربيع السنة ٣٦٠ نهض من القسطنطينية لمُجَابَهَة الخطر الفارسي، ولدى وُصُوله إلى قبدوقية سمع بخيانة ابن عمه يوليانوس، فلم يكترثْ لها؛ لأنه كان يَجهل مواهبَ هذا الزميل الجديد، وكان شابور ذو الأكتاف قد استأنف الحرب فاحتل سنجار، ثم اتجه منها إلى بيت زبدي «جزيرة ابن عمر» على ضفة دجلة الغربية وحاصرها، فحاول قسطنديوس أن يفك هذا الحصار فلم يُفلح، وسقطت بيت زبدي في يد الفرس في خريف السنة ٣٦٠، وأقبل فصلُ الشتاء فتوقفت الأعمالُ الحربية ولبث قسطنديوس في أنطاكية، وفيها احتفل بزواجه الثاني بعد وفاة يوسيبية زوجته الأولى.
وكانت حاشيةُ قسطنديوس لا تزال توغر صدره على ابن عمه يوليانوس، بينما خطر الفرس في الشرق يتعاظم، فطلب الإمبراطور إلى ابن عمه القيصر أن يوافيَه بأحسن ما عنده من الجُند للصمود في وجه الفرس، ويقال إن يوليانوس مَالَ إلى تلبية الطلب ولكن جنوده تمردوا احتجاجًا ونادوا به إمبراطورًا في باريز في السنة ٣٦٠. وكتب يوليانوس إلى قسطنديوس يرجو منه الاعتراف بما تم ولكن قسطنديوس أَصَرَّ عليه أَنْ يَتَنَازَلَ ويثبت الطاعة، فاضطر يوليانوس أَنْ يزحف بجُنده على الشرق، وسار قسطنديوس من أنطاكية إلى القسطنطينية فالغرب لمنازلة خصمه، ولكنه مرض وهو لا يزال في طرسوس، واشتد الخطر على حياته فاعتمد بيد أسقف أنطاكية الآريوسي افزويوس، وتُوُفي على مسيرة يوم من طرسوس في الثالث من تشرين الثاني سنة ٣٦١. وأجمل ما يُذكر عنه أنه عندما أشرف على التلف أوصى بأن يكون يوليانوس نفسه خلفًا له.
الوثنية
وأراد قسطنديوس الثاني أن يقضي على الوثنية فأمر — بادئ ذي بدء — «بأن يوضع حد للخرافات وبأن يستأصل مرض تقديم الذبائح.»٣ ثم أمر بإقفال الهياكل وحظَّر تقديمَ الذبائح للآلهة مهددًا من يخالفه بالموت وبمصادرة الأملاك، وكان أن احتفل في السنة ٣٥٧ في رومة بمرور عشرين عامًا على تَبَوُّئِهِ العرشَ، فطاف بآثارها ودخل إلى مبنى مجلس الشيوخ وفيه مذبح لآلهة النصر فأمر بهدمه، فأدرك الشيوخ وغيرُهُم مِنْ أعيان الوثنية أَنَّ دين الأجداد قَارَبَ النهايةَ.
ولكن قسطنديوس كان آريوسيًّا متطرفًا فأعلنها حربًا على النيقاويين الكاثوليكيين الأرثوذكسيين، فاضطهد أثناسيوس الكبير بطريرك الإسكندرية، ونفى هوسيوس الأسقف الإسباني صديقَ والده وهو في سِنٍّ تَزيد على المائة، كما نفى ليباريوس بابا رومة؛ لأنه كان قد امتنع عن قَبُول مقررات مجمع ميلان (٣٥٥).
يوليانوس الجاحد (٣٦١–٣٦٣)
هو يوليانوس بن يوليوس بن قسطنديوس الأول «كلوروس»، وهو أخو غالوس لأبيه لا لأمه، كما كان والده يوليوس أخا قسطنطين الكبير لأبيه لا لأمه، فوالدةُ قسطنطين هيلانة ووالدة يوليوس تيودورة ووالدة غالوس غلَّة ووالدة يوليانوس باسيلينة.
ولد يوليانوس في النصف الثاني من السنة ٣٣١ في ميسية على الدانوب، وما إن مضت بضعة أشهر حتى توفيت والدته، فنقل إلى القسطنطينية ونشأ في قصرٍ لجدته في بر الأناضول لا يبعد كثيرًا عن العاصمة، وفي السادسة من عمره؛ أي في السنة ٣٣٧، شهد مقتل والده وجميع أقربائه ونجا هو وأخوه غالوس بأعجوبة، فشبَّ مضطرب العصب غير متزن، وتولى أمره في هذه الفترة من حياته يوسيبيوس الآريوسي أسقف نيقوميذية ونسيب والدته، فوكل أمر تهذيبه إلى خصيٍّ نصرانيٍّ «مردونيوس» كان شديد الإعجاب بهوميروس الشاعر اليوناني، وتُوُفي يوسيبيوس في السنة ٣٤١، فنفى قسطنديوس الأميرين الصغيرين إلى قصرٍ في قبدوقية على مسافة قريبة من قيصرية، أما غالوس فشب شرسًا أحمق، وأما يوليانوس فإنه قضى ست سنوات يدرس ويطالع مؤلفات أعاره إياها كاهنٌ نصرانيٌّ. وفي السنة ٣٤٧ أمر قسطنديوس بانتقال غالوس إلى إفسس ويوليانوس إلى القسطنطينية.
وأقام يوليانوس في عاصمة الدولة سبع سنوات احتكَّ فيها بِعَالِمَيْن شهيرَين أحدهما وثنيٌّ والآخر نصرانيٌّ، وتعلم مبادئ اللاتينية، ورحب الجمهور بالأمير الصغير وأكرمه، فدخلت الريبة نفس عمه وأمر بنقله إلى نيقوميذية، وكان ليبانيوس العالم الأنطاكي «اللبناني!» قد ترك مدرسة نيقوميذية، فلم يتسنَّ ليوليانوس أن يأخذ شيئًا عنه، ولكنه تابع الدرس في نيقوميذية وحلق رأسه كَمَنْ يُريد أن يكون فيلسوفًا مسيحيًّا، وفي السنة ٣٥١ رضي قسطنديوس عن الأميرين فجعل غالوس قيصرًا وأعاد إلى يوليانوس إرثه فأصبح غنيًّا، ورحل يوليانوس في طلب العلم فَأَمَّ برغامون في آسية الصغرى واتصل فيها بأديسيوس Adesius الفيلسوف الأفلاطوني الجديد، وبتلميذه خريسانطيوس Chrisantius الفيلسوف الفيثاغوري، وتردد إلى إفسس فاتصل بفيلسوفها مكسيميوس وكان هذا يمارس ضروب السحر، فوقع يوليانوس تحت تأثير شعوذاته، ودخل في زُمرة أتباعه في كهف هيكاتية إلهة الشياطين عند الأفلاطونيين الجدد، وسمع شقيقه غالوس بهذا كله فاضطرب وأرسل إليه من أنطاكية معلم ذمته ليرده عن الضلال، وكان ما كان من أمر غالوس وإعدامه في السنة ٣٥٤، ومثل يوليانوس بين أيدي الإمبراطور قسطنديوس في ميلانو؛ ليدافع عن نفسه فيما اتُّهِمَ به من أنه اجتمع بغالوس في القسطنطينية، فشفعت له الإمبراطورة يوسيبية وأُذن له بالإقامة في آثينة، فتوجه إليها بشغف شديد والتحق بجامعتها ثلاثة أشهر، وذلك في صيف السنة ٣٥٥، وكان بين رُفَقَائِهِ فيها غريغوريوس النازيانزي وصديقه باسيليوس القديس، ومِمَّا قاله فيه غريغوريوس فيما بعد: إنه كان تَائِهَ النظر في آثينة أَحْمَقَ السيماء تنتابه رعشاتٌ عصبيةٌ من آنٍ إلى آخر، وإن أسئلته لم تكن منظمة أو مرتبة.
وكان قسطنديوس يخشى تطلع الغاليين إلى الاستقلال، ولم يكن بإمكانه أن يُشرف بنفسه على أُمُورهم لكثرة أشغاله ولشدة خوفه مِنْ شابور ومطامعه، فاستدعى يوليانوس إليه وأطلعه على ما كان يخالج فؤاده ودفع به إلى شفيعته الإمبراطورة، فقالت هذه ليوليانوس: أنت مدين لنا بالشيء الكثير وسيكون لك أكثر فأكثر بعون الله إذا كنت أمينًا منصفًا، وكان يوليانوس قد التحى لحية الفلاسفة فأمر بها عمه فحلقت وارتدى يوليانوس لباس الأمراء، وفي السادس من تشرين الثاني من السنة ٣٥٥ استعرض قسطنديوس الجند وأمسك بيده يوليانوس وقال للجند: «أنتم الحَكَم! لقد طغى البرابرة على غالية، وإني أُرشح يوليانوس قيصرًا، فهل تقبلون؟» فصرخ الجند: «هذه هي مشيئة الله!» وعندئذٍ وضع قسطنديوس التاج على رأس يوليانوس ووشحه بالأرجوان، وشفع الجند عمله بأن دقوا ركبهم بالتروس.
ثم تزوج يوليانوس من هيلانة ابنة قسطنديوس وقام إلى غالية، وبقي فيها ثلاث سنوات، أظهر في أثنائها من الحزم والعدل واللطف ما فتن الناسَ به وأذاع صيتَه في الغرب والشرق معًا، وكان ما كان مِنْ أَمْرِ شابور ذي الأكتاف فقضت الظروف العسكرية بوجوب الاستعانة بأفضل مَنْ في الغرب من جُنُودٍ، على أن جنود يوليانوس آثروا المناداة به إمبراطورًا وسايرهم هو على الأمر. وفي صيف السنة ٣٦١ مشى إلى الشرق على رأس خمسة وعشرين ألفًا، واحتل سرميوم ونيش، ثم علم بوفاة قسطنديوس وبما أوصى به فأسرع إلى القسطنطينية ودخلها في الحادي عشر من كانون الأول سنة ٣٦١.
سياسة يوليانوس الداخلية
وما كاد يوليانوس يجلس على أريكة القسطنطينية حتى أمر بتشكيل مجلسٍ خاصٍّ لتطهير الإدارة من أدران الحكم السابق. وتألف هذا المجلس من أخصاء الإمبراطور العسكريين، فحكموا بالإعدام على طائفة من رؤساء الدوائر المدنية وبالنفي على غيرهم، وتناول مثل هذا التطهير القصر الإمبراطوري، فطرد الإمبراطور الجديد عددًا كبيرًا من الخَدَم والحشم ولا سيما الخصيان، وأراد أن يظهر بمظهرٍ جمهوريٍّ فعظَّم القناصل وجالس الشيوخ كأنه واحدٌ منهم. وعلى الرغم من قلة النقد في الخزينة فإنه أمر بتخفيف ضريبة التاج التي كانت تُجبى في مناسبة تبوُّء العرش.
موقفه من النصرانية والوثنية
وكان يوليانوس يرى في مصنفات علماء اليونان وفلاسفتهم ينبوع الثقافة كلها، ويرى في فلسفتهم فلسفة عالمية تتعدى حدود اليونان الجغرافية فتشمل العالم بأسره، وكان يرى في مؤلفات فيثاغورس وأفلاطون ويمبليخوس مئونة فكرية كافية يستغني بها كل عالم عن كل قولٍ فلسفيٍّ آخرَ، واستهواه يمبليخوس اللبناني وسيطر على تفكيره فابتعد عن أفلاطون ولم يهتدِ بهديه.
ويستدل من رسائله — ولا سيما تلك التي جعل عنوانها «الملك الشمس» — أنه قال بأكوان ثلاثة أو شموس ثلاث: الشمس الأولى شمس الحقائق الراهنة والمبادئ السامية والعلة الأولى وهي التي سمَّاها الشمس النفس، والشمس الثالثة شمس المادة الملموسة وصورة انعكاس الشمس الأُولى. وبين الاثنتين — بين النفس والمادة — شمسٌ ثانية هي شمس العقل. ولَمَّا كانت الشمس الأُولى بعيدةَ المنال وكانت الشمس الثالثة مادية غير صالحة للعبادة، فإن يوليانوس عَبَدَ شَمْسَ العقل وسمَّاها الملك الشمس، واعتقد أنه هو سليل الملك الشمس يهتدي بإرشاده عن طريق رؤًى معينة يتفضل بها عليه الملك الشمس بين حينٍ وآخرَ. وقال بتناسُخ الأرواح على طريقة فيثاغورس، فاعتقد أنه هو الإسكندر في دور آخر.
وتبنى في رسالته «ما يؤخذ عن النصرانية» موقفَ بورفيريوس الفيلسوف الحوراني اللبناني، فقال إن الإله يهوه إله التوراة هو إله شعب خاص لا إله الكون بأسره، وأنه هنالك تناقضًا بين التوحيد في التوراة والتثليث في الإنجيل، وأن الأناجيل الأربعة متنافرةٌ غير متآلفة، وكره النصارى لأنهم كفروا بالآلهة، كما كره كل وثنيٍّ لعن آلهة أجداده وجدَّف عليها.
ولا نعلم بالضبط متى أَعلن يوليانوس نفسه وثنيًّا، وقد يكون ذلك في السنة ٣٦١ في نيش عندما علم بوفاة قسطنديوس وبوصيته؛ ففيها ذبح يوليانوس باسم الآلهة، ومنها كتب إلى بعض أصدقائه، ولكن هذا لم يعنِ اضطهاد النصرانية، فإنه عندما دخل القسطنطينية استدعى إليه مكسيميوس الوثني كما استدعى القديس باسيليوس رفيقه في جامعة آثينة.
ومنح يوليانوس الشعب حريةَ المعتقد وسمح بعودة من نفي مضطهدًا، فاغتنم الفرصة أثناسيوس الكبير وعاد إلى الإسكندرية، ولكن يوليانوس ما لبث أَنْ أصدر في السابع عشر من حزيران من السنة ٣٢٦٢ قانونًا جديدًا للتعليم حَصَرَ بموجبه تعيينَ الأساتذة بيد السلطة المركزية ومنع المسيحيين من مزاولة هذه المهنة؛ «لأنهم حرَّموا درس النصوص الفلسفية القديمة.»٤ فانبرى كلٌّ من أبوليناريوس كاهن اللاذقية وابنه أسقفها لنظم التاريخ المقدس في لغة يونانية قشيبة فُصْحَى، فأَخْرَجَا أربعًا وعشرين قصيدة ضَمَّنَاها أخبارَ التوراة منذ البدء حتى عهد شاوول، وحذا حذوهما غيرُهُما من الآباء، فتيسرتْ للنصارى نصوصٌ يونانيةٌ فُصحى استعاضوا بها في تعليم أولادهم عن النصوص اليونانية الوثنية.
وأفرغ يوليانوس مجهوده في تذليل الأكليروس، فنزع منهم امتيازاتهم وأبطل ما كان قد أمر به قسطنطين الكبير من معونة لهم، وكان يقول مستهزئًا إِنَّ قصده من ذلك أن يقود المسيحيين إلى الكمال بحملهم على إتقان الفقر الذي أمر به الإنجيل، وعرَّى الكنائس ونقل تحفها إلى هياكل الأوثان.
في أنطاكية
ودبَّ النشاط في صفوف قبائل القوط في قطاع الدانوب، وحسب يوليانوس لذلك حسابه، ولكنه آثرَ العمل في الشرق في جهة الفرات؛ لأنه كان يَعتقد أنه هو الإسكندر في دورٍ ثانٍ، فقام إلى أنطاكية في صيف السنة ٣٦٢ فوصلها في التاسع عشر من تموز يوم انتحاب العذارى على مقتل أذوناي عشيق عشتروت، وكان ليبانيوس الفيلسوف الأديب قد عاد إليها ليعلم فيها إخوانه الأنطاكيين، فاستقبل الإمبراطور الجاحدَ استقبالًا حارًّا، ولكن أنطاكية كانت قد أصبحت مسيحية، فهال يوليانوس إعراضُ أهلها عن الدين القديم وقلة اكتراثهم بهياكل دفنة المقدسة، فقال في إحدى رسائله إلى الأنطاكيين: «هو ذا الشهر العاشر شهر لوس الذي تبتهجون فيه بعيد أبولون الإله الشمس، وكان مِن واجبكم أن تزوروا دفنة، وكنت أنا أتصور موكبكم لهذه المناسبة شبانًا بيضًا أطهارًا يحملون الخمور والزيوت والبخور ويقدمون الذبائح، ولكني دخلت المقام فلم أجدْ شيئًا من هذا وظننتُ أني لا أزال خارج المقام، فإذا بالكاهن ينبئني أن المدينة لم تقدم قربانًا هذه المرة إلا وزَّةً واحدةً جاء بها هو من بيته!»٥
وأكرم يوليانوس ليبانيوس الفيلسوف الوثني، ورقَّى عددًا من الوجهاء إلى رتبة المشيخة فجعلهم أعضاء سناتوس أنطاكية، ووهب للمدينة مساحات كبيرة من أراضي الدولة، ولكن الأنطاكيين المسيحيين قابلوه بالهزء ووجدوا في النقيضين — لحيته الطويلة وقامته القصيرة — مجالًا واسعًا لأنْ يمارسوا ما طاب لهم من ضروب العبث والسخر،٦ وعبثًا حاول ليبانيوس أن يوفق بين الإمبراطور وبين رعاياه الأنطاكيين، ثم اشتد الخلاف وتفاقم الشر حين أخرج الإمبراطور بقايا شهيد أنطاكية القديس بابيلاس من قبره في دفنة، فغضب المسيحيون لكرامتهم وأحرقوا في الثاني والعشرين من تشرين الأول هيكل أبولون، فأقفل الإمبراطور كنيسة أنطاكية الكتدرائية وأمر بنهبها وتدنيسها، فكسَّر المسيحيون تماثيلَ الآلهة وأبى الجند المسيحيون أن يَسيروا تحت لواء الإمبراطور الجاحد لمحاربة الفرس.٧
وعلم يوليانوس أن يسوع تنبأ بأن لا يبقى من الهيكل في أوروشليم حجر على حجر، فلكي يكذِّب الكتب اهتم لإعادة بناء الهيكل، فأرسل إلى أوروشليم أحدَ أمنائه إليبيوس ليشرف على العمل، وتقاطر اليهود واجتمع عدد كبير منهم في مكان الهيكل، فجرفوا المكان وحفروا في الأرض كبارًا وصغارًا رجالًا ونساءً، ولَمَّا انتهَوا مِن هدم الأساسات القديمة وأوشكوا أنْ يضعوا الأساسات الجديدة حدثتْ زلزلةٌ هَدمت الأبنية المجاورة وقتلت بعض الفَعَلة وملأت الحفر ترابًا.
الحرب الفارسية
ولم يسعَ شابور ذو الأكتاف للحرب هذه المرة، بل فاوض في سبيل السلم والوئام وبعث الرسل إلى أنطاكية، ولكن يوليانوس أبى أن يُصغي إليهم واكتفى بالقول: «قريبًا ترونني.» واسترضى اليهود في مملكته؛ طمعًا في أن يعاونه إخوانهم في فارس، وحالف ملك أرمينية على الرغم من نصرانيته، ونهض في ربيع السنة ٣٦٣ إلى الفُرات على رأس جيشٍ مؤلَّف من خمسة وستين ألفًا. وكان يود أن ينصب على عرش فارس هورمزد أخا شابور وكان هذا لا يزال داخل الحدود الرومانية منذ السنة ٣٢٤، وقطع يوليانوس الفرات على جسر من القوارب، ولدى وصوله إلى الخابور أفرز ستة عشر ألفًا بقيادة بروكوبيوس أحد أنسبائه؛ ليتجه بهم شرقًا عن طريق نصيبين ويتصل بالأرمن الزاحفين شطر الجنوب، وأعطى بروكوبيوس في السر ثوبًا أرجوانيًّا وعينه خلفًا له في حال الوفاة، وزحف هو يحاذي الفرات في طريقه إلى بابل. وكان ذو الأكتاف قد أخطأ التقدير فحسب أن الجيش الروماني سينطلق من نصيبين، فاتجه هو إلى دجلة لمقابلة أعدائه، وتابع يوليانوس زحفه جنوبًا ثم اتجه شرقًا إلى دجلة، واحتل سلوقية وواقع خصمه عندها، فانتصر عليه انتصارًا باهرًا. واستأنف الزحف على طيسفون عاصمة شابور، فبلغها وشابور لا يزال بعيدًا عنها. وكانت طيسفون صعبة المنال، فرأى يوليانوس أن يتصل ببروكوبيوس والأرمن قبل ضرب الحصار عليها، وفيما هو فاعلٌ ضايقه الفرس في السادس والعشرين من حزيران بهجوم متتابع، وكان هو قد نزع عنه درعه من شدة الحر فاضطر فجأة أن يتقدم إلى الصفوف الأمامية لرد هجوم على مؤخرة جيشه، فأصابه سهمٌ في ذراعه عقبه نزيف شديد، وعبثًا حاول أطباؤه وقف النزيف فتُوُفي في منتصف الليل وهو يحدِّث صديقيه الفيلسوفين مكسيميوس وبريسكوس عن صفات النفس السامية العالية، وقيل إن فارسًا مسيحيًّا من فرسانه رماه بهذا السهم للقضاء عليه.
١ «وقصد اليمامة وأكثر في أهلها القتل، وغوَّر مياه العرب، وسار إلى قُرب المدينة، وفعل كذلك وكان ينزع أكتاف رُؤَسَائهم ويقتل، فسموه شابور ذا الأكتاف» (ابن الأثير، ج١، ص٢٢٩، الطبعة المنيرية).
٢ Acta Martyrum et Sanctorum, II, 136, 143.
٣ Codex Theodosianus, XVI, 10, 2.
٤ Julianus, Opera, II, 544, Epistola, 42.
٥ Julianus, Opera, II, 167; Wright, W. C., Works of Emp. Julian II, 487–489.
٦ Negri, G. Julian II, 430–470.
٧ Ammianus, XXII, 13, 1; Soz. V, 19; Piganiol, A., Emp. Chret., 130–132
الفصل السادس
ثيودوسيوس الكبير
٣٧٩–٣٩٥
خلفاء يوليانوس
وتشاور رؤساء الجند في من يكون خلفًا ليوليانوس، فأجمعوا على مدبر برايفكتورة الشرق سلوتيوس سكندوس،١ ولكنه اعتذر عن القبول بداعي المرض والتقدم في السن، فنادى قسمٌ من الجند بيوفيانوس٢ إمبراطورًا، وكان هذا رئيس الخَدَم في القصر مسيحيًّا نيقاويًّا من بانونية بين الشرق والغرب، فأيَّده الجنود المسيحيون، ورضي عنه رؤساؤهم الشرقيون والغربيون معًا، فوقَّع صلحًا مع الفُرس تنازل فيه عن جميع ما وقع شرقي دجلة، وعن نصيبين وسنجار ونصف أرمينية، وعاد إلى أنطاكية فوصل إليها في خريف السنة ٣٦٣، وكان لا يزال في الثلاثين من عمره، ضئيل الحظ من الثقافة، يحب الخمر والنساء، وعلى الرغم من اتصال أثناسيوس الكبير به وإلحاحه عليه، فإنه لم يخرج في سياسته الدينية عن الخطة التي رسمها قسطنطين الكبير؛ ولذا نراه يقول بطريرك الإسكندرية أثناسيوس نفسه: «إني أكره الشقاق وأحب من يعمل في سبيل الوئام.»٣ وأصدر براءةً أوجب فيها عبادةَ «الكائن الأعلى»، وحرَّم «الخرافات»،٤ ثم ما لبث أن وُجد ميتًا بخيمته في آسية الصغرى، بعد أن قضى ليلة بين الكئوس والأباريق، وذلك في أوائل السنة ٣٦٤.
واجتمع رؤساءُ الجُند في نيقية وتداولوا في أمر الخلافة، وكانوا لا يزالون هم الذين رفعوا يوفيانوس إلى منصة الحُكم، فطلبوا إلى سلوتيوس سكندوس أن يكون ابنه خلفًا ليوفيانوس، فأبى؛ نظرًا لصغر سنه، فأجمعوا على ولنتنيانوس٥ أحد قادة الحرس، وكان هذا أيضًا من بانونية بين الشرق والغرب، وما إن أطل على الجند ليخطب فيهم حتى قاطعه عددٌ منهم بدق التروس طالبين إمبراطورًا آخرَ يُشاركه في الحكم، فاستمهلهم وشاور الرؤساء، فقال أحد هؤلاء: «إن كنت تحب أسرتك فإن لك أخًا، وإن كنت تحب الدولة فانتقِ الأليق.» وفي الثامن والعشرين من آذار من السنة ٣٦٤ قدَّم أخاه والنس٦ أوغوسطسًا وشريكًا له في الحكم، وتشاطر الاثنان المُلك فحكم والنس الشرق (٣٦٤–٣٧٨)، وتولى ولنتنيانوس الغرب (٣٦٤–٣٧٥)، واتفق الاثنان على أُمُور معينة أهمها حرية المعتقد، ومنع إعفاء أحد من الضرائب، وإقامة جباة من الموظفين لجمعها، واقتسام الملك اقتسامًا تامًّا كاملًا، بحيث تُصبح الإمبراطورية دولتين: شرقية وغربية.
وعبر الهون الفولكة في السنة ٣٧٢ بعد الميلاد — أو قُبيلها — متدفقين كالسيل الجارف في سهول روسية الجنوبية، فاحتلوا مراعي قبائل الآلاني ثم أراضي القوط الشرقيين حتى نهر الدنيستر، ولم يبق حائلًا بينهم وبين مصب الدانوب سوى القوط الغربيين، وكان قسمٌ كبيرٌ منهم قد قبل النصرانية على يد أولفيلاس القبدوقي (٣١٠–٣٨١) الذي نقل الإنجيل إلى لُغتهم، فهَبَّ أثناريكوس٧ ملِك هؤلاء القوط الغربيين يستعد للدفاع، فأنشأ خطًّا يصمد وراءَه من منبع البروت حتى مصب الدانوب، وعبر الهون الدنيستر وجازوه عند مصبه، ففرَّ جماعةٌ من القوط الغربيين وخذلوا قومهم واتجهوا غربًا وجاءوا يفاوضون والنس في الانتقال إلى داخل الحُدُود الرومانية والإقامة في تراقية، وكان على رأس هؤلاء فريتيغرن وألافيف،٨ وأما أثناريكوس فمضى بجماعته واحتل جبال البنات في المجر.
وقد رأى والنس الإمبراطور في مَنْ انحاز إليه من القُوط عُنصرًا طيبًا وأداةً فعَّالة لتقوية الجيش ولا سيما فرقة الخيالة؛ فقبل مطلبهم أن يدخلوا الحدود، فعبروا الدانوب خمسين ألفا، وما إن فعلوا وألقوا سلاحهم حتى شعروا بالفاقة وقلة المأكل، فاستعادوا سلاحهم بالرشوة وجالوا في البلقان ينالون قُوتَهُم بالقوة، ووقعت اصطداماتٌ عنيفةٌ هنا وهنالك، فأضمر الرومان السوء ودعوا الزعيمين القوطيين في مطلع السنة ٣٧٧ إلى مأدبة فاخرة في ماركيانوبوليس وحاولوا اغتيالهما، فنجا فريتيغرن بخدعة محكمة واندلعت نيرانُ الحرب بين الفريقين في كل مكان، ولم يقوَ الجيش الروماني المرابط في البلقان على ضبط الموقف، فاستقدم والنس نجداتٍ من الشرق القريب، وأمده غراتيانوس ابن أخيه ببعض الكتائب، ثم قام هو بنفسه على رأس الجيش الغربي لإعانة عمه، ولكن والنس تَسَرَّعَ فنازل فريتيغرن قبل وُصُول غراتيانوس، وذلك في الثامن من آب سنة ٣٧٨، وعلى مقربة من أدريانوبوليس، فاكتسحت الموقف خيالة القوط، وخَرَّ والنس في ساحة القتال صريعًا، وقيل إنه أُحرق حرقًا، وغشي القوط الريف كله ولكنهم لم يتمكنوا مِنْ إخضاع المُدُن المحصنة لنقصٍ في العتاد.
ثيودوسيوس الكبير
وعظُم الأمر على غراتيانوس وهاله، فاستدعى إليه ثيودوسيوس أَشْهَرَ القادة وأَمْهَرَهم في الحرب، وفاوضه في أمر القوط وطلب إليه أَنْ يتناسى ما كان قد لحق به وبوالده قبله من شرٍّ وضيم، ورفعه إلى منصة الحكم ونادى به إمبراطورًا على الشرق، وكان ثيودوسيوس حسن القد، رشيقًا، أشقر الشعر، أزرق العينين، أشرف الأنف، يشبه تريانوس ويدَّعي الانتساب إليه، وكان أيضًا عالي النفس، رفيع الأهواء، يُكثر من مطالعة التاريخ الروماني، ويحس الواجب القومي أيما إحساس،٩ فتقبل التاج في سرميوم في التاسع عشر من كانون الثاني سنة ٣٧٩، وهبَّ للقتال فأوقع بالقوط — فيما يظهر — ضرباتٍ أوليةً متتالية، ثم رأى أَنْ لا بد من الاستيلاء على ثيسالونيكية لتأمين الزاد والعتاد الورادَين من مصر والشرق، فاشتق طريقه إليها ووصلها في أوائل حزيران واستقرَّ بها. وكان في أثناء هذا كله يَتَشَاطَرُ جنودَه المشقة كأنه واحدٌ منهم، ويعنى بتنشيطهم وتشجيعهم، ويؤمِّن راحتهم، فأحبوه واندفعوا في سبيله وازدادوا قوةً ومناعةً.
ورأى الإمبراطور أيضًا أن يقوم بحملة عسكرية يصل بها إلى الدانوب، فيهوِّل على أعدائه ويفاوضهم في الوقت نفسه، إذا وافقت الظروف، فوصل إلى أسكوب في السادس مِنْ تموز، وإلى فيقوس أوغوسطة في الثاني من آب، ولكنه عاد إلى ثيسالونيكية لتمضية فصل الشتاء، وفي شباط السنة ٣٨٠، انتابه مرضٌ عضالٌ أَشْرَفَ به على الموت، فطلب الاعتماد ليغسل جميع ذنوبه قبل ملاقاة ربه، وتعمد على يد أخوليوس أسقف ثيسالونيكية عمادة نيقاوية أرثوذكسية، ثم تماثل وتعافى، فعاد يعالج مشكلة الجيش، فأمر بتجنيد الفلاحين والعمال، وبملاحقة أبناء الجنود المختبئين في مكاتب الدولة، وبإنزال أشد العقاب بمن يقطع إبهامه للتخلص من خدمة العلم. وأمر كذلك بمن كان قد دخل في الجيش من القوط أن يُنقل من البلقان إلى الشرق، وباستبدال هؤلاء بجنود شرقيين يحلون محلهم في البلقان.
وقامت فرقة من الجنود القُوط إلى الشرق، فعبرت المضايقَ ووصلت إلى ليدية، ولكنها اشتبكت فيها مع فرقة شرقية كانت قد قامت من مصر لتحل محل الفرقة القوطية أو غيرها في البلقان، وفيما كان ثيودوسيوس يعدُّ العدة على هذا النحو، تنافر القوط في البلقان وتنازعوا، واشتد الخصام بين جماعة أثناريكوس وجماعة فريتغرن، وتُوُفي فريتغرن في صيف السنة ٣٨٠، فخف القتال في جنوبي البلقان، وجاء غراتيانوس إمبراطور الغرب في الوقت نفسه إلى سرميوم وفاوض القوط في الشمال وهادنهم على أن ينتظم أبناؤهم في خدمة الجيش الروماني في مقابل تقديم الزاد اللازم للعشائر، فهدأت الحال وقام ثيودوسيوس من ثيسالونيكية إلى القسطنطينية فدخلها دخول المنتصر في الرابع والعشرين من تشرين الثاني سنة ٣٨٠ وجعلها مقره الرسمي.
وفي الحادي عشر من كانون الثاني ٣٨١ أَطَلَّ عليه في القسطنطينية أثناريكوس نفسه مقصوص الجناح أَشَلَّ الساعد لما كان قد حل بجماعته من الشقاق والخصام، فرَحَّبَ به ثيودوسيوس وبجَّله وعظَّم قدره، ولكنه تُوُفِّيَ في الخامس والعشرين من الشهر نفسه، فأمر الإمبراطور بدفه دفنًا ملوكيًّا، وفي هذه السنة نفسها وصلت طلائعُ الهون إلى الدانوب فردها القوط ببسالة ورباطة جأش. وشعر الطرفان — القوط والرومان — بخطر الهون، فباتا أكثر استعدادًا للوصول إلى تفاهُم دائم بينهما، فأرسل ثيودوسيوس في صيف السنة ٣٨٢ القائد ساتورنينوس إلى القوط في الشمال ليفاوضهم في أمر الصلح، وكان ساتورنينوس من طراز ليبانيوس وغريغوريوس النازيانزي دمث الأخلاق وديعًا معتدلًا رزينًا، فأقره القوط على مطالبه ووقَّع الطرفان في الثالث من تشرين الأول مُعاهدة صُلح دائمة، وأهم شروط هذه المعاهدة أن الإمبراطور الروماني أذن بإقامة دولة قوطية بين الدانوب وجبال البلقان، شرط أن تبقى حُصُون هذه المنطقة رومانية. وتعهد بتقديم معونة مادية في مقابل انخراط القُوط في الجيش الروماني، والواقع الذي لا مَفَرَّ من الاعتراف به هو أن ثيودوسيوس آثر، بعد هذا، العنصرَ القوطي الألماني على غيره من العناصر في تعبئة جيشه، فغدا الجيشُ ألمانيًّا مع مرور الزمن بَعْدَ أَنْ كان رومانيًّا صرفًا في أيام الفُتُوحات.
المجمع المسكوني الثاني
وكان والنس قَدْ أَظْهَرَ تحيزًا شديدًا لآريوس والآريوسيين، فنفى جميعَ الأساقفة النيقيين وقَهَرَ رهبانهم على اللحاق بالجيش وقتل وأحرق، فلما سقط في أدريانوبوليس في السنة ٣٧٨ ورضي ثيودوسيوس أن يتسلم الحكم (٣٧٩)، اشتد التنافُرُ بين الآريوسيين وبين النيقيين وعمَّ جميع الأوساط الشعبية رجالًا ونساءً. ومن ألطف ما جاء في المراجع في وصف تَدَخُّل «العوام في علم الكلام» قول غريغوريوس أسقف نيسة اليونانية: «والجميع في الشوارع والأسواق وفي الساحات وعند مفترق الطرق يتكلمون فيما لا يفقهون، فإذا سألت أحدًا من الباعة: ماذا أدفع؟ أجابك: هو مولود أو هو غير مولود، وإذا أنت حاولتَ أن تعرفَ ثمن الخُبز أجابوك أن الآب أعظم من الابن، وإن سألت هل الحمَّام جاهز سمعت جوابًا أن الابن جاء من العدم.»١٠
ويرى رجالُ الاختصاص أن ثيودوسيوس عَزَمَ منذ أن تسلم أَزِمَّة الحكم على أن يجعل العقيدة الكاثوليكية الأرثوذكسية عقيدةَ الدولة،١١ فإنه منذ السابع عشر من حزيران سنة ٣٧٩ عندما أَصْدَرَ براءَته الأُولى وحدد فيها واجبات كبير الكهنة الوثنيين في أنطاكية؛ امتنع عن أن يشير إلى نفسه باللقب الوثني: الحبر الأعظم، ولعل السبب في هذا أنه وُلد مِنْ أَبَوَيْنِ مسيحيين إسبانيين وأن حبر رومة دماسوس الكبير استغلَّ نُفُوذ الحاشية الإسبانية المسيحية لحمل الإمبراطور على مراعاة الكنيسة، وعاد ثيودوسيوس في الثامن والعشرين من شهر شباط من السنة ٣٨٠ فأصدر براءَةً خاصة جَعَلَ بها العقيدة النيقاوية عقيدةَ الدولة، فقال ما معناه: «وعلى جميع شعوبنا أن تجتمع حول العقيدة التي نقلها بطرس الرسول إلى الرومان، العقيدة التي يقول بها أسقف رومة دماسوس وأسقف الإسكندرية بطرس؛ أي أن يعترفوا بالثالوث الأقدس: الآب والابن والروح القدس، وللذين يقولون بهذه العقيدة وحدهم حق التلقب بالمسيحيين الكاثوليكيين،١٢ أما الآخرون فإنهم هراطقةٌ موصومون بالعار لا يحق لهم أَنْ يَدَّعُوا الأبنية التي يجتمعون فيها كنائس، وسينتقم الله منهم ونحن أيضًا بعده.»١٣ وما كاد الإمبراطور يدخل العاصمة القسطنطينية في الرابع والعشرين من تشرين الثاني سنة ٣٨٠ حتى أخرج منها أسقفها الآريوسي وأدخل إليها (٢٦ تشرين الثاني سنة ٣٨٠) «بلبل قبدوقية الأزرق» غريغوريوس الثاولوغوس النازيانزي بجميع مظاهر الأبهة والإجلال. وغريغوريوس هذا العظيم وُلد بالقرب من نازيانزة في قبدوقية في السنة ٣٣٠، ودرس في الإسكندرية وقيصرية وآثينة — كما مرَّ بنا — وكان قد اشتهر بعِلْمِهِ وفلسفته وفصاحته، وسيم أسقفًا على ساسمة فنازيانزة، وأراده ثيودوسيوس أسقفًا على العاصمة. وفي العاشر مِن كانون الثاني سنة ٣٨١ أردف ثيودوسيوس براءَته هذه الأُولى ببراءةٍ ثانية فصَّل فيها العقيدة الأرثوذكسية الكاثوليكية كما كان قد أَقَرَّهَا المجمع المسكونيُّ الأول في نيقية، وأبان أن الهرطقة١٤ في نظر دولته شملتْ أقوالَ فوتيانوس وآريوس وأفنوميانوس. وفي الثاني من أيار من السنة نفسها حرم جميع المسيحيين المرتدين إلى الوثنية من حق الوصية الوصاية، وفي الثامن منه ضرب المنيكيين ضربة قاضية.
وكان ثيودوسيوس قد أعلن رغبته — وهو لا يزال في ثيسالونيكية — في عقد مجمعٍ مسكونيٍّ عامٍّ؛ للنظر في أُمُور الكنيسة جمعاء، فنفذ أمنيته هذه في ربيع السنة ٣٨١، وأمَّ القسطنطينية عددٌ مِنْ أعاظم رجال الكنيسة، بينهم: ملاتيوس بطريرك أنطاكية، وغريغوريوس النازيانزي بطريرك القسطنطينية — فيما بعد — وتيموثاوس بطريرك الإسكندرية، وكيرلس أسقف أوروشليم، وأمفيلوشيوس أسقف إيقونية، وبيلاجيوس أسقف اللاذقية، وذيذوروس أسقف طرسوس، وأكاكيوس أسقف حلب، وكثيرون غيرهم بلغ مجموعهم مائة وخمسين.
وكان دماسوس بابا رومة قد ألح بوجوب انعقاد هذا المجمع المسكوني في رومة نفسها، ولكن ثيودوسيوس الإمبراطور أَبَى وأَصَرَّ على عَقْدِهِ في القسطنطينية، فلم تشترك رومة في أعمال هذا المجمع ولم يكن هنالك مَنْ يُمثلها، ولكنها وافقت على جميع قراراته فيما بعد واعتبرتْه مجمعًا مسكونيًّا قانونيًّا.
وكان ملانيوس البطريرك الأنطاكي قد اشتهر بجِهَاده ضد الآريوسية وبعلمه وفضله وتَقْوَاه، فأجمع الأعضاء عليه رئيسًا، فسام غريغوريوس النازيانزي أسقفًا على القسطنطينية، وتُوُفي في أواخر أيار، فانتخب المجمع غريغوريوس النازيانزي رئيسًا، ولكنه كان عصبيَّ المزاج سريع الغضب فاستعفى، وعندئذٍ انتَخب المجمع — بإشارة من الإمبراطور — نكتاريوس القاضي رئيسًا، وهو الذي أصبح فيما بعد بطريركًا على القسطنطينية بعد غريغوريوس.
ونظر المجمعُ في بدعة مقدونيوس أسقف القسطنطينية الذي كان يقول بخَلْق الروح القدس من الله الآب بواسطة الابن، فنبذ المجمع هذا القولَ وأقرَّ مَرَاسِيمَ المجمع النيقاوي، وأضاف إلى دستور الإيمان النيقاوي بعض إيضاحاتٍ، وخصوصًا فيما كان يتعلق بأمر تَجَسُّد ابن الله وأُلُوهية الروح القدس، فجاء في اثني عشر بابًا — كما يلي — وهو لا يزال دستور المسيحيين حتى يومنا هذا:
(١) أؤمن بإلهٍ واحدٍ آب ضابط الكل، صانع السماء والأرض، كل ما يُرى، وما لا يرى.
(٢) وبربٍّ واحدٍ يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إلهٌ حقٌّ من إلهٍ حقٍّ، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، الذي به كان كل شيء.
(٣) الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماوات، وتجسَّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وتأنس.
(٤) وصُلب عنا على عهد بيلاطس البنطي، وتألم وقُبر.
(٥) وقام في اليوم الثالث على ما في الكتب.
(٦) وصعد إلى السماوات، وجلس عن يمين الآب.
(٧) وأيضًا يأتي بمجدٍ، ليدين الأحياء والأموات، الذي لا فناء لملكه.١٥
(٨) وبالروح القدس، الرب المحيي، المنبثق من الآب،١٦ الذي هو مع الآب والابن، مسجود له وممجد، الناطق بالأنبياء.١٧
(٩) وبكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية.
(١٠) وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا.
(١١) وأَتَرَجَّى قيامة الموتى.
(١٢) والحياة في الدهر العتيد، آمين.
وكان المجمعُ المسكونيُّ الأولُ قد شرع في تنظيم الكنيسة على غِرار نظام الدولة الرومانية، فأعطى أَسقُف عاصمة الولاية حَقَّ التقدُّم على أساقفة مُدُنها الأخرى، وجعله متروبوليتًا عليها كلها، وكانت الولاياتُ الرومانية المائة والعشرون قد انتظمت ذيقوسيات اثنتي عشرة، فجاء المجمع المسكوني الثاني يُعطي متروبوليت عاصمة الذيقوسية حَقَّ التقدُّم على جميعِ المطارنة فيها، وأصبح — بموجب هذا الترتيب — بطريرك أنطاكية عاصمة ذيقوسية الشرق متقدِّمًا على جميعِ مطارنة هذه الذيقوسية، ومثله بطريرك الإسكندرية في ذيقوسية مصر، ومتروبوليت قيصرية قبدوقية في ذيقوسية البونط، ومتروبوليت إفسس في ذيقوسية آسية، ومتروبوليت هرقلية في ذيقوسية تراقية.
ويُرجِّح بعضُ رجال الاختصاص أن أساقفة هذه الذيقوسيات كانوا يتمتعون بلقب إكسارخوس أو الأسقف الأول، وأنه كان لبعضهم ألقابٌ خاصة احتفظوا بها، فكان أسقف رومة يدعى أسقف المدينة أو حبرًا أو بابا أو بطريركًا، وكان أسقف الإسكندرية يدعى بابا وبطريركًا ولا يزال «بابا وبطريرك الإسكندرية»، كما كان أسقف أنطاكية يدعى بطريركًا أيضًا، واللفظ بابا يونانيٌّ في الأرجح مأخوذٌ من الكلمة باباس ومعناها الأب، واللفظ بطريرك يونانيٌّ أيضًا، وهو مركبٌّ من كلمة باتريا ومعناها العشيرة، وكلمة أرشيس ومعناها الرئيس.
ولَمَّا كان بروقنصل القسطنطينية وحاكمها لا يخضع لنائب الذيقوسية التي فيها هذه المدينة، ولما كانت القسطنطينية هي عاصمة الإمبراطورية الثانية «رومة الجديدة»، فإن المجمع رأى أن يعطي أسقفها حق التقدم على جميع الأساقفة بعد أسقف رومة، وأن يُصار إلى تسميتِهِ في مجمعٍ خاصٍّ، يشترك فيه جميع أساقفة الذيقوسيات الشرقية.١٨
ودعا دماسوس حبرُ رومة الأساقفةَ إلى مجمع في رومة في السنة ٣٧٢، ولكن ثيودوسيوس طلب إليهم متابعة العمل في القسطنطينية في الوقت نفسه، وسمح بأن يسافر وفدٌ منهم إلى رومة؛ يراقب أعمالَ مجمعها ولا يشترك فيها، وتدخل غراتيانوس إمبراطور الغرب وحضَّ الآباءَ المجتمعين في القسطنطينية على الاشتراك في مجمع رومة ولكن على غير جدوى، فاضطرب دماسوس ورأى في هذا إهانةً له ونذيرَ انشقاق بين الشرق والغرب.١٩
العلاقات الرومانية الفارسية
وتُوُفي ذو الأكتاف شابور الثاني في السنة ٣٧٩، وتولى العرشَ الفارسيَّ بعده أردشير الثاني (٣٧٩–٣٨٣)، ثم شابور الثالث ابن ذي الأكتاف، فأرسل هذا في السنة ٣٨٤ وفدًا إلى القسطنطينية؛ يفاوض في توطيد السلم وتحسين العلاقات، وشفع ذلك بأن أرسل الهدايا الحرير والحجارة الكريمة والفيلة، ولكن حدث بعد هذا بقليل أن زحفت جيوش شابور الثالث على أرمينية ففر ملكها أَرشاك الرابع إلى ثيودوسيوس مستجيرًا، ولكن ثيودوسيوس كان في أمسِّ الحاجة إلى السلم؛ نظرًا لاضطراب الموقف في الغرب واغتيال غراتيانوس، ففاوض شابور في اقتسام أرمينية بينهما، فتَمَّ ذلك في السنة ٣٨٦ بموجب خطٍّ فاصلٍ امتد من ديار بكر «آمد» حتى أرضروم «ثيودوسيوبوليس»، وهكذا ضم ثيودوسيوس ما قارب من خمُس أرمينية إلى ملكه، وفي بعض المراجع أنه جرى مثل هذا الاقتسام في ما بين النهرين ولكنه قول ضعيف.٢٠
ضجة في أنطاكية وبيروت
وتلطخت إدارة ثيودوسيوس بالرشوة، وكتب ليبانيوس الفيلسوف الأنطاكي إلى الإمبراطور يقول: «حكامك الذين تبعثُهُم إلى الولايات ليسوا سوى قتلة.» وتفاقمتْ أزمة مجالس الشيوخ في المُدُن، وفَرَّ الشيوخ واختبئوا، واضطر الإمبراطور أن يحدَّ من نفوذ بعض الشخصيات الإقليمية، ثم جاءت السنة ٣٨٧ فشرعت الحكومة المركزية تتهيأ للاحتفال بمرور عشر سنوات على حُكم الإمبراطور،٢١ فزادت الضرائب المفروضة، لكنها ما كادت تعلن عزمها على الجباية حتى لجأ الأنطاكيون إلى العنف، فاقتلعوا تماثيلَ الأباطرة وجَرُّوها في شوارع المدينة، وأحرقوا بعضَ الأبنية، وعلى الرغم من إعادة النظام في اليوم نفسه فإن عددًا كبيرًا من الأغنياء فَرُّوا واستتروا، وخشي الناس سطوةَ ثيودوسيوس وقسوته وظَنُّوا أنه سيخرب المدينة، وتحركتْ بيروت فأعلنت ولاءها لمكسيموس في الغرب، وحذت حذوها الإسكندرية، وانبرى يوحنا الذهبي الفم تلميذ ليبانيوس، وكان لا يزال كاهنًا في مسقط رأسه أنطاكية، يستغل الذعر لمصلحة الإيمان، فألَّف ميامرَه العشرين وحفظ لنا شيئًا من تفاصيل تلك الحوادث،٢٢ وأمر ثيودوسيوس بتأليف مجلسٍ عدليٍّ للنظر في هذه الحوادث، واتخذ هذا المجلس مركزَه في أنطاكية وحكم وقسا على الرغم من احتجاج الرهبان والأتقياء، ونزع ثيودوسيوس لقب متروبوليت عن أنطاكية وأنعم به على اللاذقية، ثم أصدر عفوًا عامًّا قُبيل عيد الفصح من السنة نفسها.
توحيد الإمبراطورية
وأَحَبَّ غراتيانوس الإمبراطور القبائل الآلانية التي كانت قد فرَّت من سواحل بحر آزوف والتجأتْ إلى داخل حدود الإمبراطورية؛ خوفًا من الهون البرابرة، فألحق أبناء هذه القبائل في الجيش وعطف عليهم عطفًا مستمرًّا، فأثار بذلك حَسَدَ العناصر الأُخرى في الجيش، فتمردتِ الكتائب الرومانية في بريطانية ونادت في السنة ٣٨٣ بمكسيموس أحد النبلاء الأسبان إمبراطورًا، وحذت حذوها كتائبُ الجيش في ألمانيا، ونزل مكسيموس بجُنُوده عند مصب الرين، فنهض غراتيانوس إليه وتَلَاقَى الجيشان في منطقة باريز، ولكن عساكر الإمبراطور خانت سيدها، ففر غراتيانوس في ثلاثمائة فارس، ولحق به فرسانُ مكسيموس فأدركوه في ليون وقتلوه في الخامس عشر من آب سنة ٣٨٣.
ثم أرسل مكسيموس يستدعي إليه والنتنيانوس الثاني أخا غراتيانوس الأصغر، معترفًا بحقه بالملك مدعيًا الحكم بحق الوصاية على الأمير القاصر، فأما ثيودوسيوس فحين أَتَتْهُ هذه الأنباءُ أَسْرَعَ في السنة ٣٨٤ إلى إيطالية لينظر في الأمر، وظن الناس أنه إنما قام ليحارب مكسيموس وليعيد الحق إلى نصابه، ولكنه أبرم مع المغتصب صلحًا أعرج، فجعل مكسيموس أوغوسطًا ثالثًا مشترطًا عليه إبقاءَ إيطالية بيد الإمبراطور القاصر ووالدته يوستينة، ولكن مكسيموس نكث بالشرط وزحف على إيطالية في السنة ٣٨٧، ففرَّ والنتنيانوس الثاني إلى الشرق واستقرَّ في ثيسالونيكية، فزحف ثيودوسيوس في صيف السنة ٣٨٨ بجيشه إلى حدود إيطالية وحارب مكسيموس وانتصر عليه، فاستسلم مكسيموس في أكويلية ولكن ثيودوسيوس أحاله إلى الجند فقتلوه، وقام هو إلى ميلان وأقام فيها سنتين، وسيَّر والنتنيانوس الثاني إلى غالية ليدبر أمورها.
فلما كانت السنة ٣٩٢ قام والنتنيانوس هذا إلى فيينة ليصد هجومًا بربريًّا قويًّا، فقُتل فيها — على قول إحدى الروايات — وانتحر — على قول غيرها — فاختار قائد العساكر خطيبًا غاليًّا اسمه أوجانيوس وأعلنه إمبراطورًا في ليون، وانتقل هذا الإمبراطور في ربيع السنة ٣٩٣ إلى إيطالية فأقام فيها، فألحت غلَّة زوجة ثيودوسيوس الثانية وأخت ولنتنيانوس بوجوب الاقتصاص من أوجانيوس؛ لأنها اتهمتْه بمقتل أخيها، فنهض ثيودوسيوس إليه في صيف السنة ٣٩٤، وانتصر عليه في مداخل إيطالية الشمالية وأمر بقتله فقتل في جواقيلان، وهكذا أصبح ثيودوسيوس هو الحاكمَ الفرد في الإمبراطورية.
الوثنية تُشرِف على التلف
وفي الوقت الذي كان فيه ثيودوسيوس يضطهد الهرطقة والخروجَ على العقيدة الأرثوذكسية الكاثوليكية؛ كان يضيِّق الخناق على الوثنية ليخمد أنفاسها، فأبطل زيارة الهياكل وذبح الذبائح والعيافة بأكباد الحيوانات وأحشائها، وأَدَّى هذا — بطبيعة الحال — إلى إغلاق الكثير من الهياكل وإلى اقتحام الجماهير بعضها؛ لنهبها وتدميرها.
ثم عاد فمنع في السنة ٣٩١ الذبائح وزيارة الهياكل وتكريم التماثيل، وفرض غراماتٍ ثقيلةً على الحكام والموظفين الذين يقترفون مثل هذه الذنوب، وأمر بإخراج مذبح آلهة النصر من بهو مجلس الشيوخ في رومة، وكان يوليانوس قد أعاده إلى هذا البهو بعد إخراجه منه في عهد قسطنطين، فاضطرب الشيوخُ الوثنيون، ورأوا في ذلك تمثيلًا وتنكيلًا بمجد رومة وعظمتها، وأوفدوا سيماخوس الخطيب إلى ميلان؛ ليلتمس إعادةَ النظر في هذا التدبير وإرجاع المذبح إلى مكانه.
وعلم أمبروسيوس أسقف ميلان بمهمة سيماخوس، فكتب إلى البلاط يرجو المحافظةَ على حرية المعتقد المسيحي ويبين أنه ليس من هذه الحرية في شيءٍ إكراهُ الشيوخ المسيحيين على الاجتماع والتشاوُر في قربٍ من مذبحٍ وثنيٍّ.
ووصل سيماخوس إلى ميلان وتكلم باسم الشيوخ الوثنيين، فطالب باحترام جميع الأديان وقال: يُمكن الوصولُ إلى الحقيقة الدينية بطُرُق متعددة، ثم أشار إلى يَمين الولاء المفروضة على جميع الأعضاء وأبان أنه إذا لم يكن ثمة مذبحٌ في بهو المجلس فعلى أَي شيء يقسم الأعضاء اليمين؟ ولكن ثيودوسيوس كان شديد التمسك بالنصرانية فأحال عريضة الشيوخ إلى المجلس الإمبراطوري الأعلى مع الإيعاز برفضها، وفي السنة ٣٩٢ أصدر الإمبراطور أمرًا خاصًّا إلى نائبه في مصر يُوجب تطهيرَ هذا البلد مِن أدران الوثنية، فأقفل السيرابيوم في الإسكندرية، واتفق أن أراد ثيوفيلوس أسقف الإسكندرية أن يحوِّل هيكلًا وثنيًّا إلى كنيسة مسيحية فثارتْ ثائرةُ الوثنيين في الإسكندرية والتجئوا إلى السيرابيوم واعتصموا فيه.
وحَضَّهُم الفيلسوفُ أوليمبيوس الوثني على الاستماتة في سبيل دينهم، فأمر ثيودوسيوس بهدم الهيكل وتدميره، وألح ثيوفيلوس بوجوب تقطيع تمثال سيرابيس بالفئوس، وكان الناسُ يَعتقدون أن سيرابيس يقابل مثل هذا العمل بالزلزال، لكن ما إن سقط التمثالُ وهُدمت قاعدتُهُ حتى خرج منها جيشٌ من الجراذين! ثم أُضرمت النار في أمتعة الهيكل الكبير فاحترق معها عددٌ غيرُ قليلٍ من نفائس المخطوطات اليونانية، وضاعت بضياعها صفحةٌ من تاريخ العلم والمدنية.
الوفاة
وكان ثيودوسيوس قد أدمن شُرب الخمر وما يتبعها من مَلَذَّات، فأسرف على صحته، وتُوُفي في ميلان في السابع عشر من كانون الثاني سنة ٣٩٥، وأبَّنه أمبروسيوس في الخامس والعشرين من شهر شباط، مؤكدًا هلاك مكسيموس وأوجانيوس وخلاص ثيودوسيوس.
١ Salutius Secundus.
٢ Jovianus وقد ورد «يونيانوس» في المقريزي وغيره.
٣ Socrates, Hist. Ecc., III, 25.
٤ Sozomenus, Hist. Ecc., VI, 3.
٥ Valentinianus.
٦ Valens وفي تاريخ ابن العميد: ولنطنيان ووالنش.
٧ Athanaricus.
٨ Fritigern, Alaviv.
٩ Piganiol, A., Emp. Chrétien, 210.
١٠ Patrologia Graeca, XLVI, 557.
١١ Piganiol, A., Emp. Chrétien, 216.
١٢ Christiani Catholici.
١٣ Cod. XVI, 2, 25.
١٤ وكانت قد جرت العادة منذ عهد قسطنطين الكبير أن يفرِّق بين الكثلكة النيقية ecclesia catholica وبين الهرطقة Haeretici.
١٥ وكان النص النيقاوي: «نزل من السماء، وتجسد، وصار إنسانًا، وتألم وقام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماوات، وسيأتي ليدين الأحياء والأموات.»
١٦ Lagier, C., Orient Chrétien, II, 282.
خلاصة تاريخ الكنيسة، ترجمة الخوري يوسف البستاني، مطبعة الآباء اليسوعيين، الجزء الأول، ص٢٢٥.
١٧ وفي النص النيقاوي: «نؤمن بالروح القدس.»
١٨ المجمع الثاني: القانون الثالث، اطلب أيضًا مقال لوران V. Laurent، في المجلة Byzantion في سنتها السابعة، ص٥١٢.
النيقية ecclesia catholica وبين الهرطقة Haeretici.
١٥ وكان النص النيقاوي: «نزل من السماء، وتجسد، وصار إنسانًا، وتألم وقام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماوات، وسيأتي ليدين الأحياء والأموات.»
١٦ Lagier, C., Orient Chrétien, II, 282.
خلاصة تاريخ الكنيسة، ترجمة الخوري يوسف البستاني، مطبعة الآباء اليسوعيين، الجزء الأول، ص٢٢٥.
١٧ وفي النص النيقاوي: «نؤمن بالروح القدس.»
١٨ المجمع الثاني: القانون الثالث، اطلب أيضًا مقال لوران V. Laurent، في المجلة Byzantion في سنتها السابعة، ص٥١٢.
١٩ Piganiol, A., Emp. Chrét. 220.
٢٠ Procopius, Aed. III, I, 245-246; Chapot, Frontière de l’Euph., 347–361.
٢١ decennalia.
٢٢ Goebel, R., De Ioannis Chrysostomi et Libanu Orationibis, Gottingen, 1910.
الفصل السابع
ظهور الرهبانية وانتشارها
أصلها
وعاش السيد نفسه عيشةَ فقرٍ وتيهٍ ومسكنةٍ، وعلَّم باقتراب النهاية، وأرسل تلاميذه ليكرزوا بملكوت الله، وأوصاهم ألا يحملوا شيئًا للطريق «لا عصًا ولا مزودًا ولا خبزًا ولا فضةً» وألا يكون للواحد منهم ثوبان،١ وقام يعقوبُ بعده لا يأكلُ لحمًا ولا يَشرب خمرًا ولا يقتني سوى رداء واحد، وحضَّ الرسلُ المؤمنين على العفة والبتولية وأَجازوا الزواجَ لمن خشي العنت فقط.٢
وجاء الاضطهاد في القرون الثلاثة الأولى، ففَرَّ عددٌ من المؤمنين إلى البراري والقفار، وعاشوا فيها عيشةَ البُؤْس والطهارة والتقوى،٣ واشتدت وطأةُ الحُكم وكثرت الضرائب وتثاقلت، فَتَاهَ الفلاحون وتركوا القرى والمزارع؛ محتجين على نظام المجتمع طالبين عيشةً جديدة، حتى إذا أَطَلَّ القرنُ الرابعُ وجاء قسطنطين وخلفاؤُهُ وتنفس المؤمنون تنفسة الراحة، لم يكد يغير ذلك شيئًا من طريقتهم الأولى؛ إذ أصبحوا يقولون بوجوب الانكفاء والابتعاد عن العالم والتأمل والتفكر الجدي بالقيم الروحية والبشرية.
أنطونيوس الكبير (٢٥٠–٣٥٦)
وأشهرُ الرهبان الأولين أنطونيوس الفلاح المصري الذي اعتكف على نفسه خمسة عشر عامًا، ثم انزوى في حصنٍ مهجورٍ عشرين عامًا، وذاع صيتُهُ في مصر فَالْتَفَّ حوله عددٌ من الزُّهَّد، وألحوا عليه بوجوب تنظيمهم، فأسس في السنة ٣٠٥ تعاونية رهبانية أجاز فيها ضروبًا من التَّنَسُّك وألوانًا متفاوتةً من شدة الوحدة والانفراد.
هذا، وقد قام على حُدُود الصحراء في منطقة أسيوط عددٌ كبيرٌ من النساك الأنطونيانيين، جماعاتٍ وأفرادًا، وفي وادي النطرون في صحراء ليبية انعزل آخرون جماعاتٍ وأفرادًا أيضًا، ينسجون الكتَّان فيلبسونه ويبتعدون عن كل ما يَمُتُّ إلى الملذات بصلة، ويتعبدون منفردين في أيام الأسبوع مجتمعين في أيام السبوت والآحاد. واختلفت الطريقةُ الأنطونيانيةُ عن غيرها في أنها تركتْ للناسك الفرد الحريةَ التامة في انتقاء طريقته في التنسك.
باخوميوس القديس (٢٩٠–٣٤٥)
وتقبل النصرانية في هذا الوقت نفسه في طيبة مصر ناسكٌ مِن نُسَّاك سيرابيس، فقاده حُبُّهُ للتنسك والنساك أن يؤسس ما بين السنة ٣١٥ والسنة ٣٢٠ أُولى الرهبانيات المسيحية، وذلك في تبينية بالقرب من دندرة، واختلف أتباعُهُ عن أتباع أنطونيوس في أنهم عاشوا مجتمعين تحت سقفٍ واحدٍ وحول مائدة وكنيسة واحدة، وكان عليهم أن يقرءوا الكتاب ويصلُّوا ويعملوا عملًا مفيدًا، وازداد عددُهُم وكثرتْ مؤسساتُهُم، وانتشروا في صعيد مصر، وحذت مريمُ أخت باخوميوس حذو أخيها فأنشأتْ رهبانية للراهبات لم تختلف في نُظُمها عن رهبانية الرجال.٤
باسيليوس الكبير (٣٢٩–٣٧٩)
وشاع أمرُ الترهُّب في فلسطين وسورية ولبنان، ثم في آسية الصغرى، وأشهر من قال به في هذه الأقطار وأشدهم تأثيرًا وأكثرهم أتباعًا؛ باسيليوس الكبير أسقف قيصرية قبدوقية، وكان قد بدأ الترهُّب في بلاده فشغف به وزار سورية ولبنان وفلسطين ومصر في السنة ٣٥٧، وتفقد شئون الرهبان والنساك فيها فأعجبه نظام باخوميوس، فَلَمَّا عاد إلى آسية الصغرى وكانت السنة ٣٦٠ عزم على التَّرَهُّب فاختار البونط وأنشأ فيه ديرًا بالقُرْب من قيصرية الجديدة، فوضع نظام الرهبانية الباسيلية وأَصَرَّ فيها على الطاعة زيادةً على الفقر والعفة، واشتهر أتباعُهُ بأعمالهم الزراعية وباهتمامهم بتربية اليتامى وتعليم الصبيان.
وكان باسيليوس الكبير قد تلقى الفلسفة والكتابة والخطابة على يد ليبانيوس الفيلسوف الأنطاكي وفي الإسكندرية وآثينة، وجمع إلى ذلك ذكاءَ الفؤاد وقوة الحجة وفصاحة الكلام، وكان قد رافق غريغوريوس الثاولوغوس في سني الدارسة وأَحَبَّهُ، فنشأتْ بينهما صداقةٌ قويةٌ، تعاونا فيها على خدمة الكنيسة، ووافق عصره أن كانت الأرثوذكسية مضطهدة فانتصر لها قولًا وكتابةً وألف رسائل عدة لا يزال معظمُها معروفًا، ولا نزال حتى يومنا هذا نُردد كلماته وأفكاره في خدمة القداس في آحاد الصوم الكبير ويومي الخميس والسبت العظيمين وفي بارامون الميلاد وبارامون الظهور الإلهي، وفي يوم عيده الخامس من كانون الثاني.
وقد كان لهذا كله أثرٌ كبيرٌ في نفوس المؤمنين فكَثُرَ الإقبالُ على الترهُّب، وشاعت طريقة باسيليوس في جميع الأقطار الشرقية، وفي اليونان والبلقان وروسية.٥
مار مارون (؟–٤١٠)
وآثر المؤمنون في سورية ولبنان وفلسطين الترهب الفردي على الجمَّاعي، فتركوا المدن والقرى وانتثروا في السهول والوديان وعلى قِمم التلال يتأملون ويبتهلون ويعملون، وكان من أشهر هؤلاء في القرن الرابع مار مارون، ولا نعرف بالضبط سَنَةَ ولادته ولا المكان الذي وُلد فيه ولا محل تنسكه، ولكننا نعلم علم اليقين أنه عاش وعمل في سورية الشمالية في النصف الثاني من القرن الرابع.
ويرى الأب لامنس اليسوعيُّ أن مار مارون عاش ومات في القورسيَّة، وقورس عاصمة منطقة القورسيَّة كانت تقع على مسيرة يومين من أنطاكية وعلى نحو سبعين كيلومترًا من حلب إلى شماليها الغربي، ويميل المطران بطرس ديب إلى القول بأن مار مارون تنسك على جبل في منطقة أبامية «قلعة المضيق» من سورية الثانية.
وأقدم ما نعود إليه في تاريخ مار مارون رسالة وجهها إليه يوحنا الذهبي الفم من منفاه في مدينة كوكيسوس في جبال طوروس في السنة ٤٠٤ أو ٤٠٥، وهي الرسالةُ السادسةُ والثلاثون من رسائل هذا القديس،٦ وفيها مودة ومحبة واستفسار عن الصحة والسلامة ورجاء إلى مار مارون أن يصلي من أجل الذهبي الفم، فلا شائبة إذن تشوبُ عقيدة مار مارون، وهو بالتالي أرثوذكسي كاثوليكي نيقاوي.
وأنفعُ المراجع الأولية ما جاء عن مار مارون في تاريخ التنسك والنساك لثيودوريطس أسقف قورس (٤٢٣–٤٥٨) الذي وُلد في أنطاكية قبل وفاة مار مارون بسبع عشرة سنة (٣٩٣) وعرف يعقوب الناسك أشهر تلاميذ مار مارون.٧
ويُستدل من كلام ثيودوريطس وغيره أن مار مارون قصد في النصف الثاني من القرن الرابع إلى قمة أحد المرتفعات في القورسيَّة؛ يرتاد الخلوة والطمأنينة، فكرَّس هيكلًا وثنيًّا كان قد «خصص للأبالسة منذ القديم» واستعمله في عبادة الإله الواحد، وأنه كان يقضي أيامه ولياليه تحت قُبة السماء متعبدًا، وأنه كان يلجأُ إلى خيمةٍ صغيرةٍ اصطنعها من جُلُود الماعز؛ لِيتقيَ فيها شرَّ العواصف والبرد. ولم يكن مار مارون يكتفي في تَقَشُّفه «بالأصوام والصلوات المستطيلة، والليالي الساهرة في ذكر الله وإطالة الركوع والسجود، والتأملات في كمالات الله ومناجاته، وحبس الجسد في منطقة محدودة، وقهره باللباس الخشن والمسوح الشعرية، وتحريم الجلوس أحيانًا، ومنع النوم ليالي بكاملها والانصراف إلى وعظ الزوَّار وإرشادهم»؛ بل كان يَزيد عليها ما ابتكرته حكمته فيوازن بين النعمة والأعمال، ويؤكد ثيودوريطس أَنَّ الله منح مارون موهبةَ الشفاء وأن الناس تقاطرتْ إليه أفواجًا وأنه لم يكتف بشفاء أمراض الجسد بل كان يشفي بعضًا من البخل وآخرين من الغضب ويُعلِّم غيرهم العدلَ، وينهى عن استباحة المحرمات ويوقظ من غفلة التواني.
ومما يجدر ذِكْرُهُ لهذه المناسبة أن مار مارون اجتذب تلامذة عديدين رجالًا ونساءً، وأن هؤلاء التفُّوا حوله في صوامعَ قريبةٍ، يهتدون بإرشاداته في مجاهل حياتهم النسكية، فلَمَّا تَوَفَّاهُ الله في السنة ٤١٠ نشأت أخويةٌ مارونيةٌ تعمل بما علَّم به هذا الناسك المجاهد.٨
١ لوقا، ٩: ٣.
٢ كورونثوس الأولى، ٧: ٨-٩.
٣ Sozom. I, 12, 11.
٤ Winlok, H. E., The Monasteries of the Wadi’n Natrun, 1932; Lefort, L. Th., La Règle de St. Pachome, (Museon, XL, 1927).
٥ Clarke, W. K. L. St. Basil the Great; Murphy, Sister, St. Basil and Monasticism.
٦ Chrysostom, John, Epistolae, (Patrologia Graeca, LII), (Paris, 1862).
Jeannin, M. A., Oeuvres Complètes de St. Jean Chrysostome, (Paris, 1887).
٧ Theodoret, Historia Ecclesiastica, (Paris, 1911).
٨ وأفضل ما يُرجع إليه من المؤلَّفات الحديثة في مار مارون: بحث الأب لامنس في انتشار الموارنة في لبنان في الجزء الثاني من كتاب تسريح الأبصار فيما يحتوي لبنان من الآثار (بيروت، ١٩٠٣)، ولباب البراهين للمطران يوسف دريان (القاهرة، ١٩١٢)، والكنيسة المارونية للمطران بطرس ديب (باريس، ١٩٣٢)، ومحاضرة الأستاذ فؤاد أفرام البستاني عن مار مارون في مجلة الندوة، ج٢، عدد ٥ و٦، حزيران ١٩٤٨.