الحكيم اليماني الحُمَيد ابن منصور

يُعدّ الحميد ابن منصور شخصيّة مركزية في التراث الشعبي اليمني. فاالأشعار والحكايات المنسوبة إلى هذه الشخصيّة الحكيمة والمرشدة تنتشر في مناطق واسعة من اليمن (ولا سيما في البيضاء، ويافع، و أبين، وشبوة،وتعز, والضالع، ومأرب،واب, والجوف، وحضرموت ,وتهامه) وما جاور هذه المناطق وارتبط بها من الجهات الشمالية وحدّثنا بعض المغتربين اليمنيين بأنهم سمعوا بعض أقوال الحميد ابن منصور وأخباره تتداول على ألسنة أبناء منطقة ثقيف في المملكة العربية السعودية و أبعد من ذلك، فقد ذهب الباحث الكويتي طلال الرميضي إلى الكتابة عنة كون أشعاره معروفة في الكويت والبحرين وسلطنة عمان. ويرى [1]

إن سر مركزية شخصية الحميد في تراث أبناء كل تلك المناطق  ارتباطه بمهنة الزراعة التي كانت تُعدُ الركيزة الأساسية للحياة لدى السكان، ومن خلال الزراعة يرتبطون بالخالق الذي يهب المطر ويسوق الرياح كي ينبت الزرع و يدر الضرع و بذلك يعيش الإنسان.

فالحميد ابن منصور، بوصفه تراثا موروثا متداولا، يعكس حس الفلاح اليمنيّ الأصيل الذي أحسن التعامل مع الأرض، وتعايش معها تعايشًا ارتبط بها وجوده وتصوره عن الوجود وما وراء الوجود. وقد نتج عن هذا التعايش خبرة ودراية بأحوال الأرض وخصائصها، وكلّ ما يتعلّق بها من المناخ وتقلباته، ناهيك عن تجربته المجتمعية العميقة، وخبرته بأحوال الناس، وطرق التعامل معهم ومختلف أحوالهم. وقد استطاع أن ينقل إلينا هذه الخبرات عن طريق ما خلّفه لنا من أقوال وحكم ونصائح تُنسب إليه. بعبارة واحدة، لقد نقل إلينا فلسفة الوجود كما يتخيلها المزارع اليمني البسيط. ونضرب على ذلك مثلين الأول عن حبه للثور الذي يحرث الأرض وحبه للأرض الزراعية.

قال الحميد ابن منصور

 لولا العتب والملامة     لا قول للثور يا به                 لا قول يا بو عيالي

والمثال الثاني عن طغيان اهتمام الحميد بأرضه الزراعية إلى درجة أنه يراها في منامه كل ليله متمعنا في أطرافها و أوساطها :

قال الحميد ابن منصور:

ما ليله ألا وأنا احلم       نقوعها والشواجب

النقع عمق قطعة الأرض الزراعية من الجانب الطولي و الشاجب الجانب العرضي من قطعة الأرض.

حقيقة وجود الحميد ابن منصور

اختلف الكتّاب في تحديد ماهية شخصية الحميد ابن منصور, هل هي حقيقية أم خيالية؟ فهناك من يرى أنه شخصية خيالية أوجدها المخيال الشعبي الأسطوري، وأنّ كل ما ينسب إليه ما هو إلا من تراكم خبرات المجتمع، في حين يرى آخرون أنّه شخصية واقعية وُجدتْ في يوم من الأيام وعرفت أماكنها، وهناك من يجمع بين القولين فيرى أنّ الحميد ابن منصور شخصية حكيمة وجدت في يوم من الأيام، قد يكون على الأرجح القرن السادس عشر الميلادي ولكنها تطورت حتّى أصبحت شخصية خيالية بحكم ما ظل يضاف إليها طيلة قرون. ولعل الرأي الأخير هو الأرجح و الأقرب إلى سنن التاريخ، فكم من شخصية تاريخية عظيمة أصبحت أسطورية بفعل قريحة المخيال الشعبي الذي يبدع في تطوير وتضخيم أبطاله وحكمائه.

زمن الحميد ابن منصور

اختلفوا في تحديد الزمن الذي عاش فيه؛ فمنهم من يرى أنه عاش قبل الإسلام، وهناك من يرى أنّه عاش في العصر الإسلامي،  مستدلًا على ذلك بالأسماء الإسلامية التي يوردها الحميد بن منصور عند مخاطبته:

قال الحميد ابن منصور

ما أحلى البلد يا محمد ما أحلى البلد بالشواجب

ومنهم من يؤرخ له بصورة أكثر تحديدا، فيرى أنه من أبناء القرن السادس عشر أو السابع عشر أو الثامن عشر الميلادي. وهذه الأقوال كلها يوردها الخلاقي في كتابه الذي ألم فيه بآراء كل من سبقوه. ولكل من هؤلاء حجته ودليله.

موطن الحميد ابن منصور نظرًا لاختلاف الكتّاب في عصره اختلفوا في تحديد مسقط رأسه, كما اختلفوا في تحديد المنطقة التي عاش فيها, يقول الدكتور عبدالعزيز المقالح إنّ “بعض الذين كتبوا عن الحميد ابن منصور لا يذكرون إلا أنه نشأ في المنطقة الشرقية والمنطقة الوسطى والمنطقة الشرقية من البلاد تمتد من عمان إلى عدن”والوسطى اب وتعز وشرعب وجبل رأس ووصاب وهذا تصريح عام لا يحدد بصورة دقيقة المجال الجغرافي الذي تكثف فيه حضور شخصية الحميد وشعره. أمّا مايتداول في اواسط المجتمع الزراعي أنه مزارع وحكيم ملئ بحكمة وشعره الجزيره العربية باكملها وهذا يتفق تماما، مع ما يذهب إليه سكان المناطق الشرقية والجنوبية والوسطى والكثير منهم يقول الحميدي ابن منصور باالياء بانة ينتمي الى قبيلة الحميدي الحميرية والذي تتطابق تماما مع الاسم ومناطق تواجدها اذ انهم يقطنون في مناطق شاسعة من المناطق الشرقية والوسطى والجنوبية وهناك كثير من الأهالي ممن يؤيد هاذة الرواية وتتفق معا ماذكرة واتفق علية جميع الكتاب المذكورين حول مكان تواجدة وانة عاش متنقلًا في مناطق البيضاء واب .وشرعب .ويافع.والضالع .وشبوه .وخولان .ومارب وكل المناطق المذكورة يتواجدو فيها ويحفظون حكمة واشعارة وانه كان كثير التنقل فنجد في أشعاره أماكن تمتد من مارب والبيضاء شرقا ويافع جنوبا حتى خولان شمالا.ووصولا الى شرعب غربآ

الحميد ابن منصور وغيره من الحكماء

تداخلت شخصية الحميد ابن منصور مع غيرها من شخصيات الحكماء المشهورين في المجتمع اليمني؛ فهناك من يخلط بين شخصية الحميد بن منصور وعلي ولد زايد المشهور، بصورة خاصة، في المناطق الشمالية العليا (ذمار, وصنعاء, وعمران، والمحويت، وحجّة, وصعدة). وهناك أيضا من يخلط بين شخصية الحميد بن منصور و(أبو عامر) المشهور في حضرموت وما جاورها. إلا أنّ الخلط بين الحميد وعلي ولد زايد أكثر؛ نظرا لتقارب أقوال الشخصيتين وتماهي صورتهما الشعبية في أذهان أبناء المناطق الشرقية والوسطى و الشمالية العليا.

وهناك شخصيّة أخرى ارتبطت بشخصيّة الحميد ابن منصور ارتباطًا مباشرًا، حتّى عُدّت قرينة لها عند كثير من أبناء منطقة، البيضاء ويافع والعواذل وشبوة، حيث لا تُذكر هذه الشخصية إلا مرتبطة بالحميد بن منصور؛ وهذه الشخصية هي شخصية (شرقه بن أحمد). وهناك من كبار السن من يقول أنه قريب للحميد.

والمتأمل في أقوال شرقه والحميد يجد أنهما شخصيتان مختلفتان، وأنّ لكل منهما مجالًا من أعمال فلاحة الأرض. فالحميد يختص بحراثة الأرض وما تتطلبه الحراثة وله أقوال في فلسفة الوجود عامة. بينما شرقه يختص بنزع الماء من الآبار وسقي المزروعات؛ ما يعرف بالسِّناة أو السقي. وهذا ما يؤكده المزارعون من أبناء مناطق تداول أقوال الحكيمين: شرقة والحميد. والمتمعن في أقوال الحميد يجدها قد شملت جميع مناحي الحياة، كما ألمعنا سابقا. ونظرًا للمساحة المحددة لهذا المقال سنقتصر على الأقوال التي تطرّق فيها لذم الفتن والحرب، وما ينتج عنها من مآسٍ وأحزان لا تنتهي، حيث يقول:

قال الحميد ابن منصور

لا عشت يابادى الحرب

وااذي تلاصي بناره

إنّ أوّل الحرب حالي

وتاليتها مرارة

مرارته قتل لاجواد

وغارة بعد غارة

فهو في هذا القول يدعو على مشعلي فتيل الحرب بالموت, فالحرب من وجهة نظره كالنار التي تحرق كل شيء, ولا غرابة في ذلك؛ فهو فلّاح يميل إلى الاستقرار والأمان.

وابتداؤه بالدعاء في قوله (لا عشت) دليل على ذلك, كما أن تقديمه لصيغة النفي (لا عشت) على أسلوب النداء (وا بادع) تأكيد منه على مدى كرهه لمشعلي الحروب, فهو يتمنى موتهم من أجل حياة الآخرين وأمنهم واستقرارهم, لعل في موتهم حياة للأجيال القادمة, واستخدامه لأسلوب النداء بهذه الصيغة تؤكّد مدى التباعد النفسي بين المتكلم والمخاطب.

والحميد ابن منصور يتألم على ضحايا الحروب، ويؤكّد أنّه مهما اشتدّتْ نارها, وطال أمدها, أنها منتهية، حيث يقول:

قال الحميد ابن منصور

بعد الحروب العوافي

يا ويل من راح فيها

غير أن الحميد لا يدعو للجبن و الضعف بل إنه في مواقف أخرى يوصي ولده بألّا يخذل قومه، و لا سيما الضعفاء منهم، وقت تعرضهم لأي اعتداء. حيث يقول:

قال الحميد ابن منصور

باوصيك يا بني محمد

 باوصيك بأربع وصايا

الأوله عصب راسك تخرج مع الصايح الاول

واالثانية في ربيعك قاتل معه قبل يقتل

واالثالثة في دخيلك عجّل بزاده ولو قلّ

والرابعة حرمة الويل طلاقها قبل تحبل

فهذا الموقف لا يعني أنّ الحميد يدعو إلى الحرب, وإنما يعني هذا أنّه لا يريد لابنه أن يوصم بوصمة عار في نظر أبناء مجتمعه, القائم على التكافل الاجتماعي, ونجدة الملهوف, والذود عن العار والديار, فهو هنا لا يدفعه إلى الحرب دفعًا وإنما يحثّه على تلبية نداء المستجير (الصايح)، حيث نجد في أقوال الحميد ما يؤيد ذلك:

قال الحميد ابن منصور

إن صاحبي جيد أنا جيد

وإن صاحبي فسل ذلّيت

في حين تتغير لهجته في النصيحة الثانية مما يوحي بتغير درجة الإلزام للمخاطب(ابنه), فهو هنا لا يحثّه ولكن يأمره أمرًا مباشرًا بأن يقاتل مع ربيعه, والربيع: هو شخص وافد من خارج المنطقة أو القبيلة, التجأ إلى قوم لسبب من الأسباب.

وفي الوصية الثالثة يدعو ولده إلى الإسراع بإكرام الضيف، ولو بشيء يسير من الطعام وقت وصوله من السفر. أمّا الوصيّة الرابعة فهي تُعدّ أم الوصايا؛ لأنها ترتبط بأهم مكوّن في الأسرة وهي الزوجة, فهي الركيزة الأساسية في المجتمع, حيث يُعبّر الحميد عن ذلك بقوله:

قال الحميد ابن منصور

لا قد سبر هاجس البيت

تسبر جميع الهواجس

وإن قد عطل هاجس البيت

ضاعت جميع الهواجس

قال الحميد ابن منصور:

إنَّ الهوى شوك علبي     ماسك بجنبي ذلوقه

)العلبي أو العلب هو شجر السدر ذو الثمرة الطيبة و الشوك الحاد، و رؤوس شوكه تسمى الذلوق؛ لأنها حادة. والحميد يشبِّه عن طريق الاستعارة الهوى بشوك هذه الشجرة الذي إنْ دخل في الجسد فلا يزول إلا بآلام

وخلاصة القول عن أقوال الحميد ابن منصور أنها أقوال تعكس خبرته في كلّ مناحي الحياة, وهي تختلف عن أقوال شرقه بن أحمد من الناحية الموضوعية، والأسلوبية, فلكل منهما طابعه المميَّز. وأقوال شرقه تختص كما أسلفنا بالتغني أثناء سقي الأرض وتكاد معانيها أن تنحصر حول هذا الموضوع وهذا ما يؤكده قوله:

قامة من الماء خير من قامة ذهب يوم الذهب يكمل وذا يا كيل حبّ

فالماء في نظر شرقه لا يقدر بثمن, بل هو في نظره أغلى من الذهب؛ معللًا ذلك الحكم بنفاد الذهب مهما كانت كميته بعكس الماء الذي لا تنقطع عوائده (وذا يا كيل حب), فالماء ثروة شرقه الحقيقية؛ ولذلك نجده لا يحتاج للآخرين كثيرًا سوى الحرفيين الذين يقومون بصناعة أدوات السقي, وهذا ما يؤكده قوله: يقول شرقه ما عندي لحد قدية إن كان حدّاد وفرّاي امدلي أيْ أنه لا يلين جانبه إلا مع أهل المهن من الحدادين و من يصنعون دلاء السقي، فهو يحبهم ويحترمهم ويدين لهم. ومهنة السقي ليست مهنة سهلة ولا مريحة، فصاحبها يتعب كثيرًا، ويتمنّى سماع صوت الرعد المبشر بالمطر الذي يترتب على نزوله التوقّف عن سقي الأرض, حيث يقول:

سمعني امراعد ولا صوت امدلي

من الملاحظ أنّ هناك فوارق أسلوبية بين صياغة أقوال الحميد ابن منصور وشرقة بن أحمد؛ فالحميد من ناحية الوزن العروضي ينظم على وزن بحر المجتث، وتفعيلته (مستفلن فاعلاتن)، حيث تجري عليها جميع أقواله، وابتداؤه باللازمة (قال الحميد بن منصور) تُعدّ من أساليب الشعراء المتّبعة في المناطق المذكورة وما جاور تلك المناطق، حيث نجد الشعراء يجرون على هذا النمط، ومن الأمثلة على ذلك: بينما (شرقة بن أحمد) لا يبتدأ باللازمة، وإنما يبدأ باسمه مباشرة في بعض أقواله، حتّى أنّ هذه الأقوال تُعدّ في كثير من الأحيان بمثابة الأحكام التي تردد على ألسنة الناس. مثال ذلك:

قامة من امّاء خير من قامة ذهب

وهي من ناحية الوزن تأتي على بحر الرجز؛ فهي أراجيز تردد أثناء السقي؛ لتسهم في تنشيط ضمد البقر أو الإبل، وحثّه على الإسراع لاستخراج الماء من البئر، وتُعدّ بمثابة الحداء الذي كان يردد أثناء سير القافلة في الصحراء. وهي بذلك تعدّ أقوالًا أوليّة بسيطة.

وخلاصة القول، فالحميد ابن منصور أكثر شهرة من شرقه بن أحمد، ومناطق كثافة وجوده ومناطق أطياف وجوده أوسع من تلك التي فيها يحضر اسم شرقة أو اسم علي ولد زايد. فأخبار الحميد ابن منصور وأقواله تغطّي مناطق شاسعة بعكس شرقة؛ إذ تكاد أخبار شرقة وأقواله تنحصر في مناطق محدودة من محافظة البيضاء ويافع والعواذل ودثينة وشبوة ومأرب. أمّا من ناحية كم أقوالهما، فأقوال الحميد أكثر كميّة من أقوال شرقة.

ا[2]

[3]
[4].
[5]

الاسم العلمي للسدر هو (Ziziphus spina-christi ) ويسمى أيضا (Sidarbaum)

ا[6]

  1. ^ الباحث محمد عزيز العرفج في كتابه عن جذور الشعر النبطي، أن أقوال الحميد وصلت الخليج من اليمن عبر السواحل، ويرد كلام طلال الرميضي مثبتا يمنية الحميد بن منصور لطغيان حضوره في مناطق متعددة من اليمن وخصوصا في المناطق الشرقيه والوسطى وتهامه
  2. ^ نظر محمد عزيز العرفج، جذور الشعر النبطي: في فن الترنيم والأوزان وتأصيل الشعر النبطي ومراحل تطوّره وتأثره بالحميني والمدرسة الصوفية، دار هماليل للطباعة والنشر، أبو ظبي، 2015 ، ص 195 – 197. في الكويت يضيفون ياء إلى اسم هذا الحكيم فيقولون الحميدي ابن منصور.
  3. ^ شعر العامية في اليمن دراسة تاريخية ونقدية, دار العودة بيروت, 1978م, ص379.
  4. ^ مجلة الحكمة, العدد الأوّل, ديسمبر, 1971م, ص46
  5. ^ علي صالح الخلاقي، الحكيم الفلاح الحميد بن منصور: شخصيته و أقواله
  6. ^ نظر طائفة من أقوال شرقة في د. علي صالح الخلاقي، الحكيم الفلاح الحميد بن منصور: شخصيته و أقواله، ص108. وقد خصص المؤلف ملحقا عن شرقة بن أحمد. من ص 104 إلى ص 111. وهو أوفى ما كتب عن شرقة بن أحمد.