مستخدم:Doaa Jenan/ملعب

الشريف الإدريسي عدل

المولود الجديد عدل

دوت صرخة اخترقت الليل البهيم الذي خيم على الكون ، ومزقت السكون الرهيب الذي ألجم كل شئ ، إنها صرخة وليد أقبل إلى الدنيا منذ لحظات .

انفرجت أسارير الأب ، وانفرجت شفتاه شفتاه وهمس في نفسه : لقد تحقق الحلم و انجلت الهواجس .

أسرع الأب في عجل ينظر إلى طفله الصعير ، واقترب وهو يحرك شفتيه بالتكبير والحمد والتعويذ ، وجثا الرجل على ركبتيه ، ونظر إلى صغيره بوجه متهلل ، وعينين تلمعان ، ورفع كفيه إلى السماء وقال في خشوع وإذعان : اللهم اجعله صاحا بارا بوالديه !

قالت الأم في دلال : لابد أن نختار له اسما حسنا يا زوجي العزيز .

قال الزوج : سأسميه محمداً .. نعم محمد بن محمد ابن عبدالله بن إدريس ، وارجو من الله عز وجل أن يكون شريفا ً مثل آبائه ، وأن يحقق مجد أجداده ، فكم أنا حزين يا زوجتي على ما وصل إليه حالنا ، وما ضاع من إمارة و سيادة .

قالت الزوجة لتزيح الهم عن زوجها : إن شاء الله سيكون كما تريد وتتمنى يا زوجي العزيز .

انتبه الزوج واقفاً وقال بنبرة فرحة : والآن يا زوجتي سأذب لإحضر لكما ما تريدان من السوق .

واندفع الرجل مسرعاً إلى خارج البيت.

حياته ونشأته عدل

شب الطفل الصغير ، والنبت الغض شغوفاً بالنظر إلى السفن غاديةً ورائحةً ، فكان يمكث الساعات الطوال يرقبها ويرصدها ، وأخذه الشوق إلى صعود الأماكن المرتفعة يطل بنظره إلى الأفق البعيد الذي يهيمن كشبح مخيف يتضاءل عنده كل كبير ، ويغوص في أعماقه كل صغير .

وكيراً ما كان يجلس الإدريسي بمفرده محملقاً متأملاً في القلاع الهادرة في أعماق البحر ، ناظراً إلى اليم الثائر الذي يتلاعب بها ، فتارة ترتفع فتصافح قمم الجبال ، وأخرى يهوي بها حتى لا يرى منها إلا أعلاها .

هذا الشعور الدفين في أعماقه ، وولعه بالطبيعة لم يكن لينمو ويخرج إلى الحياة غضاً لولا تلك الطبيعة الساحرة التي تتمتع بها مدينة سبتة مسقط رأس الإدريسي ، فكانت قائمة فوق هضبات بشبه جزيرة تسبح في البحر ليل نهار ، تشرق على البحر بمرسى مينائها الذي اعتبره الملاحون من أجود المراسي ، وقال أحدها : إن مرسى سبتة لا مثيل له .

وتميزت بسورها الحجري القوي المتين الذي التف حولها كسوار أحاط يساعد فتاة حسناء ، وبيوتها المنتظمة ، ومآذنها الشاهقة الشامخة ، ومساجدها التي يدوي فيها التسبيح والتهليل ، وطرقاتها النظيفة كثيرة التعاريج ، فهي حصن متين كان دائماً هدف الغزاة ، ومقصد المعتدين .

كانت تلك المدينة منذ أن أنشأها الرومان قلعة عسكرية ، ثم استطاع القائد المظفر موسى بن نصير أن ينتزع هذه المدينة من أيدي حكامها من القوط الأسبانيين ، وظلت منذ هذا التاريخ موضع للنزاع بين حكام الأندلس والمغرب حتى جاء عبدالرحمن الناصر الخليفة الأندلسي وشيد حولها سوراً منيعاً من الحجارة الصلدة التي استطاعت أن تقهر رماح الغزاة ، وتربو فوق همم المعتدين .

الحلم يتحقق عدل

صاح الأب بابنه : يا إدريسي !! يا إدريسي !!

قالت الأم: انه لم يأتي بعديا أبا محمد

قال الأب: إذا أتى من الخارج فليدخل على حجرتي

قالت الأم: طوع أمرك يا زوجي العزيز

دخل الأب حجرته ، وأمسك بكتاب ، وأخذ يتصفحه بنظره، وما هي إلا لحظات وطرق الباب .

هرولت الأم صائحةً : من ؟! من الطارق ؟!

أجابها صوت رقيق : أنا يا أماه .

فتحت الأم الباب قائلةً: لقد تأخرت كثيراً اليوم يا ادريسي !!

قال الإدريسي: نعم !! نعم يا أماه لقد أخذني شغف النظر إلى البحر، ونأى بي السير خلف الملاحة والحديث عن البلدان والمغامرات .

قالت الأم مبتسمةً: سأل عنك ابوك من لحظه ، وهو ينتظرك بداخل الحجره .

أسرع الإدريسي نحو باب الحجره وطرق الباب طرقةً خفيفةً .

قال الأب: أدخل أيها الإدريسي الصغير .

إندفع الإدريسي إلى داخل الحجره، وتقدم في خطوات متقاربه صوب أبيه ، اعتدل الأب في فراشه، وأغلق كتاباً كان يقرأ فيه بين يديه.

جلس الإدريسي في وقارٍ بين يدي أبيه قائلاً: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا ابي .

تبسم الأب قائلاً: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أيها الإدريسي الصغير .

ثم عاود الحديث في حنان : اقترب .. اقترب يا إدريسي.

تحرك الإدريسي بالقرب من أبيه قائلاً : طوع أمرك ياأبي .

وضع الأب يده على كاهل ابنه وهزه في حب وحنان قائلاً : أنا سعيد بك يا إدريسي ، ومعجب بحبك للعلم ، وها أنت قد بلغت سن الشباب والرجولة وغربت عن سمائك شمس الصبا والطفولة ، واستطعت أن تحفظ القرآن عن ظهر قلب ، ونهلت من ينابيع سبتة كل ما تجده من علوم ومعارف ، وسمعت كثيراً عن ذهابك لمرسى سبتة ، وحديثك مع البحارة والركبان .

صمت الأب برهة ثم واصل الحديث قائلاً : ومن الآن يا إدريسي تبدأ في إعداد نفسك للرحيل إلى قلعة العلم في الأندلس ، والمنارة التي يهتدي بها السائرون ، ويطوف بها العلماء ، سترحل يا بني إلى قرطبة .

هتف الإدريسي في سرور : قرطبة !! منارة العلم وقبلة العلماء !!

ضحك الأب : نعم !! نعم يا إدريسي قرطبة !

فرح الإدريسي ، وأحس أن العلم الذي يرقبه ويتطلع إاليه بدأ يتحقق و اقترب من ابيه ، وهوى يقبل يديه ، ويلقي بجسده في حضنه وهو يردد قائلاً : شكراً لك يا أبي ، لقد ارسلت أحب خبر إلى .

همس الأب في أذن إبنه: والان يا إدريسي عليك ان تبدا في اعداد نفسك ، فانت في خلال يوم أو يومين ستكون على ظهر أول سفينه إلى قرطبة.

وفي أسرع من البرق ينصرف الإدريسي من أمام والده .

قال الإدريسي لأمه فرحاً: إجمعي لي يا أمي كل ملابسي .

قالت الأم مندهشةً: خيراً يا بني .

صاح فرحاً :سأرحل ..سأرحل يا أماه لطلب العلم .

قالت الأم وقد بدا عليها الوجوم: سترحل إلى أين؟!

أجاب الإدريسي : إلى قرطبة يا أماه ، إلى حيث كان يذهب عقلي ،إلى البلد الذي أنظر إليه ، ولا يصل إليه بصري !!

هزت الأم رأسها وقد تلعثم لسانها وبدا على وجهها خليط من الفرحة وحزن الفراق .

وداع ورحيل عدل

شد الإدريسي الرحال، وانطلق تغمره الفرحة إلى مرسى سبتة ، الإدريسي عدواً في هالةٍ من الأصدقاء والأقارب يتقدمهم أبوه وإخوته .

وصل الركب إلى مرسى سبت، فامسك الأب بيد ابنه ، وهزه من عضديه، ثم صاح ناصحاً : ارحل يا بني وقد أظلتك اجنحة الملائكة ،وتذكر دائماً أنك من الأشراف !! من الادارسة !! فأنت يا بني من نسل على بن أبى طالبٍ (رضي الله عنه ) ابن عم الرسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال الغدريسي مبتسماً : أعلم ذلك جيداً يا أبي . أما أمه فقد ضمته ضمة قويةً ، وأحاطته بذراعيها، وسحت الدموع من عينيها وهي تدعو: اللهم اجعله غانماً وأرجعه سالماً .

سار الإدريسي إلى السفينة ، وصعد عدواً إلى ظهرها ثم أطل بنظرهِ إلى أبيهِ وأمهِ وإخوتهِ ونظر إليهم نظرة الوداع .

تحركت السفينةُ وسط هُتافٍ وصياحٍ ، وتكبيرٍ وتهليلٍ ،وأخذت تسير هادرةً في زهو وخيلاءَ تُصافح الموج وتشُقُّ المياهَ ، عندئذٍ حدق الإدريسي إلى سبتةَ ليودعها الوداع الأخير ، ونظر إليها من مكانٍ لم ينظر منه قبل اليوم ، ثم همس : كم أنتِ ساحرةٌ يا مدينتي!

معالم الجغرافيا لدى الإدريسي عدل

تألقت العقلية الملهمة ، والنظرة العلمية التي عبرت الأفق ، وحلقت في سماء المجد عندما استطاع الجهبذ العربي بعبقريته أن يضع الأسس الأولى لفروع الجغرافيا بمعناه الحديث ومن ذلك :

  • الجغرافيا الجنسية : وهي الجغرافيا التي تهتم بالجنس والأنواع البشرية ، وهي فرع من أهم فروع الجغرافيا .
  • الجغرافيا الاقتصادية : وهو الحديث عن المدن و المراسي و البلدان وما لها من أهمية تجارية اقتصادية .
  • الجغرافيا الاجتماعية : واهتم كذلك بالجغرافيا الاجتماعية التي تهتم بالثروات المائية والبلاد التي يتعرض لوصفها ، ويظهر ذلك الكتاب { لمحات عن النظم الاجتماعية عند مختلف الجماعات والأقوام } ، وذلك من حيث توزيعها ، وعلاقتها بالبيئة ، ثم علاقة بعضها البعض بالتوزيع السكاني .

مؤلفاته عدل

تعددت مؤلفات الإدريسي ، وتنوعت ، فلم يكن جراب الإدريسي فارغاً من العلوم الأخرى ، بل كان جرابه مملوءاً بعلم الطبّ والعقاقير والصَّيدلة والنَّبات وفنون أخرى ، وهاك دراسة مختصرة عن بعض مؤلفات الإدريسي :

  • (( نزهة المشتاق في اختراق الآفاق )) : وصف فيه الإدريسي البلدان والجبال والأنهار والبحار والمدن والعواصم ، وقسَّمه على الأقاليم السبعة ، واستطاع أن يجوب بالقارئ في الآفاق و البلدان في شغف وشوق .

وذكر المؤرخ الأستاذ المرحوم أحمد بن زكي باشا : أنه تمكن من العثور على أربع نسخٍ خطيَّة من كتاب الإدريسي المسمى (( نزهة المشتاق في اختراق الآفاق )) .

  • (( المسالك والممالك )) : ألَّف الإدريسي هذا الكتاب لغليوم الملك النورماني ، ويبدو أنّه اختصار للكتاب السابق ، واقتصر فيه على ذكر المسافات بين البلدان والأقاليم مع تبيان مسالكها والطرقات الموصلة بين أجزاء المعمور من الأرض .

وتوجد في معهد المخوطات بجامعة الدول العربية بالقاهرة نسختان مصورتان على الميكروفيلم .

  • (( جامع صفات أشتات النبات وضروب صنوف المعزوات من الأشجار والثمار)) : والموجود منه الجزء الثاني و الثالث في نسخة مأخوذة بالتصوير الشمسي ، وهي موجودة بمعهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بالقاهرة .

إنجازاته عدل

يطول بنا الحديث عندما نفتفي آثار الإدريسي أو نتتبع إنجازاته التي شهد بها الجميع ، فهي متشعِّبه ، متنوعه لم يسبقه لمثلها أحد من العلماء، ولعل من أبرز هذه الإنجازات :

  • اول من قال بكروية الأرض.
  • أول من وضع كره مجسمة للأرض من الفضة.
  • أول من صمم خرائط دقيقة للعالم كله موضحاً عليها مواضع البلدان بالنسبة لخطوط الطول والعرض، والمسكون والمعمور منها .
  • أول من أشار في خريطته إلى أرضٍ يابسةٍ فيما وراء الأطلسي .
  • أول من إكتشف منابع النيل ، وحددها على خريطة رسم عليها النيل ، وهو يأتي من بحيرات خط الإستواء .
  • أول من وضع الأسس الاولى لفروع الجغرافيا بمعناها الحديث.
  • أول من استخدم طريقة التّرسيم ، أو ما يسمى طريقة الإسقاط التي تقوم على تقاطع خطوط الطول مع خطوط العرض .
  • أول من ألَّف أكبر موسوعة جغرافية للعالم .
  • أول من أوضح الظواهر الجوية .

الإدريسي عند العرب عدل

عانت ذكرى الإدريسي وسيرته من تجاهل وفتور المؤرخين العرب خاصةً المعاصرين له ، فقد ذكروا أعماله وتجاهلوا اسمه وفضله لأسباب خاص فيها الكثير ولم يبلغوا غايتها أو حقيقتها ولم يمنع هذا التجاهل بعض المنصفين العرب من الحديث عنه والثناء عليه :

يقول الدمييلي في كتاب (( العلم عند العرب )) : (( هذا العالم الجغرافي الذي ربما كان أعظم جغرافيي العالم الإسلامي على وجهه الخصوص وكان ذا ملكةٍ ممتازة في رسم الخرائط ، وهو من العلماء الذين اشتركوا في نقل كنز العلم العربي إلى الغرب )) .

ويقول نفيس أحمد: في (( جهود المسلمين الجغرافيا )) : (( كتابه (( نزهة المشتاق )) بالتأكيد هو أكبر نموذج بارزٍ لإظهار المعلومات الجغرافية القديمة مع المعلومات المتجددة )).

ويقول مصطفى الشّهَاب في كتابه : (( الجغرافيون العرب )) : (( هذه العناية العظيمة التي بذلها العلماء في أوروبا بكتاب الشريف الإدريسي تدل على عظمته وعلى أنه من أدقِّ المؤلفات وأتقنها ، ولذلك لم يكن غريباً أن يطلق على الإدريسي: إسطرابون العرب )).

وجعله عبد المتعال الصعيدي : كواحد من المتجدّدين في الإسلام ، بما قدَّمه لعلم الجغرافيا والخرائط ، من أصالة وابتكار .

الإدريسي في نظر علماء الغرب عدل

ذاع صيت الإدريسي عند الغرب ، فكان علماً على جبلٍ أو علماً في رأسه شهابٌ مضىء ، ووجد من قبلهِم ثناءً حسناً ، وإجلالا وتعظيماً لهذا العالم الذي سبقَ أقرانهُ قروناً

  • يقول المُسيُو لُوريشي في ((دائرة المعارف الفرنسيةِ الكُبرى))عن كتاب الإدريسي :((هو أكمل كتاب جغرافي تركه لنا العربُ ، وإن ما دقَّقه الإدريسي من تحديد المسافات وما حقَّقه من دقائق الوصف يجعل من هذا الكتاب وثيقَةً نفسيةً لعلمِ الجغرافيا في مستهلِّ القرونِ الوسطَى))
  • ويقول أنخلُ جنثالث في كتابه: ((تاريخ الفكرالأندلسيَّ)):((وقد لُقب الإدريسي ب(إسطرابون العرب ) ، وهو يعتبر- بناءً على ذلك - أكبر جغرافي أطلقتهُ العصور الوسطى .. ثم إن الكتاب حافلٌ بالمعلومات الجغرافيةِ الصحيحةِ ، ومادَّتُهُ وافرةٌ عن البلاد الأوروبيَّةِ التي تسكنُها شعوبٌ نصرانيّةٌ مع أنهُ يضمُّ بعض اطراف من الخُرافات كانت أوسع ما تكون انتشاراًفي عصره)).

وقد كتن الألمانُ أكثر الأوروبيينَ اهتماماً بِالإدريسيِّ كِتابةٍ عن سيرتهِ، ونشراً لخرائطهِ ، ولأجزاء من كتابِهِ ، ويُلحق بهم في هذا الاهتمام العديدُ من المستشرقينَ الأسبان ، والرُّوس ،والفنلنديينَ، والفرنسيينَ ،والنمساويِّين ، والسُّويديِّين ،والإيطاليينَ الَّذين كان لهم الفضلُ في إصدارِ أول طبعةٍ من كتاب ((نُزهةِ المشتاقِ)) في مطبعةِ ((الميدتشِ)) بِروما في ختام القرنِ السَّادس عشر الميلادي ، وهي أقدم طبعَةٍ أُوروبّيَّةٍ ظهرت لهذا الكتابِ.

وفاته عدل

تسلل المرض في خُفيتهِ إلى مجلس الإدريسي الذي أخذ يرتب أوراقه،وفي لمح البصر انقضَّ المرض على هذا الشيخ الهِرَمِ ، وبثَّ في جسدهِ سمومه فأرادهُ طريحاً في فراشهِ لا يقوى على الحركه، سكنت أعضاؤه إلا من همهمات الذكر والتسبيح المتثاقله.

وفي صباح يوم من أيام سنة (560)هجري لفظ الإدريسي أنفاسهُ الأخيره ،وفاضت روحهُ إلى خالقها ، وحملَ جُثمانُهُ ودُسَّ في التراب .

رحم الله الإدريسي ،وأسكنهُ فسيحَ جنّاتِه.