مستخدم:وليد جمعه الطرفي الاحوازي/ملعب

أجری الحوار : عادل الحیدري رئیس تحریر صحیفة «صوت الشعب» علما بأن جریدة صوت الشعب کانت الجریدة الثقافیة الشهریة الوحیدة لأکثر من خمسة ملیون عربي في الأهواز والتي صدرت في عهد الاصلاحات وسحبت رخصتها في ما بعد.

غنيّ عن التعریف وقد ارتبط اسمه بالشعر والأدب والثقافة الأهوازیة؛ الدکتور عباس العباسي الطّائي؛ الشاعر والکاتب والصحفي؛ والناقد وأستاذ الأدب العربي:

صوت الشعب:أهلاً وسهلاً دکتور؛ نوّد أن نفتح معک حواراً مفتوحاً؛ هل بأمکانک أن تأخذ قرّاء صوت الشعب معک في رحلة حیاتک التي نعرف انّها عامرة بالتجارب والذکریات؟

- أهلاً وسهلاً بکم وبصحیفة صوت الشعب وقرائها الکرام. بطلبک هذا فتحت باباً ذا شجون. أتذکـّر عبارةً قرأتها في روایة «الغریب» ؛ للکاتب الفرنسي؛ البیر کامو یقول فیها - مامعناه- : «لو عاش الانسان یوماً واحداً في الحیاة فقط؛ ثمّ ألقی في غیابة زنزانة ظلماء؛ لعاش بقیة عمره بذکریات ذلک الیوم» فکیف بي وقد عشتُ نصف قرنٍ وأنا ألمس بکلّ خلایا جسمي کل لحظة من هذا السنین المثقلة بالذکریات التي جلُّ ما فیها الحرمان . ففي الطفولة - یا صدیقي - یقول أحد المفکرین:« مشکلة الانسان أنـّه کان طفلاً» نعم ؛ هذا الکائن البريّ الغضّ الطرئ بل هذه المرأةُ الصافیة النقیّة؛ تلتفظ کل ما یمرّ علیها فتخزنه في أرشیفها. وهل تظن أنّ ما یمرّ به الطفل في قریتنا من سوء التغذیة وسوء التعامل والاضطهاد والحرمان ؛ یمرّ علیه بسلام ولا یترک في جسمه وروحه ودمه ما یعکـّرُ صفو حیاته - ان کان فیها صفوٌ - فلو عَلمَ الأباء ما ینتظر أبنائهم جرّاء ما یعانونه في طفولتهم ؛ لما ناموا لیلا ً ولا هدؤا نهارا ً.

وهکذا ؛ أنا ؛ أدخلت مدرسة القریة وکان الدرس یبدأ من أول یومِ دون أیة مقدمات ؛ وتلک هي المصیبة اذ کان علیِّ ان ألوي لساني ۱۸۰ درجة ؛ من لغة الأمّ العربیة الی الفارسیة.

أما المصیبة الأخری فکانت هي ؛ الغرامة.

صوت الشعب:هل کانوا یغرّمونکم في المدارس؟!

- نعم ؛ کانوا یغرّموننا إزاء کلّ کلمةٍ عربیةٍ ننطق بها ؛ نصف ریالٍ ایراني؛ وذلک کان أحد أسالیب التفریس وأبشعها؛ تلک الأسالیب التي کان یمارسها النظام البهلوي ضدّنا اذ کانت سلسلة ضغوط بدأت أولا ً باجتیاح الأهواز والقاء القبض علی الشیخ خزعل حاکمها؛ ثم الهجوم علی الناس بذریعة رفع (کشف)الحجاب وقد تعرّض الجیش الشاهنشاهي للنساء وسحب عباءاتهنّ وأقنعتهنّ في الشوارع والأحیاء. وعندما واجه الجیش مقاومة من الناس کبّدته بعض الخسائر؛ هاجم بالمدافع والطائرات فقتل الکبار والصغار ودمّر وأحرق ما أحرقَ ولم یکتف بذالکِ بل أسر رؤوس القبائل وعوائلهم وأبعدهم من منطقة البسیتین والخفاجیّة (۶۰کیلومتر غربي الأهواز) الی طهران (۹۰۰کیلومتر ) مشیا ً علی الأقدام . وکان عددهم یبلغ ۱۵۰۰ شخص من شیوخ وعجائز وحوامل واطفأل؛ فلم یصل منهم الی طهران الاّ أقلّ من نصف؛ امأ البقیة فقد ماتوا تحت سیاط القزّاق( جنود رضا شاه البهلوي)؛ وتبع رضا شاه؛ ابنهُ محمد رضا شاه في نفس السیاسة التعسّفیّة القمعیّة علی مدی ثمانین عاما ً .

في مثل تلک الظروف أنهیت المرحلة الأبتدائیة وکان عليّ أذهب ألی مدینة البسیتین لمتابعة الدراسة في المتوسطة والثانویة وأقطع یومیا ثلاثة کیلومترات مشیاً علی الأقدام في حرها وبردها عبوراً من نهر الکرخة وشُعبه حافیاً نصف عارٍ .

صوت الشعب:متی دخلت معهد المعلمین؟

عندما أتممت مرحلة المتوسطة نجحت في امتحان الدخول في معهد المعلمین سنة ۱۹۶۲م

وانا في السابعة عشر؛ انتهت الدورة وزاولت مهنة التدریس في قریة الخرابة وبعد عام نقلت الی قریتي أبوچلاچ ثم نقلت الی قریة أبوجاموسة.

(التبعید)

صوت الشعب: کیف کان انتقالک الی مدینة الأهواز؟

- أنا لم أنتقل؛ بل أبُعدت مع أربعمائة معلم من أبناء البسیتین والخفاجیة والحویزة بأمر صدر من محمد رضا البهلوي ینص علی ابعاد المعلمین العرب من تلک المدن؛وتلک کانت ضمن مخطـّطات النظام البهلوي ضد القومیات.

«في مکة المکرمة»

وکنت قد أخذت تاشیرة زیارة السعودیة تحسبا ً لمثل هذا الحادث ورغبة في زیارة بیت الله الحرام؛ ودخلت مکة ثم بیت الله ولم أکد أصدق ؛ لو لا عظمة البیت وخشعة الحضور في حرم الله ؛ فجلست ملتصقا ً بالکعبة المشرفة متعلقا ً بأستارها غیر مکترث بکدمات الحجاج ؛ ومازلت مندهشا ً حتی أحسست بحرارة الدموع علی صدري فاستیقظت من غمرةذلک الکابوس الذي طال من ثلاثة أسابیع ؛ وهناک رأیت جمیع أحلامي قد تناثرت أمامي ؛ فوجدتني مهیض الجناح أندب حظي قائلا ً قصیدةً وهذه بعض أبیاتها:

«دموع في رحاب البیت الحرام»

یـا غـــایتي وحنین الشوق راحـلتي

هــا قــد أتیتک یا ربي وخــلاقي....

مـن مصر لما لمحت النـور سرت له

سرعــان أحمل آمـــالي وأشــواقي

آنست فی الأزهر المنشود ضائعتي

فرحت أنسی به بؤسي وارهــاقي

فــتابعتني یــــد الأقــدار طـــالبة

ثأرا ً کأنّ لهــــا عـــــندي بـــالحاق

ساءت بنو مصر یا ویلي معاملتي

بــئس الــضیافة لا عــهدا ً بمیثـــاق

قد أوثقوني کتافا ً ساء ما فــعلوا

من کنت أرجــوهم فــکّا ً لا یثاقـــي

ألـــقوا عــليَّ بـــطاقاتي مـمزقة

فــکیف أفعل یــاربّ بـــــــأوراقــــي

ورجعت أدراجي الی الأهواز ؛ فواجهت ما واجهت من المشاکل وبعدها حاولت أحصل علی سابقتي في جامعة الأزهر؛ فلم أفلح وذلک لتدهور العلاقات بین البلدین ثم تابعت دراستي في الماجستیر والدکتوراه في الأدب العربي في طهران وحصلت علی شهادتیهما. وهکذا انتهت الجولة من حیاتي ؛ وأرجو ألاّ أکون قد أزعجتک معي والآن لنبدأ بالمفید.

«علی ضفاف نهر الکرخة»

کل ما قلته مفیدٌ ؛لنتحدث عن الشعر اولا ً ؛کثیرا ً ما نلمس في شعرک الحنین الی الدیار فماهو السبب؟

- الحنین الی الدیار ؛ لأن الحنین الی الأحبة في غیابهم قد تخمد ناره ویضعف أواره بعد اللقاء بهم ؛ انما الدیار ؛ تؤجج الأشواق فرقتها ویزداد الاحتراق بزیارتها. کنت عندما أقرآ شعر الشعراء القدامی وأصحاب المعلقات استغرب کثرة بکائهم علی الأطلال ؛ حتی ابتعدت عن دیاري وراحت الذکریات تشدني الیها؛ ثم اندلعت الحرب أوزارها وسمح لنا بزیارة الدیار ذهبت الیها وقد طال الفراق أکثر من عشرین حجة علی حد قول الشاعر العربي الحکیم زهیر بن أبی سلمی( ۵۳۰-۶۲۹م) عندما وقف علی دیار الأحبة وقال:

وقــفت بها من بعد عشرین حـجة فــلایا ً عـــرفت الــدّار بـعد تــوهم

واذا کان زهیر قد عرف الدیار بعد عناء وتوهم؛ فأنا وقفت في مکان کنت أظن أنه قد یکون قریبا ً من دیارنا؛ فلم أتعرف علی شئ منها وقد شدت نظري الیها نخلة کانت قد انحنت علی میاه نهر الکرخة الذي کان یجري حزینا وکانت النخلة قد مالت علی أمواجه بکل جسمها وأرخت ذوائب سعفها الأشعث علی الأمواج تناجیها وتشکوالیها جفاءَ الأهل وفراق الأحبة وهناک تذکرت قول الشاعر:

مالت علی النهر اذ جاش الخریر به کأنـــــها أذُن مــــالت لاصــــــــغاء

فاذا لم أتعرف علی الدیار بعد؛ فقد عرفت هذه الحقیقة ؛ أن الدیار هي أیضا ً تحب أهلها وتعاني من فراقهم:

ولي مـــذهب حبّ الدـــیار لأهـــلها وللـــــناس فـــیما یـعشقون مذاهب

عرفت هذا من أحوال تلک النخلة وما جری علیها خلال تلک السنین. وفی ما أنا فیه من الألم والوحدة اذِ سَلّم عليّ رجل فرددت السلام دون أن ألتفت الیه؛ فناداني باسمي واذا هو عبدالحسین بن سعدون وکان هو ایضا ً شاعر ً من شعراء الزجّل؛ فقال: اتبحث عن دارکم ؟ قلت : نعم ؛ قال : أما عرفت هذه النخلة بعد؟ قلت : قلبي یحدثني ؛ انها هي ؛ قال نعم انها نخلتکم المطلة علی شاطئ النهر فقلت : لکنها قد تغیرت وشابت تماما ً ؛ قال :نعم ؛ هذه حال الحرب والهجرة یا صدیقي ؛ ثم ترکني وکأنه قد أحس بحالي وبحاجتي لأخلو مع النخلة والدار؛ لکنّني سألته : ماذا جری للمنازل ؛ أما لها من أثر؛ قال : یا صدیقي ؛ عشرون عاما ً والسیول تغدق علیها بالأوحال وفي کل عام تأخذ منها وتعطیها حتی لم یبق منها أي أثر وقد زرعوا في هذه التربة الرزّ أخیرا ً. أمّا تری؟ قلت : سبحان الله مغیر الأحوال ؛ أهکذا تصبح دیارنا أثرا ً بعد عین ؛ وبعد أن یئست من العثور علی آثار المنازل التفتُّ الی النخلة ؛واذا بها کأنها تخاطبني بقول عمرو بن معدي کرب الزبیدی:

ذهــب الذیـــــــن أحــبهم وبقیت مــثل السیف فــردا

وهاجمتني الذکریات من کل جانب وما انتبهت الا علی صوت شهیق خاطته الدموع ؛فتذکرت بکاء الشعراء علی الأطلال وتذکرت ؛قفا نبک.....؛وأخذت القلم لأکتب هذه القصیدة التي سمّیتها : «وتذکرت قفا نبک» ومنها هذه الأبیات

کـیف ینسی الصبّ مـاقــد ألــفا ودیـــــاراً هــــام فــــیها شــغفا

أبــعدتني عـــنک یــا دار الصبّا طـــائلات الظلم جـــورا وجــفا

جــئتک الـیوم وقــــلبي طـــــائر خــافــــق الــجنح یـــغنّي دنـــفا

یــــعزف الألام فــي دقّــــــــاته یــنزف الأحــــلام لحنا مـرهـفا

آیــن ذاک العهد في هــذي الربی کیف ذاک الروض أمسی صفصفا

کــــل شبر فــیه ذکـــری حــلوة حـــفرت في ذکـــریاتي أحــرفا

وهکذا استمرت هذه الرحلة الطویلة خمسة وعشرین عاماً؛وأنا لم یقر لإ قرار ولم أسکن مدة طویلة في دار . وأخیراً قررت الاستقرار في عبادان وبادرت ببناء دار واسعة في هذه المدینة «وأکرم بعبادان داراً ومنزلاً» - وهذا قول أبی العتاهیة فیها - ولکنني بعدها أبلغت باللنتقال الی جامعة طهران المرکزیّه في طهران وهکذا حزمت حقائبي وغادرت المدینة وسکنت طهران مضطراً . فقلت وأنا أحسن الی دیاري وأهلي في قصیدة:

«الحبّ یکبر»

ألــحب یــکبر والــدیار تـباعــد وکم من فراقک یا دیار نـکابد؟

هـذي ربوع أحـبتي قـلبي بــها مـستودع مستـأمـن مــتواجــد....

یـا طــیب عـــبّادان دارکــرامة أنــفاسها ریّــاً نـدی تــتصاعـد

«أهواز» دار العز حیاک الحیا وسقت ریاضَ الحب منکِ روافد

الــدّار داري والمرابــع ملعبي لي في ربوعک یا دیـار معاهد

طهران ؛مالي فیک عزم اقامةٍ مــادام أهـلي بـالرحیل تناشد