مستخدم:محمد الشهوبي الترهوني/ملعب

الشيخ خليل المزوغي.

خليل بن علي بن خليفة بن محمد بن عمر المزوغي. ولد في مدينة ترهونة، في منطقة تسمى سيدي الصيد، سنة 1920، من عائلة تتكون من ثمانية أولاد وأربع بنات، كان ترتيبه فيها السادس، فقد بصره في السابعة من عمره، وبقي مع عائلته في مدينة ترهونة حتى بلغ الثانية عشرة من العمر، ثم أرسله والده إلى مدينة طرابلس الغرب، حيث كانت العائلة تمتلك أرضًا في محلة الغرارات بمنطقة سوق الجمعة، تأتي إليها في موسم التمور، وكان قريباً من أرضهم مسجد يسمى مسجد عَمُّوش، يؤم الأوقات فيه ويقوم بتحفيظ القرآن الشيخ الحجاجي الطربان رحمه الله، فالتزم الشيخ خليل منذ وصوله إلى مدينة طرابلس هذا الشيخ، فكان الشيخ خليل ـ وهو في الثانية عشرة من العمر فاقد للبصر ـ يقوم قبل الفجر ليسقي الأرض، ثم يذهب لصلاة الفجر وبدأ في حفظ كتاب الله على هذا الشيخ، وهو أول شيخ تتلمذ على يديه، أي حوالي سنة 1933، وبقي معه ست سنوات إلى سنة 1938، انتقل بعدها إلى زاوية ميزران، فواصل حفظ الجزء الباقي من القرآن الكريم، ودراسة علوم اللغة والفقه وأصوله والتفسير وغيره من العلوم الشرعية حتى 1943، انتقل بعدها إلى زاوية عبد السلام الأسمر بزليتن، وبقي فيها أربع سنوات انكب فيها على طلب العلم، بقراءة مزيد من كتب اللغة والمنطق والفقه والمواريث وغيرها، على أيدي مشائخ الزاوية، ونال إفادات منهم بذلك مع الثناء على اجتهاده وحفظه وإتقانه، وفي سنة 1947 شد الشيخ الرحلة إلى قبلة طلبة العلم المغاربة إلى جامع الزيتونة بتونس، حيث واصل طلب العلم على مشائخ الجامع وبقي هناك قرابة السنتين، في بلد لا يعرف فيه أحداً وهو فاقد البصر، وفي سنة 1949 رجع إلى مدينة طرابلس بزاوية ميزران مرة أخرى.

وفي مارس سنة 1951 عُيِّن وكيلاً لإمام جامع الناقة المعروف بطرابلس، وكان الإمام الشيخ علي سيالة رحمه الله، وبعدها بسنة واحدة عين مدرساً بجامع الناقة بدلا للشيخ أبي بكر بن الطيف، وبقي فيه مواظباً على إعطاء الدروس، وفي سنة 1956توفي الشيخ علي سيالة رحمه الله إمام جامع الناقة، فعين الشيخ خليل إماماً للجامع أيضًا.

وفي اكتوبر سنة 1954 عين الشيخ مدرساً بكلية أحمد باشا، وظل بها إلى حين ضم الكلية إلى معهد السيد محمد بن علي السنوسي، وبقي الشيخ مدرساً بالمعهد إلى أن تم تسمية المعهد بعد ذلك باسم معهد مالك بن أنس الديني، وبقي فيه إلى سنة 1985، بقي الفقيه رحمه الله مواظباً على تدريس شتى العلوم الشرعية واللغوية، من سنة 1952 إلى سنة 1985.

وفي أوائل الستينات وتغير التصنيف الوظيفي وفق الشهادات، شارك الشيخ في امتحانات جامعة السيد محمد بن علي السنوسي الإسلامية بالبيضاء لنيل الشهادة العالمية المؤقتة، وتحصل على الشهادة رفقة زميل آخر فقط، وكان ترتيبه الأول رحمه الله، مع أن بعض شيوخه قد شارك في الامتحانات لنيل الشهادة المذكورة.

شيوخه: كانت رحلة الشيخ خليل المزوغي في طلب العلم طويلة، دامت أكثر من ثلاثين عامًا، نهل خلاله من ينابيع العلم في ليبيا وتونس، وكانت البداية من سوق الجمعة، حيث بدأ في حفظ القرآن الكريم، على يدي الشيخ الحجاجي الطربان، ثم في زاوية ميزران على الشيخين المهدي الهنشيري والساحلي، ومن شيوخه أيضاً الشيخ مختار جوان وعبد السلام شادي وعبد السلام دراه، وكذلك من المشائخ منصور زبيدة وفرج حرير، وبعض الأساتذة المبتدئين في تلك الفترة، مثل الشيخ الطيب المصراتي والشيخ امحمد جون، والشيخ الهادي المسلاتي، وفي طرابلس من شيوخه رحمهم الله جميعاً أصحاب الفضيلة أيضًا الشيخ علي النجار والشيخ علي الغرياني والشيخ أبو بكر الطيف والشيخ محمد المصراتي والمهدي أبو شعالة والشيخ عبد الرحمن القلهود.

تلاميذه:  تتلمذ على يدي الشيخ الآلاف من طلبة العلم خلال نصف قرن تقريباً. فكان منهم العلماء، الفقهاء والأصوليون والقضاة وغيرهم. منهم على سبيل المثال لا الحصر أصحاب الفضيلة الدكتور الشيخ عمران العربي، وعبد السلام أبو ناجي، وعمر مولود، ومصطفى الصادق العربي، وعبد السلام أبو سعد، وعبد المولى المصراتي، والشيخ عبد السلام محمد البزنطي الطرابلسي، والشيخ محمد زهرة، وغيرهم كثير.

من الطبيعي أن الشيخ قد درس على شيوخه الفقه المالكي وبرز فيه، ثم واصل الاطلاع على بقية المذاهب الثلاثة وحده، ولقد كان شغفه بالقراءة لا يوصف، فقد كان يقول لو أُعطَى ساعات محدودة للنوم والغذاء، وأجد من يقرأ لي طيلة أربع وعشرين ساعة ما مللت من القراءة، ولقد كان طلبة العلم يتناوبون على القراءة عليه من بعد 11 صباحًا إلى الظهر ومن العصر حتى ساعات متأخرة من الليل، كل ساعات لها أصحابها، ومن حبه للعلم وسماحته لا يفرض على من يريد القراءة له قراءة كتاب معين، بل يمر اليوم وقد نهل من سماع شتى العلوم من تفسير وحديث وفقه وأصول وتاريخ وأدب وغيرها، ولعل من آخر الكتب التي قرئت من أولها إلى آخرها حاضر العالم الإسلامي لشكيب أرسلان، وكذلك فيض القدير للمناوي ذي السبع مجلدات، صحبة الشيخ عبد الخالق الطبيب رحمهم الله.

من نعم الله على هذا الشيخ أن اصطفاه لنشر العلم الشرعي قدر ما استطاع، فكانت للشيخ دروسه في الوعظ والإرشاد ـ منذ أن عين إمامًا في جامع الناقة إلى أن لبى نداء ربه ـ في كل مكان يحل فيه، في المناسبات الاجتماعية والدينية، وفي الإذاعتين المسموعة والمرئية، مثل برنامج الدين والمجتمع، وآخرها دروس في العبادات، بل وألقى دروساً في بعض مساجد البلاد التي سافر إليها بناء على طلب شيوخها، بالإضافة إلى دروسه في بعثة الحج خلال الستينات وأول الثمانينات.

وحتى بعد انتقاله من جامع الناقة لم يقطع الصلة به، بل واظب على إلقاء الدروس فيه طيلة شهر رمضان في كل عام بعد صلاة الظهر إلى قبيل صلاة العصر، وكان درسه ـ في السنوات الأخيرة ـ مخصصًا لتفسير آيات الأحكام، ومن مصادره الرئيسة فيه أحكام القرآن لابن العربي، وعلى عادة أهل العلم الكبار قد ينتقل به الحديث عن مسائل أخرى يجره إليها سؤال أو استطراد.

كما أن الشيخ كان من المشائخ الذين تصدروا للفتوى في مدينة طرابلس منذ الستينات أو قبل، واشتهر بها، فكان يقصد من المدن القريبة والبعيدة من أقصى الشرق والجنوب والغرب في القطر الليبي، وصار من أعلام ليبيا، وخاصة في فتاوى النكاح والطلاق رحمه الله، وكانت فتاواه في الطلاق ـ على مذهب الإمام مالك ـ معتمدة في جميع محاكم الأحوال الشخصية في البلاد فترة من الزمن.

ومع ذلك كان من ورعه رحمه الله أنه طُلِب منه أن تجمع فتاواه التي كان يلقيها في الإذاعتين وغيرها لتطبع في كتاب ـ ولو طبعت لخرجت في مجلدات ـ فيرفض ويقول حسبي أن أسلم مما أفتيت به بلساني.

ولقد كان للشيخ لقاء علمي أسبوعي، يعرف بسهرة الأربعاء في مدينة طرابلس، بدأت منذ أوائل الستينات تقريبا واستمرت إلى ما بعد وفاة الشيخ رحمه الله سنة 1990، لم تنقطع مهما كانت الظروف، ولقد كانت تجمع كبار أهل العلم في الغرب الليبي من الفقهاء والأدباء واللغويين وغيرهم، سهرة يتداول فيها هؤلاء الأفاضل النقاش في مسائل علمية مختلفة، ينبئك عن دسامة هذه الجلسات عندما تعلم أنها ضمت مشائخ ممن تولوا منصب مفتي البلاد كالشيخ عبد الرحمن القلهود والشيخ محمود صبحي، وكذلك ضمت الشيخ عبد السلام خليل الجنزوري، والدكتور إبراهيم ارفيدة، والشيخ أحمد الخليفي، واحميده الحامي، والشيخ سالم الماقوري،  والمهدي أبو حامد، ومحمد خليل القماطي، والأستاذ علي الديب، والشيخ أحمد الحصائري، وغيرهم على مر العقود.

امتاز الشيخ رحمه الله بذكاء شديد، وقوة حفظ قوية، فمما يروي عنه بعض أقرانه ممن شاركوه في رحلة طلب العلم، أنه كان يحفظ كل المتون التي يدرسها طلبة العلم، كمختصر خليل وألفية ابن مالك وغيرها، وكان يطلب من أقرانه أن يقرؤوا له الدرس مرة أو مرتين فقط، ثم يأتي في اليوم التالي ويسمعه على شيخه دون خطأ واحد، فيما يعاني بعض رفاقه من الوقوع في الخطأ، بل ومن الطرائف التي تروى عنه أنه كان هو من يقود جماعة من الزملاء في رحلة لبيت صديق أو مكان ما يبعد عشرات الكيلو مترات، فيركب في مقدمة السيارات، ليرشدهم إلى الطريق الموصلة إلى المكان المقصود، وكان رحمه الله إذا طلب من أحد أن يقرأ له كتاباً ما ليراجع مسألة فيه، ولا يوجد فهرسة للكتاب يطلب من القارئ أن يقرأ له، فيقول له زد عشرة صفحات للأمام، ارجع صفحتين، وهكذا حتى يصل إلى المسألة التي يبحث عنها، ومن شدة ذكائه رحمه الله أنه كان يعرف مكان كل كتاب في مكتبته، صغيرًا كان حجمه أو كبيراً.

ومما تميز به رحمه الله أنه كان مبادراً إلى تفريج الكربات عن الناس منذ أيام المملكة وما بعدها أيضًا، فما يقصده أحد لأجل مساعدة إلا كان الشيخ مبادراً إليها في لحظتها، فكانت له يد في إخراج مظلومين من السجون، وأخرى لعلاج أناس بسطاء خارج الدولة تقطعت بهم سبل العلاج داخل البلاد، كما تدخل لإيجاد فرص عمل لكثير من البيوت عجز أربابها عن توفير القوت لأهله وأطفاله، وساهم في حل منازعات كثيرة بين أسر بل وقبائل، فحقنت بفضل الله وسببه دماء، وأرجعت حقوق، والتأم شمل أسر، ومساهماته في إرشاد أهل الخير إلى بناء المساجد لم تخلو أيضًا، وآخرها المسجد الكبير في ترهونة، والمعروف بالمسجد العتيق.

كما أن الشيخ لم يسلم من المضايقات التي يتعرض لها بعض العلماء، فتعرضت مكتبته في سنة 1985 تقريباً للحريق بفعل فاعل، ولكن الله سلَّم المكتبة بصورة عجيبة، ولم يكد يتضرر منها كتاب.

في سنة 1990 بلغ الشيخ من العمر سبعين سنة، وفي منتصف شهر مايو من تلك السنة أصيب الشيخ بارتفاع مفاجئ في ضغط الدم ـ الذي كان يعاني منه منذ قرابة العشر سنوات ـ أدخل على أثره المستشفى وبقي طريح الفراش قرابة الأسبوعين، حتى صبيحة يوم السبت التاسع من شهر ذي القعدة سنة 1410 هـ الموافق للثاني من شهر يونيو 1990، عندها كان على موعد مع نداء ربه، فاستجاب لداعي السماء عند الساعة الثامنة صباحاً، ولتنتهي رحلة هذا العالم الجليل في الدعوة إلى الله والتي استمرت أكثر من نصف قرن (خمسين سنة)، ولتطفأ شعلة من شعل ليبيا أنارت طريق سبيل الله لعامة الناس في هذا البلد، وفي موكب مهيب انطلقت جنازة الشيخ رحمه الله من بيته إلى مقبرة الغرارات بمنطقة سوق الجمعة حيث دفن هناك وسط حضور حشد هائل من المصلين والمعزين لم يسبق أن شهدته المنطقة، وصلى عليه حسب وصيته ـ صلاة وتغسيلا ـ الشيخ امحمد مختار جوان رحمه الله.

وعلى الرغم من مكانة الشيخ في المجتمع على مختلف أطيافه، إلا أن ذلك لم يؤثر في تواضعه وزهده، رغم ما عرض عليه من مغريات لم تخرج إلى العلن، بل كان زاهدًا في دنيا يعلم أنها فانية، وحياة ـ على يقين ـ أنها زائلة، فغادر الدنيا الشيخ خليل المزوغي بتركة ـ عدا ثمن كفنه ـ لا تتجاوز المائة دينار ليبي، وبيته الذي كان ساكنًا فيه.

ولكنه ترك علمًا في صدور علماء يورثونه سلفاً عن خلف إلى يومنا هذا، وكذلك دروسًا عبر أثير الإذاعات لا زالت تعلم الناس أحكاماً دينهم إلى ساعتنا هذه، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال:إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ : مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ.

فرحم الله الشيخ العالم العامل خليل بن علي المزوغي وغفر له، وحشره مع النبيئين والشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقاً.

وقد رثاه أخوه وصاحبه الشيخ عبد السلام خليل الجنزوري رحمهم الله جميعاً بقصيدة أذكر منها:

لا تعذلوني فالمصاب جليــــــــل *** لكن ثواب الصابرين جزيــــل

إنا سنرحل عاجلاً أو آجــــــــلاً *** ما للنجاة من الفناء سبيـــــــــل

لا تجزعوا أبناءه وبناتـــــــــه *** إن كان قد لبى النداء خليــــــــــل

وجميل صبر واحتساب مثوبــــــة *** خير لكم من أن يقام عويــــل

طارت إلى رب البريئة روحــــــه *** إذ ليس عن هذا المصير بديل

فأبوكم لا ريب عبد صالــــــــح *** والمؤمنون الصالحون قليـــــــل

وحياته سفر جليل حافـــــــــل *** بالمكرمات سعيه مقبــــــــــــــول

وأضافه الرحمن عالم ســـــره *** والجار طه والجنان مقيــــــــــــل.

........................ *** ........................

رحمهم الله جميعاً وجزاهم عن العلم وأهله والمسلمين خير الجزاء، وعوض بلادنا فيهم خيراً. وصلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليماً.

كتبه أحد طلاب الشيخ خليل المزوغي.