ابن جني: الفرق بين النسختين
[نسخة منشورة] | [نسخة منشورة] |
تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
ط استرجاع تعديلات 5.127.58.18 (نقاش) حتى آخر نسخة بواسطة JarBot وسم: استرجاع |
ط شريط بوابات: علوم اللغة العربية باستخدام أوب |
||
سطر 41:
|الموقع الرسمي =
}}
'''أبو الفتح عثمان بن جني''' المشهور بـ'''ابن جني''' عالم نحوي كبير، ولد [[الموصل|بالموصل]] عام [[322 هـ]]، ونشأ وتعلم النحو فيها على يد [[أحمد بن محمد الموصلي الأخفش]]{{للهامش|1}} ويذكر [[ابن خلكان]] أن ابن جني قرأ الأدب في صباه على يد أبي علي الفارسي حيث توثقت الصلات بينهما، حتى نبغ ابن جني بسبب صحبته، حتى أن أستاذه[[أبو علي الفارسي
التقى ابن جني ب[[أبو الطيب المتنبي|المتنبي]] [[حلب|بحلب]] عند [[سيف الدولة الحمداني]] كما التقاه في [[شيراز|شيراز،]] عند [[عضد الدولة]] وكان المتنبي يحترمه ويقول فيه: {{اقتباس مضمن|هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس، وكان إذا سئل عن شيء من دقائق النحو والتصريف في شعره يقول: سلوا صاحبنا أبا الفتح}}. ويعد ابن جني أول من قام بشرح أشعار ديوان المتنبي وقد شرحه شرحين الشرح الكبير والشرح الصغير، ولم يصل إلينا في العصر الحديث سوى الشرح الصغير. كان ابن جني يثني دوما على [[المتنبي]] ويعبر عنه '''بشاعرنا''' فيقول: «وحدثني المتنبي شاعرنا، وماعرفته إلا صادقا». وكان كثير الاستشهاد بشعره
سطر 51:
=== نسبه ===
هو '''أَبُو الفَتح عُثمَان بِن جِنِّي'''، اسمه الأصلي «عثمان»، وكنيته «أبي الفتح»، ويُنسَب في بعض الأحيان إلى [[الموصل]] فيُقال «ابن جني المُوصِلي»، إلا أنَّه يُسمَّى غالباً «ابن جني» فقط. ولا يسجِّل المؤرخون العرب نَسَبَه ما بعد أبيه، نظراً لأنَّه لم يكن عربي النسب، فأبيه جنِّي، بكسر الجيم وتشديد النون وكسرها،<ref name="ReferenceA">حسام النعيمي (الدراسات اللهجية)، ص. 11</ref> هو مملوك رومي يوناني لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي، وهو من أعيان الموصل.<ref>محمود حسني محمود، ص. 319</ref> وفي صدر إحدى مخطوطات "''التصريف المملوكي''" ورِدَ أنَّ اسمه هو عثمان بن عبد الله بن جني، وهو يخالف كماً هائلاً من المصادر تنصُّ بوضوح على أنَّ والده هو "جِنِّي"، ونُشِرَ اسمه على هذه الصورة في الطبعة اللاتينية من ترجمة المستشرق هوبرغ في ليبزيج سنة 1885، وذكر كمال مصطفى
وكذلك لا يُعرَف الكثير عن سيِّد أبيه سليمان بن فهد الأزدي، سوى أنَّه كان من أعيان الموصل وسادتها وأشرافها، ويشتبه محمد النجار أنَّ يكون هو سليمان بن فهد المتوفى في 411 الذي ذكره [[ابن الأثير]] في "''[[الكامل في التاريخ|الكامل]]''"، ويذكر ابن الأثير أنَّ سليمان بن فهد هذا كان كاتباً عند [[أبو إسحاق الصابي|أبي إسحاق الصابي]] في [[بغداد]]، ثُمَّ انتقل إلى الموصل واقتنى فيها ضياعاً وتوطَّدت علاقته مع حاكم المدينة، لكنَّه ما لبث أن وقع في مشكلة مع أمير الموصل أبي المنيع قراوش بن المقلد فقتله أبو المنيع في سنة 411. وتبرز مشكلة العمر عند افتراض كونه مولى جني، فهو تُوفِّي بعد ابن جني بتسعة عشر عاماً، وابن جني توفي بعد عمر التسعين، وإذا كان هو مولى أبيه فهذا يعني أنَّه تُوفِّي بعد عمر المائة على أقلِّ تقدير، ومن المستبعد بعد هذا العمر أن يظل في السلطة ويخاصم أمير الموصل مُسبِّباً وفاته. غير أنَّ محمد النجار يُرجِّح كونه مولى جني نظراً لأنَّ ابن الزمكدم الذي هجا ابن جني وكانت بينهما خصومة، هجا
يتَّفِقُ المُترجِمُون لابن جني أنَّه كان فخوراً بانتسابه للروم، ونظَمَ أبياتاً تدلُّ على افتخاره بنسبه، إلا أنَّ افتخاره بعرقه لم تغلب عليه النزعة [[الشعوبية]] المتعصبة ضدَّ العرب،<ref>محمد النجار، ص. 35-37</ref> التي انتشرت نسبياً في زمنه بين غير العرب من المسلمين، على النقيض من هذا فقد رُويَ عن ابن جني مدحه لأخلاقيات العرب في الجاهلية، كما أنَّه يُفضِّل اللغة العربية على سواها من اللغات، وهي عنده ذات مكانة خاصَّة، وهو يصرح بهذا في أكثر من موضع من مؤلفاته.<ref>حسام النعيمي، ص. 71</ref> وابن جني الرومي الأصل ترعرع وعاش بين قبيلة أزد العربية في الموصل، وعلى الرغم من انتسابه العرقي المختلف عن هذه القبيلة فقد كان
{{بداية قصيدة}}
سطر 76:
{{اقتباس3|left|ولله هو، وعليه رحمته، فما كان أقوى قياسه، وأشد بهذا العلم اللطيف الشريف أُنسه، فكأنه إنما كان مخلوقاً له، وكيف كان لا يكون كذلك، وقد أقام على هذه الطريقة مع جلة أصحابها وأعيان شيوخها سبعين سنة زائحة علله، ساقطة عنه كلفه، وجعله همه وسدمه، لا يعتاقه عنه ولد، ولا يعارضه فيه متجر، ولا يسوم به مطلباً، ولا يخدم به رئيساً إلا بأخرة وقد حط من أثقاله وألقى عصا ترحاله!|يمدح أستاذه أبا علي الفارسي|''الخصائص'' (276/1)}}
ثُمَّ صَحَبَ أبا علي الفارسي بعد لقائه في الموصل، وتجدر الإشارة إلى أنَّ ابن خلكان يزعم أنَّ ابن جني التقى بالفارسي في بغداد قبل مجيئه إلى الموصل،<ref>رحيم الخرزجي، ص. 8</ref> وتدعم خديجة الحديثي هذا القول بنصوص من مؤلفات ابن جني يذكر فيها تلاميذ المبرد وثعلب في بغداد.<ref>خديجة الحديثي (2001)، ص. 222</ref> والفارسي هو أكثر الشيوخ والعلماء تأثيراً عليه،<ref>حسام النعيمي (الدراسات اللهجية)، ص. 13-14</ref> ولا نكاد نجد كتاباً لابن جني لا يذكره فيه أو يعرض بعضاً من آرائه ويقتبس منها ويثني عليها، ويعود هذا الاهتمام إلى العناية التي تلقاها ابن جني من قِبَلِه، وإلى المُدَّة الزمنية الطويلة التي قضاها ابن جني في صحبته، وتُقَدَّر بحوالي 40 عاماً منذ لقائه في الموصل سنة 337 حتى وفاة الفارسي في 377. ويُرجِّح مهدي المخزومي أنَّ ابن جني لم يصحب بعد لقائه بالفارسي أيَّ أستاذٍ آخر.<ref>مهدي المخزومي، ص. 91</ref> وفي هذه الأربعين عاماً لم يفارقه إلا قليلاً، وكان يلازمه في جميع أسفاره،<ref>محققو سر صناعة الإعراب، ص. 34</ref> فغادر معه إلى [[الشام]] ودخل [[حلب]] في صحبته سنة 346، وصاحبه إلى بغداد واستقرَّ معه في البيت البويهي. وخلال هذه الفترة قرأ عليه الفارسي كتاب "التصريف" للمازني، وأخذ عنه "كتاب سيبويه"، وكتاب "الهمز" و"النوادر" لأبي زيد، و"القَلب والإبدال" ليعقوب، وكتاب "التصريف" للأخفش، وأخذ عنه كذلك القراءات القرآنية.<ref>رحيم الخزرجي، ص. 11-12</ref> وقام ابن جني بتأليف جميع مصنفاته في صحبة الفارسي، وفي المرات القليلة التي لا يرافقه فيها كان يكاتبه حول المسائل اللغوية والنحوية المستعصية، ومع هذه الألفة والصحبة والتقدير الذي يكنّه ابن جني لأستاذه فهو لا يتوانى عن تخطئته متى ما رآه مُجانِباً للصواب، أو يكتفي بتبنِّي آراء مخالفةً لأستاذه.<ref>محمد النجار، ص. 16-21</ref> وأكثرَ ابن جني من نقل آراء أستاذه الفارسي، ولم ينقل آراءه فحسب، بل نقل عنه
وأخذ ابن جني عن كثيرٍ من رواة اللغة والأدب، ويأخذ الروايات بسندٍ من الراوي حتى يصل إلى القائل ويُدوِّن ذلك في مؤلفاته، وتتلمذ ابن جني لدى [[ابن مقسم|محمد بن الحسن]] المعروف بابن مقسم، وعلى الأرجح التقى به ابن جني في بغداد، وكثيراً ما يذكره في مؤلفاته خاصةً كتابي "''الخصائص''" و"''سر صناعة الإعراب''"، ولم يكن ابن مقسم نحوياً مشهوراً كأبي علي، ولكنَّه يحفظ الكثير من مؤلفات كبار النحاة، فأخذ منه ابن جني الكثير من المرويات عن [[أحمد بن يحيى الشيباني]] المُلَقَّب بثعلب، وعن [[أبو عثمان المازني|أبي عثمان المازني]] و[[الكسائي]] من طريق ابن مقسم عن ثعلب، وأكثر
التزم ابن جني [[الدقة|الدِقَّة]] و[[الأمانة العلمية]] عند نقله عن شيوخه، فهو لا يذكر آرائهم في مؤلفاته بدون نسبتها إليهم،<ref>حسام النعيمي (الدراسات اللهجية)، ص. 14</ref> وحَرَصَ قدر الإمكان على نقل كلامهم بالنص، فيقول عندما يستحضر أقوال شيوخه كما سمعها: «هذا لفظه لي البتَّة»، وإذا نقل قولهم بالمعنى أو المفهوم يقول: «هذا محصول معنى أبي علي، فأما نفس لفظه فلا يحضرني الآن حقيقة صورته».<ref>حسام النعيمي، ص. 20-21</ref>
سطر 112:
{{اقتباس3|left|جميع رواياتي مِمَّا سمِعته من شيوخي - رحمهم الله - وقرأته عليهم بالعراق والشام والموصل ، وغير هذه البلاد التي أتيتُها وأقمتُ بها|ابن جني|''الخصائص'' (276/1)}}
بعد أن غادر ابن جنِّي الموصل لم يستقر في مدينة واحدة، وظلَّ يتنقَّل بصحبة أستاذه أبي علي الفارسي بين المُدن والأمصار، وفي البداية دخل بغداد عاصمة الخلافة وظلَّ فيها فترةً طويلة، أخذ عن علمائها وشيوخها، ومن جملة من أخذ عنهم في بغداد أبي علي وابن مقسم. ثُمَّ غادر بغداد وانتقل إلى الشام بصحبة أستاذه، ودخل مدينة حلب و[[واسط]]، وتواصل مع الحمدانيين، وتعرَّف على أدباء وشعراء البلاط الحمداني،<ref>خديجة الحديثي (2001)، ص. 343</ref> وتوثَّقت صلته ب[[سيف الدولة الحمداني|سيف الدولة]] في حلب، وبدأت صداقته مع [[المتنبي]] هناك. ودخل مدينة واسط، ونزل في دار الشريف أبي علي الجواني، نقيب العلويين، وظلَّ فيها فترةً من الزمن درَّس فيها اللغة والنحو.<ref>محمود حسني محمود، ص. 321</ref> ثُمَّ غادر إلى دار مملكة [[البوهيين]]، واختُلِفَ حول ما إذا كانت دار الملك هذه تلك التي في [[شيراز]]، أو دار مملكة البوهيين إلى جهة الشرق من بغداد،<ref>فاضل السامرائي، ص. 20-21</ref> ومن الثابت أنَّ ابن جني زار شيراز، ومن الثابت
=== لقاؤه بالمتنبي ===
سطر 130:
ويتجاوز عبد الغني الملاح هذا إلى القول أنَّ ابن جني لم يلتقِ مُطلقاً بالمتنبِّي، ويذكر عدة حجج تدعم قوله ضمَّنها في دراسة له منشورة على مجلَّة "''المورد''" في عددها الثالث سنة 1977، منها أنَّ دخول المتنبي حلب وجلوسه عند سيف الدولة كان في سنة 437، وهي السنة ذاتها التي لقي فيها ابن جني الفارسي وهو لا يزال يافعاً، مِمَّا يستبعد لقائهما عند سيف الدولة، ويستدلُّ كذلك بالعلاقة الوطيدة التي جمعت ابن جني بالبويهيين، مِمَّا يرجِّح عدم جلوسه عند أعدائهم الحمدانيين في حلب. ويُشكِّك عبد الغني ملاح في الروايات التي تجمعهما معاً، ويُرجِعُ جميعها إلى أبي الحسن الطرائفي، ويُشكِّك في وجود هذه الشخصيَّة، ويعتقد أنَّها مُصطنعة لإثبات العلاقة بين المتنبي وابن جني، كما يُحاول إثبات فوارق زمانيَّة ومكانيَّة بين سيرة كُل منهما، فيقول مثلاً أنَّ المتنبي كان في الكوفة وقتما كان ابن جني في بغداد، ويخالف بهذا إحدى الروايات التي تنصُّ على أنَّ المتنبي اجتمع في بغداد بابن جني.<ref>عبد الغني الملاح (1977)، ص. 141-150</ref> وردَّ عليه محسن غياض، الذي قام بتحقيق كتاب "الفتح الوهبي على مشكلات المتنبي" لابن جني، في دراسة هي الأخرى منشورة في مجلة "''المورد''" في عدد يوليو 1981، وبدأ محسن عياض دراسته بتفنيد أدلّة الملاح، وإثبات الروايات حول اجتماع المتنبي بابن جني، وإثبات وجود الطرائفي من مصادر عدة، غير أنَّ دليله الأهم على لقاء المتنبي بابن جنِّي هو إشارة ابن جني نفسه على لقائه بالمتنبي، وأحصى محسن عياض أربعاً وستين موضعاً يشير فيه ابن جني صراحةً أنَّه التقى بالمتنبي، فيقول: «لقيت أبا الطيِّب»، «حدَّثني»، «سألته»، «قلت له»، «سمعت أبا الطيِّب»، «قرأت عليه».<ref>محسن غياض، ص. 26-42</ref> ويردُّ عليه الملاح أنَّ هذه النصوص من مؤلفات ابن جني مدسوسة من قبل النساخ، وأنَّها من قبيل المزاعم التي دفعته في الأساس إلى نفي اللقاء بينهما.<ref>عبد الغني الملاح (1982)، ص. 26-42</ref>
وينقل ياقوت الحموي في "معجم الأدباء" عن أبي الحسن الطرائفي قوله أنَّ ابن جني لم يأخذ شيئاً من قصائد المتنبي مُباشرةً منه، وهو قول يعتقد حسام النعيمي بطلانه، لأنَّ ابن جني يُصرِّح في مؤلفاته خلاف ذلك، فيقول: «هذا حصلتُهُ من المتنبِّي وقت القراءة عليه»، ويقول
=== تلامذته ===
{{اقتباس3|right|<center>بسم الله الرحمن الرحيم</center><br/>قد أجزت للشيخ أبي عبد الله بن أحمد بن نصر - أدام الله عزَّه - أن يروي عنِّي مُصنَّفاتي وكُتبي، مِمَّا صحَّحه وضبطه عليه أبو أحمد عبد السلام بن الحسين البصري أيَّده الله بعزِّه|ابن جني، إجازة مكتوبة بخطه لأحد تلامذته}}
بدأ ابن جني التدريس منذ شبابه في مساجد الموصل، وفي سنٍّ أصغر من المعتاد، وكانت علوم اللغة العربية مجال تدريسه، لكنَّه منذ لقائه بأبي علي في 337 توقَّف عن التدريس ولحق به وتتلمذ لديه وتابع تعليمه. وعندما تعمق ابن جني في علوم اللغة، وبلغ سناً مناسبة، تفرَّغ للتدريس في بغداد والموصل متى ما فارق أستاذه الفارسي، ودرَّس علوم اللغة والنحو عندما نزل في مدينة واسط، غير أنَّه لم يتفرَّغ تماماً للتدريس ويواضب عليه إلا بعد وفاة أستاذه في سنة 377، حيث استقرَّ في بغداد، وتصدَّر للتدريس، وشغل موقع شيخه أبي علي، واستمرَّ في عمله واجتمع حوله عدد من الطلاب منذ تصدُّره للدراسة في 377 حتى وفاته في 392. وفي ظلِّ هذه الخمسة عشر سنةً تخرَّج على يديه عدد من الطلاب، اشتهر منهم الكثير. وكان ابن جني يُدرِّس علوم اللغة والنحو والصرف والأدب والقراءات القرآنيَّة والخط العربي، ومن أشهر تلامذته [[عمر بن ثابت الثمانيني]]، اللغوي المشهور، وهو الوحيد من طلابه من خلَّف مصنفات محفوظة حتى الزمن المعاصر، والثمانيني قام بشرح كتابي "''اللمع''" و"''التصريف المملوكي''" لابن جني، وتُوفِّي في 442. وتتلمذ لديه عبد السلام بن الحسين البصري، وهو لغوي وعالم قراءات قرآنية، أخذ عن ابن جني القراءات، وتوفِّي في 405. وأخذ عنه أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن نصر مؤلفاته حفظاً، وأذِنَ له ابن جني روايتها بإجازة مكتوبة بخطه. وتتلمذ لديه اللغوي أبو الحسن السمسمي، الذي تتلمذ
ومن تلامذته المعروفين [[الشريف الرضي]]، الشاعر المشهور مؤلِّف "''[[نهج البلاغة]]''"، وأخذ عنه علوم اللغة في بغداد، ويُذكَر ابن جني من جملة شيوخه، ويشير هو إلى تتلمذه عنده في قصيدة خصصها في مدح ابن جني، حيث يقول:
سطر 184:
اتَّسمت شخصيَّة ابن جني بالرصانة والجديَّة، وكان لا يمزح، ولا يتقبَّل المزاح كما روي عنه، وابتعد ابن جني عن اللهو والشرب والمجون الذي ساد في زمنه بين رجال الأدب والفن، ومرد هذا عند المحدثين إلى اشتغاله بالعلوم والآداب لدرجة الانعكاف منذ صغره. وكان ابن جني لا يُحسن المديح والثناء بغيَّة تحقيق منفعة أو مصلحة شخصيَّة، كما كان يفعل الشعراء في بلاط الحكام،<ref>منال أحمد، ص. 25</ref> ويتَّفق من عاصره على صدقه وأمانته وإخلاصه، وليس هناك من يقدح في أخلاقه، وتظهر أمانته العلميَّة جلياً في مؤلفاته ومروياته عن شيوخه، حيث حرص أيم الحرص على نقل أقوالهم بالنص، وإن نقل آرائهم بكلام من عنده نوَّه على ذلك. غير أنَّ هناك اتجاه لدى باحثين معاصرين أنَّ ابن جنِّي كان يُصانع البويهيين في عقيدته، ويظهر لهم بمظهر الشيعي زيفاً، بينما هو باقٍ على سُنِّيته وليس بشيعي.<ref>حسام النعيمي (الدراسات اللهجية)، ص. 11-12</ref>
ومن عادات ابن جني في الحديث أن يميل بشفتيه ويُكثِر من تحريك يديه،<ref name="ReferenceA"/> ويُفسِّر محمد النجار هذه العادة بطبيعة ابن جني المألوفة في كتبه حيث يسعى حثيثاً لايصال المعنى وتوكيده بشتى السبل، فهو يستعمل الإشارة بيديه ويُحرِّك شفتيه في إطناب وتكرار حتى يلفت إنتباه السامع إلى حديثه. ويحتمل النجار
كان ابن جني فخوراً بنفسه، شديد الإعجاب بمنجزاته ومؤلفاته، ويتحدث بإسهاب عن حسنات كتبه وتميزها عن غيرها،<ref>محمد أسعد طلس (أكتوبر 1956)، ص. 643-642</ref> فيقول عند حديثه عن كتابه "''الخصائص''": «واعتقادي فيه أنه من أشرف ما صُنِّف في علم العرب، وأذهبه في طريق القياس والنظر، وأعوده عليه بالحيطة والصون، وآخذه له من حصة التوقير والأون، وأجمعه للأدلة»،<ref>إبراهيم رفيده، ج. 1، ص. 79</ref> وكثيراً ما يردِّد في كتبه أنَّها تناقش وتفتح أبواباً لم يتحدث فيها أحد من العلماء السابقين، فيقول في باب ترافع الأحكام: «لم أر لأحد من أصحابنا فيه رسماً، ولا نقلوا إلينا فيه ذكراً»، ويقول في موضعٍ آخر: «ولم أر أحداً من أصحابنا أشبع القول فيها هكذا»، ويقول: «فقلَّما أفصح أصحابنا هذا الإفصاح». ويرى حسام النعيمي أنَّ اعجاب ابن جني بما يكتب ليس دليلاً على الزهو والتبجح ولكنَّه يُحاط بالروح العلميَّة التي عُرِفَ بها، فهو يضع عبارة «فيما أعلم» بعد كُلِّ ادعاء بأسبقيته في التأليف حول موضوع ما، ويظهر تواضعه في اعترافه بتأثير شيوخه ومعلميه فيما يُقدِّمه من آراء وأطروحات جديدة عندما قال: «فإن أصحابنا لم يشبعوا القول فيه على ما أوردته الآن، وإن كُنَّا بحمد الله بهم نقتدي، وعلى أمثلتهم نحتذي».<ref>حسام النعيمي، ص. 33-35</ref>
سطر 217:
يعتقد عددٌ من المؤرِّخون الشيعة أنَّ ابن جني كان شيعياً، ومِمَّن يذهب إلى أنَّ ابن جني كان متشيعاً [[محسن الأمين العاملي]]، حيث ترجم له في كتابه "''[[أعيان الشيعة]]''"،<ref>محسن الأمين، ج. 8، ص. 138-139</ref> وكذلك [[آغا بزرك الطهراني]] الذي ذكر "''الخصائص''" لابن جني في كتابه "''[[الذريعة إلى تصانيف الشيعة]]''"،<ref>آغا برزك الطهراني، ج. 7، ص. 163-164</ref> والسيد حسن الصدر في كتابه "تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام".<ref>حسن الصدر، ص. 142-143</ref>
وهناك دلائل كثيرة تؤيِّد حقيقة كونه متشيعاً، منها إلحاقه [[صلى الله عليه|صيغة الصلاة]] بعد ذكر [[علي بن أبي طالب]]، وهو أمر معهود في الأدبيات الشيعية، فيقول: «ومنه قول علي - صلوات الله عليه - إلى الله أشكو عجزي وبجري»، وكذلك يُلحقُه بالتسليم عليه، فيقول: «ومن كلام [[ابن عباس]] في صفة [[علي بن أبي طالب|أمير المؤمنين]] عليهما السلام [...]»، والتسليم على علي من عادات الشيعة
==== سُنِّيته ====
في مقابل الآراء التي تذهب إلى تشيّعه هناك من يؤكِّد أنَّه كان سُنِّياً، ويسعى القائلون بسُنِّيته إلى تفنيد الأدلَّة على تشيُّعه، فابن جني عندما يُلحق الصلاة على علي والحسن بطريقة الشيعة فهو
ويذهب أغلب من قال بسنِّيته إلى أنَّه على [[المذهب الحنفي|مذهب أبي حنيفة]]، والأدلة على ميوله نحو هذا المذهب كثيرة سبق ذكرها، ويلاحِظ محمد النجار أنَّ ابن جنِّي يقتبس من كتب الفقه الحنفي وأصوله في تعامله مع المسائل اللغوية والنحوية، ويسجِّل أمثلةً ينتصر فيها ابن جني للمذهب الحنفي على [[المذهب الشافعي|الشافعي]] في مسائل لغوية، يقول ابن جني: «وأمَّا ما يحكيه أصحاب الشافعي عنه من أنَّ الباء للتبعيض شيء لا يعرفه أصحابنا، ولا ورد به ثُبُت».<ref>محمد النجار، ص. 40-41</ref> ويعتقد النجار أنَّ ابن جني كان سُنِّياً، وفي محاولةٍ لتفسير تقاربه مع الشيعة وأخذه من أساليبهم وآرائهم تصوَّر أنَّه كان يُصانع الشيعة في تلك المسائل، من باب حُسن المعاملة ليتقرَّب إليهم ويُوطِّد علاقته بالبوهيين،<ref name="محمد النجار، ص. 37-40"/> وتابعه في هذا الاعتقاد [[فاضل السامرائي]]،<ref name="فاضل السامرائي، ص. 58">فاضل السامرائي، ص. 58</ref> وينتقد حسام النعيمي ما ذهب إليه النجار والسامرائي، ويعتقد أنَّه كان سُنِّياً بلا مُصانعة، ويسوق عدد من النصوص التي تؤكِّد سُنِّيته، ويُشدِّد أنَّ حُبَّ علي وأبنائه من شأن كُلِّ مسلم وليس دليلاً على تشيُّعه.<ref>حسام النعيمي (الدراسات اللهجية)، ص. 11-13</ref>
سطر 231:
=== أسرته ===
له من الأولاد ثلاثة، وهم علي وعلاء وعالي، وجميعهم أدباء فضلاء، صحيحي الضبط وحسني الخط، وقد أشرف ابن جني نفسه على تعليمهم. وتزوَّج ابن جني في الموصل، وفيها أنجب أولاده الثلاثة.<ref>دوكوري ماسيري، ص. 34</ref> وأكثرهم شهرةً عالي، الذي سار على خطى أبيه وصار أديباً ونحوياً، ونقلَ المرويات عن أبيه وعن غيره، وأخذ عنه [[أبو نصر بن ماكولا]] وجماعةٌ، تُوفِّي عالي في سنة 147 أو 148. وروى العلاء
=== وفاته ===
سطر 405:
==== السماع ====
السَّماع هو الأصل الأوَّل من أصول النَّحو العربي، وهو الكلام المنقول عمَّن يُوثَق في فصاحته، وقد فصَّل فيه ابن جني، ومذهبه في السماع أنَّه يعتدُّ بالكلام المنقول عن الفرد المُحافِظ على عربيَّة صحيحة وسليقة لغوية خالية من التأثيرات الخارجيَّة، ولا قيمة عنده للمعيار الزماني أو المكاني، فهو يأخذ المرويات من عصر الجاهليَّة وكذلك يخالط الأعراب في زمنه، كما أنَّه يقبل الاحتجاج من أهل البادية وأهل الحضر على حدٍّ سواء طالما تحقَّقت فيهم شروط الفصاحة والمحافظة على الموروث اللغوي.<ref>محمود حسني محمود، ص. 257</ref><ref>فاضل السامرائي، ص. 257</ref> وكان ابن جني يقبل جميع المرويات عن فصحاء العرب، ولا يضع أهميَّة حول المذهب النحوي للراوي أو الناقل، فكان يقبل المرويات من أهل البصرة ومن أهل الكوفة كليهما، وأخذ عن رواة الأدب بسندٍ مباشر من طريق أساتذته، ويُخصِّص ابن جني باباً في "الخصائص" لإثبات ثِقة النَقَلَة والرواة المشهورين وصدقهم.<ref name="حسين الفتلي، ص. 539">حسين الفتلي، ص. 539</ref> وكان ابن جني يخالط معاصريه من الأعراب، ويستفسرهم عن مسائل لغويَّة بالاعتماد على سليقتهم، وهو بهذا يُخالف النُّحاة الذين جعلوا منتصف القرن الرابع الهجري نهاية عصر الاحتجاج بأهل البادية، عندما كان ابن جني لا يزال طفلاً، وكان يكثر من سؤال أبي عبد الله الشجري الذي يثق بفصاحته، ويذكره في تسع مواضع من مؤلفاته يسأله عن قضايا في النحو واللغة والصوتيات، وأخذ
ويخالف ابن جني مذهب البصريين في رفضهم لبعض لهجات العرب، واقتصارهم في السماع من قبائل مُعيَّنة، وهو يرى أنَّ جميع لهجات العرب حجَّة في ذاتها، لا يبطل أحدها الآخر، ويصحُّ التحدُّث بها وقبول المرويات منها والقياس وبناء القواعد عليها، فهو يرفض تخطئة من يتحدَّث بلهجة من لهجات اللغة العربية التراثية، إلا أنَّه يسمح بالمفاضلة بين اللهجات، فيصف بعضها بالضعف أو القوَّة ويُعبِّر عن ذلك بـ"الأولى" للهجة القويَّة و"خلاف الأولى" للهجة الضعيفة.<ref>حسام النعيمي (1980)، ص. 261</ref> ومن ذلك أنَّه يجيز إعمال "ما" في لغة التميميين، ويمتنع عن إعمالها في لغة الحجازيين، بدون تخطئة أحدهما.<ref name="سليم عواريب، ص. 101"/>
سطر 423:
=== موقف ابن جني من نظرية العامل ===
موقف ابن جني من نظرية العامل لم يكن إيجابياً كموقف سواه من النحويين، غير أنَّه لم يرفضها مُطلقاً كابن مضاء القرطبي، ويتحدَّث ابن جني عن العوامل النحوية في كتابه "الخصائص" فيقول: «وإنما قال النحويون: عامل لفظي، وعامل معنوي؛ ليروك أن بعض العمل يأتي مسببًا عن لفظٍ يصحبه؛ كمررت بزيد، وليت عمرًا قائم؛ وبعضه يأتي عاريًا من مصاحبة لفظ يتعلق به؛ كرفع المبتدأ بالابتداء، ورفع الفعل لوقوعه موقع الاسم؛ هذا ظاهر الأمر، وعليه صفحة القول. فأما في الحقيقة ومحصول الحديث '''فالعمل من الرفع والنصب والجر والجزم إنما هو للمتكلم نفسه لا لشيء غيره'''. وإنما قالوا: لفظي ومعنوي لما ظهرت آثار فعل المتكلم بمضامة اللفظ للفظ، أو باشتمال المعنى على اللفظ»، ويقول في "الخصائص"
وعلى النقيض يعتقد فاضل السامرائي أنَّ ابن جني تقبَّل فكرة العامل وطبَّقها في مؤلفاته بدون إبداء أي مُعارضة، وكان يستند عليها فيما يقبل ويرفض من القواعد النحوية، ويرى السامرائي أنَّه لا يختلف كثيراً عن سائر النحويين في تعامله مع العامل، ويردُّ على أحمد أمين بنصوص من مؤلفات ابن جني يطبِّق فيها نظرية العامل بوضوح، منها على سبيل المثال في "المُنصِف": «ألا ترى أنَّك إذا قُلتَ: قامَ بكرٌ، ورأيتُ بكراً، ومررت ببكرٍ؛ فإنَّك إنَّما خالفت بين حركات حروف الإعراب لاختلاف العامل؟».<ref>فاضل السامرائي، ص. 192-194</ref> ويوافقه عبده الراجحي في أنَّ ابن جني لم ينكر العامل، وإنَّما فهم فكرة العامل فهما لغوياً صحيحاً باعتباره التأثير الذي ينشأ بين التراكيب اللغوية في جملة واحدة، وذلك عندما وضَّح طبيعة العمل «بمضامة اللفظ للفظ، أو باشتمال المعنى على اللفظ».<ref>عبده الراجحي، ص. 157-158</ref> ويرى خليل عمايرة أنَّ ابن جني نظرياً لم يقتنع اقتناعاً كاملاً بقضيَّة العامل، ولم يتقبَّل التصوُّر التقليدي منذ سيبويه وحتى عصره، إلا أنَّه لم يسعى نحو هدمها أو استبدالها، بل وناقض نفسه عندما اعتمد على العوامل حسب المنهج التقليدي في تعامله مع المسائل النحوية، ويصف خليل عمايرة القول بأنَّ ابن جني رفض نظرية العامل أنَّه «قولٌ تنقصه الدِقَّة العلميَّة».<ref>خليل عمايرة، ص. 67-69</ref> ويذهب عبد الهادي الفضلي إلى أنَّ ابن جني لم يرفض فكرة عمل الألفاظ في بعضها، ولكنَّه رفض أن يُفهَم من ذلك أنَّ بعض الألفاظ تكون مُسبِّباً في نشوء ألفاظ أخرى من الناحية الفلسفية، فالعامل الوحيد في نشوء الأصوات هو المُتكلِّم فقط، أمَّا العلَّة التي تحكم علاقة الألفاظ ببعضها فهي ليست علَّة واقعيَّة وإنَّما علة اعتباريَّة اصطلاحيَّة مُصطنَعة.<ref>عبد الهادي الفضلي، ص. 32-35</ref>
سطر 439:
يُعدُّ ابن جني واحداً من أعظم الصرفيين في تاريخ علوم اللغة العربية، ولمساهماته دور فعال في دفع عجلة تطوُّر الصرف كعلم منفصل مستقل عن النحو ولكن يتفاعل معه. واهتمام ابن جني بالتصريف فاق اهتمامه بالنحو،<ref>محمود حسني محمود، ص. 326</ref> وكان لملازمته أبي علي الفارسي، الذي عُرِفَ عنه اهتمامه البالغ بالصرف، دور فعال في دفعه نحو هذا التوجُّه. ويعود اهتمامه بالتصريف إلى ما قبل لقائه بالفارسي، ويقال أنَّ تقصيره في دراسة الصرف في بداية حياته، وعجزه عن الإجابة عن السؤال الذي طرحه عليه الفارسي في الموصل، من العوامل التي جعلته يصبُّ عنايته لاحقاً في مجال التصريف.<ref name="خديجة الحديثي، ص. 222"/><ref name="مولد تلقائيا4">جلال الدين السيوطي (1964)، ص. 132</ref><ref>غنيم الينبعاوي (1995)، ص. 57-58</ref> وبلغ ابن جني في الصرف مرتبةً تفوَّق فيها على أستاذه الفارسي، ولم تغفل كتب التراجم عن دوره ومكانته في هذا العلم، فيقول ياقوت الحموي في ترجمته ابن جني: «اعتنى بالتصريف فما أحد أعلم منه، ولا أقوم بأصوله وفروعه، ولا أحسن أحد إحسانه في تصنيفه»،<ref name="ياقوت الحموي، ج. ، ص">ياقوت الحموي، ج. ، ص.</ref> ويقول أبو البركات الأنباري: «لم يكن في شيءٍ من علومه أكمل منه في التصريف، فإنَّه لم يصنِّف أحد في التصريف، ولا تكلَّم فيه، أحسن ولا أدقُّ كلاماً منه».<ref>أبو البركات الأنباري، ص.</ref>
ألَّف ابن جني عدداً من الكتب والرسالات في علم الصرف، بعضاً منها ما زال محفوظاً حتى اليوم بينما فُقِد عدد آخر منها، ومن مؤلفات ابن جني المشهورة في الصرف كتاب "المُنصِف"، الذي يشرح فيه "التصريف" من تأليف أبي عثمان المازني، واتبع فيه منهج المازني في التصريف، كما ابتدع
استسقى ابن جني ثقافته الصرفية من مؤلفات سابقيه من الصرفيين، فقد اطلع على مؤلفات كبار علماء الصرف، فقرأ كتاب "التصريف" للأخفش الأوسط، ونقل عنه في "سر صناعة الإعراب" و"المسائل الخاطريات"، واطلع
=== الصوتيات ===
ابن جني هو أوَّل من عامل المباحث الصوتية كعلم مستقل، كما أنَّه أوَّل من يُسمِّي دراسة الأصوات علماً، وأطلق عليها هذه التسمية في "سر صناعة الإعراب" فيقول: «ولكن هذا القبيل من هذا العلم، أعني علم الأصوات والحروف، له تعلق ومشاركة للموسيقى، لما فيه من صنعة الأصوات والنغم». ويرى كمال بشر أنَّ مفهوم ابن جني عن "علم الأصوات" يقابل تماماً المفهوم الحديث عن علم الصوتيات (Phonitics) ممزوجاً بالفونولوجيا (Phonology)، ويظهر ذلك من معالجاته المنهجية للمسائل الصوتية. وخصَّص ابن جني في دراسة الصوتيات كتابه "سر صناعة الإعراب"، الذي تطرَّق فيه
بدأت دراسة الأصوات عند العرب مع الخليل بن أحمد الفراهيدي وتلميذه سيبويه، وتطوَّرت الدراسة الصوتية بعد ذلك باطراد، وحرص ابن جني على جمع ما دوَّنه اللغويون العرب قبله، وبالاعتماد على عقليته الفذة وقوَّة ملاحظته وقدرته على نسج القواعد وطرح الافتراضات، نضج الفكر الصوتي لديه على أكمل أوجه، ولم يضِف اللغويون العرب بعده شيئاً يُذكَر، حتى نشوء اللغويات الحديثة، وابن جني يُعدُّ اليوم أبرز من اشتغل بالصوتيات من اللغويين في التراث العربي، ويُوصَف أنَّه المُتمِّم لما بدأه الخليل.<ref>مهدي المخزومي، ص. 97</ref>
سطر 455:
اهتمَّ العرب بالألفاظ والمعان الدالة عليها منذ فجر الحضارة الإسلامية، لارتباطها بتفسير القرآن، ونجد بذور علم الدلالة لدى الأصوليين والبلاغيين واللغويين على حدٍّ سواء، ولكنَّ الدراسة العلمية للدلاليات بدأت مع القرن الثالث الهجري، خاصةً بين علماء اللغة، واستمرَّت بعد ذلك المحاولات للخوض في هذا العلم، ويُعدُّ ابن جني من أبرز الباحثين في موضوع علم الدلالة، ويُمثِّل ذروة البحث الدلالي في القرن الرابع الهجري.<ref>مهين زاده، ص. 6-8</ref> وتناولَ ابن جني مواضيع عديدة متنوِّعة فيما يتعلَّق بالدلالة، وفتح أبواباً جديدة لم يتناولها أحد قبله، وجزء ضخم من مساهماته في هذا العلم مُضمَّن في "الخصائص"، ومن المسائل الدلالية التي ناقشها ابن جني العلاقة بين اللفظ والمعنى، ومسألة الحقيقة والمجاز، وأنواع الدلالات.<ref>منقور عبد الجليل، ص. 128-138</ref>
ناقش ابن جني في "الخصائص" بالتفصيل العلاقة بين اللفظ والمعنى، والعلاقة بين اللفظ واللفظ الآخر من الناحية الصوتية، وارتباط ذلك بدلالة كُلٍّ منهما. ويعتقد ابن جني أنَّ الألفاظ المتشابهة صوتياً هي
اهتمَّ ابن جني بتقسيم الدلالات، وهي وفقاً لرأيه على ثلاثة أقسام: الدلالة اللفظية، الدلالة الصناعية، الدلالة المعنوية. ويُفاضل ابن جني بينها: «فأقواهن الدلالة اللفظية، ثم تليها الصناعية، ثم تليها المعنوية». ويقصد ابن جني بالدلالة اللفظية ما يُعرَف اليوم في اللغويات الحديثة بالدلالة الصوتية أو الدلالة المعجمية، وهو المعنى الخاص بالكلمة المُصطلح عليها، وعدَّها ابن جني أقوى الدلالات، والدلالة الصناعية هي الدلالة المكتسبة من بنية الكلمة الصرفية، وتكون دلالتها في الأغلب على الزمن، وجعلها ابن جني أقوى من الدلالة المعنوية لأنَّها وإن لم تكن ملفوظة «فإنها صورة يحملها اللفظ، ويخرج عليها ويستقر على المثال المعتزم بها، فلما كانت كذلك لحقت بحكمه، وجرت مجرى اللفظ المنطوق به، فدخلا بذلك في باب المعلوم بالمشاهدة»، أمَّا الدلالة المعنوية فلا يقصد بها ابن جني الدلالة المعجمية، وإنَّما سمات وخصائص ما يتعلَّق بالكلمة في المستوى التركيبي في الجملة، فهذا هو النوع من الدلالة الذي يحمله الفعل ويُفهَم منه على سبيل المثال جنس وعدد الفاعل.
سطر 473:
=== تطوُّر اللغة ===
رفض ابن فارس مبدأ تغيُّر اللغة مع الزمن وتطوُّرها وتأثُّرها باللغات الأخرى، لكونه يتناقض مع اعتقاده الصارم بكونها وحياً، كما يتناقض مع اعتقاده بأنَّ القرآن لا تدخله ألفاظ غير عربية. أمَّا ابن جني فقد كان أكثر تحرُّراً، وتقبَّل فكرة تطوُّر اللغة عبر الاحتكاك باللغات الأخرى، وأشار إلى كيفيَّة انتقال الألفاظ الأعجمية إلى اللغة العربية، وما يصاحب تعريبها من مظاهر كإعرابها ودخول آل التعريف عليها والاشتقاق منها. ويؤكِّد ابن جني على تطوُّر اللغة وتغيُّر ألفاظها ودلالة ألفاظها مع الزمن، فيذكر أنَّ هناك أدلة كثيرة «تدلُّ على تنقُّل الأحوال بهذه اللغة، واعتراض الأحداث عليها، وكثرة تغوُّلها وتغيُّرها»، كما يقول أنَّ اللغة: «تلاحِق تابع منها بفارط»، ويرى ابن جني أنَّ ظهور لفظ ما إنَّما يكون قياساً على ألفاظٍ أخرى بائدة: «لا بد أن يكون قد وقع في أوَّل الأمر بعضها، ثُمَّ احتيج فيما بعد إلى الزيادة عليه، لحضور داعي إليه، فزيد فيها شيئاً فشيئاً، إلا أنَّه على قياس ما كان سبق منها في حروفه، وتأليفه، وإعرابه المُبِين عن معانيه».<ref>عبده الراجحي، ص. 108</ref> ويضع ابن جني عدداً من الأسباب لتطوُّر اللغة وتغيُّرها، فبالإضافة إلى الاحتكاك باللغات الأخرى كما سبق، فقد أشار
== الآداب عند ابن جني ==
سطر 479:
=== شعره ===
عُرِفَ ابن جني كعالم لغة ونحو غزير العلم، إلا أنَّه مع سعة علمه فقد كان
=== نثره ===
{{
=== اشتغاله بالرواية ===
عناية ابن جني برواية الشعر والأدب فاقت عنايته بتأليفهما، رغم أنَّه يمتلك المقومات - شعراً ونثراً - ليصير أديباً واسع الشهرة، وكان يُكثِر من الرواية عن غيره في معظم المناسبات ولمختلف الأغراض،<ref name="محمد النجار، ص. 52">محمد النجار، ص. 52</ref> ولذلك تنوَّعت مروياته من ناحية المحتوى؛ حيث روى عن شيوخه النحاة آرائهم وتوجهاتهم النحوية، في الوقت الذي عُنِي فيه
==== مروياته الشعرية ====
وقام ابن جني بتدوين وتوثيق ديوان الحماسة، الذي اختاره أبو تمام الطائي من أشعار العصر الجاهلي، وعمل ابن جني على شرح معانيه والعناية بإعرابه وتصريفه، وتعرَّض لما فيه من مسائل في الاشتقاق والعروض والقوافي.<ref>حسن هنداوي، ص. أ</ref> كما قام
دوَّن ابن جني ديوان الشاعر أبو عمر عبد الله العرجي، الذي عاش في القرن الأوَّل والثاني الهجري، وما زالت روايته للديوان محفوظة، ونُشِرت في 1956 بتحقيق خضر الطائي ورشيد العبيدي،<ref>غنيم الينبعاوي (1999)، ص. 18</ref> وفي الديوان سبعون قصيدةً اثنان وعشرون منها تُنسَب
ومن مرويات ابن جني ديوان أشعار قبيلة هذيل العربية، دوَّنه تحت مسمَّى "التمام في تفسير أشعار هذيل مِمَّا أغفله أبو سعيد السكري"، وقام بشرح قصائد الديوان والتعليق عليها.<ref name="غنيم الينبعاوي 1999، ص. 17">غنيم الينبعاوي (1999)، ص. 17</ref> وقد أشار ابن جني نفسه إلى هذا الكتاب في إحدى إجازاته، وأشار إليه مرة أخرى في "الخصائص"، بالإضافة إلى مؤرخين كُثُر أكَّدوا على تأليف ابن جني لكتاب بهذا العنوان.<ref>أحمد القيسي وآخرون، ص. 6</ref> وقد اختفى الكتاب من المكتبات نهائياً، حتى عدَّه كارل بروكلمان ومحمد النَّجار ضمن كُتب ابن جني المفقودة،<ref>كارل بروكلمان، ج. ، ص. 17</ref><ref>محمد النجار، ص. 17</ref> حتى عثر محمد أسعد طلس على مخطوطة في مكتبة الأوقاف البغداديَّة تحت مُسمَّى "شرح ديوان هذيل"، ورغم أنَّ المخطوطة لا تذكر اسم المؤلِّف، إلا أنَّه استدلَّ على مؤلِّفها من مضمون المخطوطة، وخرج بنتيجة أنَّ هذه المخطوطة هي ذاتها الديوان الذي نقله ابن جني،<ref>محمد أسعد طلس، ص. 17</ref> وهو ما يؤكِّده محقِّقو المخطوطة، التي نُشِرت في عام 1962، ومن أبرز الأسباب التي تؤكِّد نسبة الديوان إلى ابن جني كثرة إحالة مؤلِّفها إلى مصنَّفات ابن جني فيما يتعلَّق بالمسائل اللغوية.<ref>أحمد القيسي وآخرون، ص. 6-7</ref>
سطر 502:
==== نقد الروايات ====
كما كانت لابن جني عناية برواية الأدب شعراً ونثراً، فقد اهتمَّ
منهج ابن جني في نقد المرويات أنَّه يذكر جميعها، وينوُّه إلى الأكثر شهرةً منها، وبعد الأخذ بعدَّة اعتبارات ينتهي إلى تصحيح بعض المرويات، ولا يتأنَّى عن تخطئة بعضها، وفي بعض الحالات التي لا تتوفَّر فيها الأدلَّة الكافية لإصدار الحكم يقف موقف الحياد منها، وإذا حكم ابن جني على رواية ما بالصحَّة فهذا لا يعني أنَّه يحكم على غيرها بالخطأ، فقد يوازن بين روايتين أو أكثر فيُصحِّح رواية لأنَّها الأرجح في الوقت الذي يجيز فيه رواية أخرى لأنَّه لا دليل على خطئها. ومن المعايير التي يأخذ بها ابن جني المعيار اللغوي، فعندما تخالف روايةً ما القواعد اللغوية، فهو يتركها ويأخذ بالرواية الأكثر فصاحةً، وإذا لم ترد روايةً أخرى توافق قواعد اللُّغة فهو أحياناً يُصحِّح الخطأ اللغوي فيها، ومن ذلك تصحيحه لرواية بيت تأبط شراً: «هكذا يرويه أكثر من ترى: "ولم أك"، ومنهم من يقول: "وما كنت آيبا"، وصواب الرواية فيه: "وماكدت آيبا"». ولا يدخل في هذا الضرورة الشعرية، التي يخالف فيها الشاعر القواعد اللغوية لغرض بلاغي، كالمحافظة على الوزن الشعري مثلاً، وإنَّما يرفض ابن جني الأبيات التي تحتوي على خطأ لغوي قبيح غير مُبرَّر. وقد يأخذ ابن جني بالمعيار البلاغي فيختار الرواية التي يجدها أكثر بلاغة ووضوحاً، ويترك التي خالفت السليقة اللغوية. أمَّا إذا شاعت رواية واستفاضت في مقابل تفرُّد روايات أخرى بعدد صغير من الرواة فيجنح ابن جني إلى الرواية الأكثر انتشاراً، ولا يلتفت إلى المعيار اللغوي، وقد يعتبرها أصلاً تُبنى عليه القواعد اللغوية. ويحكم ابن جني على صحَّة الرواية إذا توفَّر دليل نقلي مكتوب يُبدِّد الشكوك حول تغيُّر الرواية أثناء تناقلها، فيقول في بيت أبي الربيس التغلبي: «هكذا صحة الرواية في هذين البيتين، وكذلك وجدناهما بخط أبي موسى في ديوان أبي الربيس».
سطر 510:
=== النقد الأدبي ===
ألَّف ابن جني عدد من الشروح والتعليقات على دواوين شعراء من مختلف العصور، من العصر الجاهلي وحتى الشعراء المعاصرين له، كما خصَّ بعض القصائد التي يجدها مُعقَّدة بكتب ورسالات منفصلة. وفي شرحه الشعر يمزج ابن جني تفسير الأبيات وذكر أخبارها مع القضايا النحوية والصرفية والصوتية، وهو مظهر من مظاهر مزجه العلوم والآداب عموماً. ويُعدُّ ابن جني من أشهر نُقَّاد الأدب والشعر في عصره، ويقول عنه الباخرزي في "دمية القصر": «ليس لأحدٍ من أئمّة الأدب في فتح المُقفَلات، وشرح المشكلات ما له، ولا سيّما في علم الإعراب»، ووصفه جلال الدين السيوطي أنَّه «من أحذق أهل الْأَدَب».<ref name="مولد تلقائيا4" /> ومن أشهر مؤلفات ابن جني النقدية شرحه لديوان أبي الطيب المتنبِّي، وابن جني شَرَحَ ديوان أبي الطيب في كتابين، الشرح الكبير والشرح الصغير، وعُرِفَ الشرح الكبير بـ"الفَسْر"، بينما سُمِّي الشرح الصغير "الفتح الوهبي على مشكلات المتنبِّي".<ref>غنيم الينبعاوي (1999)، ص. 18-19</ref> وفي "التّمام في تفسير أشعار هذيل" يتعرَّض ابن جني لدراسة ونقد مختارات شعرية من شعراء قبيلة هذيل العربية، كما قام ابن جني أثناء توثيقه لديوان أبي طالب عمّ الرسول بشرح كثيرٍ من قصائده والتعليق عليها، وشرح
==== منهجه في النقد ====
لم يكن لابن جني منهجاً واضحاً صريحاً في النقد، ولكن يمكن ملاحظة تناغم مبدئي بين معالجاته المتفرِّقة للنص الأدبي، وتَتَّسِمُ منهجيته في النقد باللا قطعية، فهو قد ينتقد نصاً ما ثُمَّ يبحث عن وجه يُبرِّر فيه هذا الخطأ ليدخله في الجائز والمستحسن. ومن ناحية النقد الشكلي البنيوي فإنَّ ابن جني دائماً ما يركن إلى القواعد اللغوية وصحة اللفظ في الحكم على فصاحته وبلاغته، ويجعل من اطلاع الشاعر على لغة العرب معياراً للحكم على شعره، فأكثر من مدح أرجوزة أبي نواس لأنِّها عكست الاطلاع الواسع للشاعر على اللغة وإحاطته بدقائقها وتفاصيلها وغريبها، رغم أنَّ القصيدة ليست من أرقى أعمال أبي نواس الفنِّية. ومع اهتمامه الشديد بصحة الألفاظ المستعملة وموافقتها لقواعد اللغة فإنَّ ابن جني لا يصبُّ تركيزه على الألفاظ مجرَّدةً من سياقها، من ناحية المعالجة الفنِّية الجماليَّة، وخالف مذهب ابن سنان وابن الأثير في الحكم على ألفاظٍ بعينها بالفصاحة أو الركاكة، وظهرت عنده بذور مذهب الجرجاني في الركون فقط إلى السياق أو "النظم" في الحكم على بلاغة الكلمة، والامتناع عن إصدار الأحكام المطلقة بالحُسن أو القبح للكلمة في خارج نطاق النص والتأليف، يقول ابن جني: «الكلمة الواحدة لا تشجو ولا تحزن ولا تتملك قلب السامع، إنما ذلك فيما طال من الكلام، وأمتع سامعيه، بعذوبة مستمعه ورقة حواشيه»، ويقول
==== شرحه ديوان المتنبي ====
سطر 526:
=== القراءات القرآنية ===
كانت لابن جني عناية كبيرة بالقراءات القرآنية، وهو حريص في مؤلفاته على إظهار مكانتها وأهميِّتها، سواء من الناحية الدينيَّة أو اللغويَّة والأدبيَّة، ولا يُفرِّق في ذلك بين القراءات المتواترة والشاذَّة.<ref>حسام النعيمي (1990)، ص. 51-52</ref> واهتمام ابن جني وإجلاله للقراءات القرآنية أفضى به إلى أن يؤلِّف كتابين حولها، وأشهر ما كتبه ابن جني في القراءات هو كتابه "المحتسب"، وألَّف كذلك رسالةً تحت عنوان "في شواذ القراءات"، تناول فيها القراءات وعلاقتها بالرسم، وتطرَّق فيها
الدوافع التي جعلت ابن جني يُلقِي عناية بالقراءات القرآنية - طبقاً لقوله - هي دوافع دينية محضة، رغبةً في الدفاع عن القرآن، غير أن بعض الباحثين يلاحظ أنَّ ابن جني استعمل القراءات القرآنية ميداناً ليُطبِّق عملياً نظرياته اللغوية، فيستعمل خبرته الواسعة في اللغة حتى يحتجُّ للقرآن ويُثبت خُلُوَّه من الأخطاء اللغوية، فكان غرضه من تناول القراءات ديني وعلمي في الوقت ذاته.<ref>محمد العارضي، ص. 6</ref>
سطر 538:
القراءات التي يصفها ابن جني بالشذوذ لا يعني أنَّه يطعن فيها أو يوصمها بالنقصان، والشاذ عند ابن جني هو كُلُّ القراءات غير القراءات السبعة التي اقتصر عليها ابن مجاهد، وألحق بها هذه التسمية موافقةً لأهلِ زمانه، وهو لا يعني بذلك أنَّ لغتها شاذَّة، ومع أنَّها ليست شائعة كالقراءات المتواترة إلا أنَّ ابن جني يجدها حجة موثوقة يصحُّ الاعتماد عليها،<ref>غانم الحسناوي، ص. 28</ref> يقول ابن جني في مقدمة "المحتسب": «إنَّ القرآن الكريم انتظم لغات العرب على مثناتها، وإنَّ القراءات فيه جاءت على ضربين: الأوَّل؛ اجتمع عليه أكثر قُرَّاء الأمصار، وهو ما أودعه ابن مجاهد في كتابه "السبعة"، والثاني؛ سمَّاه أهل زماننا شاذاً، أي خارج عن قراءة القراء السبعة المُقدَّم ذكرها، إلا أنَّه مع خروجه عنها نازع بالثقة إلى قُرَّائه، محفوف بالروايات من أمامه وورائه، ولعلَّه أو كثير منه مساوٍ في الفصاحة للمجتمع عليه». ويرى شوقي ضيف أنَّ ابن جني تابع ابن مجاهد في مفهومه عن القراءات الشاذة، أي أنَّه لا يقصد أنَّها شاذة بمعنى خاطئة، وإنَّما تأتي بعد القراءات الشائعة المشهورة في الترتيب والوثوقيَّة، ولاحظ جايد زيدان أن مفهوم ابن جني لا يطابق تماماً مفهوم ابن مجاهد حول الشذوذ في القراءة، فابن مجاهد لا يستحسن القراءة القراءات الشاذَّة ولا يُشجِّع تداولها بين العامة، على عكس ابن جني الذي دافع عن القراءات الشاذَّة واجتهد في الاجتجاج لها وتوجيهها بشتَّى السُبُل. غير أنَّ ابن جني لا يحتجُّ لجميع القراءات الشاذَّة، والشاذُّ عنده على نوعين، نوع سنده موصول إلى النبيِّ ولكنَّه لم يُحقِّق شرط التواتر، وهو النوع الذي يحتجُّ له ابن جني ويعتقد بقوَّته، ونوع آخر من الشاذِّ سنده منقطع، وهي القراءات الضعيفة التي يُرجَّح أنَّها موضوعة أو مُحرَّفة، وهذا النوع يمتنع ابن جني عن الاحتجاج له، فيقول في "المحتسب": «إنَّ جميع ما شذَّ عن قراءة القُرَّاء السبعة، وشهرتهم مغنيَّة عن تسميتهم، ضربان؛ ضربٌ شذَّ عن القراءات السبعة عارياً عن الصُنعة، فلا وجه للتشاغل به، وضربٌ ثانٍ شذَّ عن السبعة وغمض فيه عن ظاهر الصنعة، وهو المُعوَّل المُعتَمد عليه».
وابن جني عندما يدافع عن القراءات الشاذَّة ويُشجِّع على الاهتمام بها فهو لا يرمي إلى مخالفة القُرَّاء، الذين جعلوا التواتر شرطاً لقبول القراءة وضمَّها إلى القراءات المعتبرة، التي يصحُّ تلاوتها والصلاة بها، ولكنَّه
{|align="center" class="wikitable collapsible collapsed" style="width:100%;margin:auto;"
سطر 566:
==== منهجه في نقد القراءات ====
يُوصَف منهج ابن جني في "المُحتَسب" بالموضوعيَّة والمنهجيَّة.<ref name="جايد زيدان، ص. 273">جايد زيدان، ص. 273</ref> وحاول ابن جني قدر استطاعته تقليد الثقات من القُرَّاء، حتى يكسب ثقتهم، وحاول أن يجعل منهجه مُشابهاً للمنهج المُتَّبع في كُتُب القراءات التقليديَّة.<ref name="جايد زيدان، ص. 273"/> واتَّبع ابن جني أسلوب أستاذه أبي علي الفارسي في كتابه "الحِجَّة في القراءات السَّبعة"، وأخذ منه على وجه الخصوص طريقته في طرح القراءات والاحتجاج لها، حيث يبدأ ابن جني في . ولا يُفرَّق ابن جني في منهج احتجاجه بين القراءات الشاذَّة أو المتواترة، فيساوي بينهما، ويجتجُّ للقراءة الشاذَّة بالطريقة ذاتها التي يحتجُّ للقراءة المتواترة. ويميل ابن جني في نقده القراءات إلى الاختصار، فلا يُطِيل الاحتجاج لغير ضرورةٍ.<ref>غانم الحسناوي، ص. 47-50</ref> واستطاع ابن جني التحرُّر من التأثير المذهبي في نقد القراءات، سواءً المذهبيَّة الدينية أو الأدبيَّة، فلا يُفرِّق بين قراءات أهل الكوفة والبصرة على أساسٍ مذهبي، ويلتفت إلى الدليل وحده بغضَّ النظر عن أصل القارئ. وابن جني، كغيره من النُّحاة، من المؤيديين للمعيار اللغوي في الحكم على القراءات، إلى جانب معايير أخرى عمل بها ابن جني في "المحتسب"، والتفت ابن جني في الحكم على القراءات
يستعمل ابن جني القراءات المتواترة ليحتجّ للقراءات الشاذَّة، فيحاول التوفيق بينهما حتى يُقنِع القرَّاء أنَّ الشاذَّ لم يأتِ بما يُخالف الشائع والمشهور، وهكذا لا يوجد دافع لرفضه.<ref>غانم الحسناوي، ص. 44-45</ref>
سطر 572:
==== المفاضلة بين القراءات ====
عندما يفاضل ابن جني بين القراءات لا يُفرِّق بين الشاذِّ والمتواتر، ويلتفت إلى المعنى وموافقة القراءة لمعايير الصحَّة، فقد يُرجِّح القراءة الشاذَّة على القراءة العامَّة، وقد يُرجِّح
قد يقف ابن جني على قرائتين متناقضتين تماماً، فلا يُرجِّح إحداهُنَّ، لأنَّ هذا سيفضي به إلى تخطئة الأخرى، وهو ما يخالف منهجه، ولكنَّه يجتهد في التوفيق بين القرائتين المتناقضتين، ومن ذلك القراءة المشهورة: «لا تُصِيبَنَّ الذِينَ ظَلَمُوا»، والقراءة الشاذَّة: «لتُصِيبَنَّ الذِينَ ظَلَمُوا»، حيث يقول ابن جني في توفيقه بين القرائتين في موقفٍ يدافع فيه عن القراءة الشاذَّة: «معنى هاتين القرائتين ضُدَّان كما ترى، لأنَّ أحدهما «لا تُصِيبَنَّ الذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خاصَّة»، والأخرى معناها لتُصِيبنَّ هؤلاء بأعيانهم خاصَّة. وإذا تباعد، وأمكن أن يُجمَع بينهما كان ذلك جميلاً، ولا يجوز أن يُراد زيادة "لا" من قبل أنَّه كان يصير معناه: واتقوا فتنة تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، فليس هذا عندنا من مواضع دخول النُّون، ألا تراك لا تقول: لا ضربتُ رجلاً يدخُلنَّ المسجد، هذا خطأ لا يُقال، ولكن أقرب ما يُصرَف إليه الأمر في تلاقي معنى القراءتين، أن يكون يُراد: لا تُصِيبَنَّ، ثُمَّ حُذِفت الألف من "لا" تخفيفاً واكتفاءً منها».<ref>جايد زيدان، ص. 275-276</ref>
سطر 589:
له ما يفوق الخمسين كتابا، أشهرها *[[كتاب الخصائص]] الذي يتحدث فيه عن بنية اللغة وفقهها.
* وكتاب" سر صناعة الاعراب "
* وكتاب باسم العروض يتحدث فيه عن علم {{المقصود|العروض|العروض}}
السطر 602 ⟵ 601:
----
* {{ note label| َّملاحظة:2|ملاحظة ثانية}}: وهناك قصَّةٌ يُورِدها البديعي في كتابه "الصبح المُنبِي عن حيثية المتنبي"، تُظهِر ولاء ابن جني للمتنبي، ودفاعه عنه في حضرة أستاذه الفارسي، وهي أنَّ أبا علي كان في شيراز، وكان المتنبي هناك
{{بداية قصيدة}}
السطر 725 ⟵ 724:
* [http://www.esnips.com/doc/1a8f1076-d251-449e-9606-a8247427a923/المنصف---شرح-كتاب-التصريف] : المنصف (شرح كتاب التصريف) لابن جني.
== انظر
{{نحاة}}
السطر 732 ⟵ 731:
{{علماء العصر الإسلامي}}
{{شريط بوابات|علوم اللغة العربية|العراق|أدب عربي|إسلام|أعلام|اللغة العربية}}
{{ضبط استنادي}}
|