علاء الدين الكاساني: الفرق بين النسختين

[مراجعة غير مفحوصة][مراجعة غير مفحوصة]
تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
OKBot (نقاش | مساهمات)
ط تدقيق إملائي. 88 كلمة مستهدفة حاليًا.
ط روبوت: إزالة القاب غير حيادية, Replaced: رضي الله عنه → (2)
سطر 5:
وسيرة الإمام الكاساني رحمه الله تعالى، العلامة والفقيه الكبير الذي عاش في القرن السادس الهجري أو الثاني عشر الميلادي من خير الأمثلة على مكانة حلب من الثقافة الإسلامية وكيف وردها العلماء وطلبة العلم من البلاد الإسلامية البعيدة والقريبة، فهذا الأمام الكبير ولد بكاسان وكانت أسرته تنتمي لدار الإمارة فيها، وكاسان تلفظ كما قال السمعاني في الأنساب بفتح الكاف والسين بينهما الألف والنون في آخرها، وقد يقال لها قاشان أحياناً، وهي بلدة حدد جغرافيو المسلمين موقعها بوراء الشاش أو وراء النهر من بلاد الترك، ووصفوها بأنها قلعة حصينة، وهي اليوم مدينة قازان Kazan في جنوبي شرق أوزبكستان، ولا تبعد كثيراً عن مدينة بخارى التي تقع في شمالها الشرقي والتي أقام بها عالمنا واشتغل فيها بطلب بالعلم على شيخه الإمام علاء الدين محمد بن أبي أحمد السمرقندي، وقرأ عليه معظم تصانيفه مثل: التحفة في الفقه الحنفي، وشرح التأويلات في تفسير القرآن العظيم، وغيرهما من كتب الأصول، وسمع منه الحديث، ومن غيره وبرع في علمي الأصول والفروع، وزوّجه شيخه السمرقندي بابنته فاطمة الفقيهة العالمة، وقيل إن سبب تزويجه بابنة شيخه أنها كانت من حسان النساء وتفقهت على أبيها وحفظت كتاب التحفة الذي ألفه والدها، وطلب الزواج بها جماعة من ملوك بلاد الروم فامتنع والدها، ولما جاء الكاساني ولزم والدها ودرس على يديه وبرع في علم الأصول والفروع وصنف كتاب البدائع في شرح كتاب شيخه "التحفة"، وعرضه على شيخه فازداد فرحا به وزوجه ابنته وجعل مهرها منه ذلك، فقال الفقهاء في عصره: شرح تحفته وزوجه ابنته، وكان زوجها الكاساني ربما يعرض له شيء من الوهم في الفتيا فترده إلى الصواب وتعرفه وجه الخطأ فيرجع إلى قولها، وكانت تفتي وكان زوجها يحترمها ويكرمها وكانت الفتوى أولا يخرج عليها خطها وخط أبيها فلما تزوجت الكاساني صارت الفتوى تخرج وعليها خط الثلاثة خطها وخط والدها وخط زوجها.
وتقول كتب التاريخ أنه بعد أن أصبح عالماً يشار إليه بالبنان غادر بخارى مع زوجته إلى "بلاد الروم" وهو اللفظ الذي يطلقه مؤرخو الحقبة المسلمون على مملكة السلاجقة التي بسطت نفوذها على جزء كبير مما يعرف اليوم بتركيا، ويمت ملوكها بوشائج القربى لقبائل وسط شرق آسيا، وكان ملكها السلطان مسعود بن قليج أرسلان السلجوقي وعاصمته قونية، وكانت بينه وبين نور الدين زنكي في حلب علاقات وثيقة وتعاون مضطرد لطرد الصليبيين من هذه البقاع، ولقي الكاساني من لدنه كل احترام وتقدير لا سيما وهو سليل الإمارة ولا تزال لديه كما يقول ابن العديم نخوة الإمارة وعزة النفس وكان ـ خلافاً لعادة الفقهاء في ذلك الوقت ـ يركب الحصان إلى أن مات، وله رمح يصحبه في الحضر والسفر.
وكان الكاساني متمكناً من علمه معتداً بنفسه وفي أوج شبابه، وقد جرت بينه وبين فقيه من كبار فقهاء الدولة السلجوقية يعرف بالشعراني مناظرة في مسألة المجتهدين هل هما مصيبان أم أحدهما مخطئ، فقال الشعراني: المنقول عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن كل مجتهد مصيب، فقال الكاساني: لا بل الصحيح عن أبي حنيفة: إن المجتهدين مصيب ومخطئ، والحق في جهة واحدة، وهذا الذي تقوله مذهب المعتزلة، واشتد بينهما الكلام في ذلك، وانتهت إلى أن احتد الكاساني ورفع عصاه فأشار بها إلى ذلك الفقيه، وقد وصل خبر ما حدث إلى السلطان مسعود فانزعج من هذا التصرف المخالف للعادة والعرف في احترام قواعد المناظرة مع فقيه من فقهاء دولته وفي سلطانه، لكنه مع ذلك لم يقل للكاساني ما يكرهه تقديراً لغزارة علمه وتمكنه، ولكن الملك قال لوزيره: لقد افتأت الكاساني على الرجل فاصرفه عنا، فقال الوزير: هذا شيخ جليل وله حرمة ولا ينبغي أن يصرف بل ننفذه رسولا إلى نور الدين محمود بن زنكي ونتخلص منه بهذا الطريق، فأرسله بعد فترة رسولاً إلى نور الدين محمود بن زنكي الشهيد في حلب
وكان نور الدين يبحث عن عالم ليوليه أمر المدرسة الحلاوية، وكان قد ولاها من قبل الإمام رضي الدين محمد بن محمد السرخسي صاحب كتاب المحيط الرضوي في الفقه والذي بلغ أربعين مجلداً عندما جاء إلى حلب، وكان السرخسي إماماً جليلاً كما تشهد تآليفه، ولكن كانت في لسانه لكنة، فتعصب عليه جماعة من الفقهاء الحنفية بحلب، وصغروا أمره عند نور الدين إلى أن عزله عن التدريس بها فتوجه إلى دمشق، وكتب نور الدين إلى تاج الشريعة عالي بن إبراهيم بن إسماعيل الغزنوي وكان بالموصل ليقدم حلب ويتولى تدريس المدرسة.
ونقف هنا لنتأمل كيف اجتذبت عاصمة الثقافة الإسلامية في هذه الحقبة عالماً من كاسان في أوزبكستان كان في قونية، وعالماً من مدينة سرخس في شمالي شرقي إيران اليوم قرب حدود تركمانستان، وعالماً من غزنة في شرقي أفغانستان كان في الموصل، وهذا كله أنموذج بسيط للتبادل العلمي والثقافي الذي نعمت به مدينة حلب في تاريخها العريق، والذي يعرفه تمام المعرفة من قرأ التاريخ واستوعب دروسه.
سطر 22:
واستمر احترام وتقدير الإمام الكاساني في أيام الملك الظاهر إلى أن مات، ويروي النقيب داود البصراوي أن الكاساني كان: يصعد إلى قلعة حلب راكباً وينزل حيث ينزل الملك الظاهر، فاتفق أن صعد يوماً والفقهاء بأجمعهم بين يديه، فلما وصل إلى باب القلعة قام البواب وقال: يدخل الشيخ، ويرجع الفقهاء، فلوى الشيخ عنان حصانه وقال: يرجع الشيخ أيضاً، فبلغ الملك الظاهر، فأرسل في الحال من أدخل الشيخ والفقهاء معه إلى أن نزل الشيخ حيث ينزل، ودخل الشيخ والفقهاء معه إلى مجلسه، وبقي الوفاء والتقدير للكاساني حتى بعد وفاته رحمه الله حيث تولى الملك الظاهر تربية ولده الوحيد وأسكنه القلعة، واجتهد في إشغاله بالفقه فلم يفلح في السير على خطى والديه.
كان الإمام الكاساني من العلماء الذين جمعوا بين الحديث والفقه والتفسير، ولا عجب في ذلك في ذلك فبلاد وراء النهر كانت مجمع المحدثين وعلماء الحديث، وكان في تدريسه يبتغي وجه الله عز وجل وهداية الناس إلى الخير وما فيه صلاح دينهم ودنياهم، فقد ذكر الشريف أبو عبد الله محمد بن عمر البخاري الأصل الحلبي المولد والمربى، والشيخ نظام الدين محمد بن عتيق الديباجي الحنفي: قال الشيخ الإمام علاء الدين أبو بكر الكاساني في أول درسه عن العقيدة الصحيحة: لا شيء أرضى عند الله تعالى من هداية العباد إلى سبيل الرشاد، والإبانة لهم عن المرضي من الاعتقاد، وهو اعتقاد السنة والجماعة إذ به ينال خير الدارين وسعادة المحلين، فمن تمسك به فقد اتبع الهدى، ومن حاد عنه فقد ضل وغوى.
وكان الكاساني حاضر الحجة قوياً في المناظرة، يذكر شمس الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف بن الخضر أن علاء الدين الكاساني قدم إلى دمشق فحضر إليه الفقهاء وسألوه عن فتاويه التي ظنوا أنها بخلاف المذهب الحنفي الذي ينتمي إليه، وهو أمر كان مستهجناً في ذلك العصر، فنفى الكاساني ذلك وقال: لم أقل مسألة خالفت فيها المذهب الحنفي، فاذكروا ما تدعون أني خالفت فيه المذهب، قال: فأوردوا مسائل كثيرة أفتى بها الكاساني، فجعل يقول: ذهب إليها من أصحابنا فلان، فلم يزل كذلك حتى أنهم لم يجدوا مسألة إلا وقد ذهب إليها واحد من أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه،، فانفض المجلس.
ومن أهم مؤلفات الإمام الكاساني كتابه العظيم في الفقه (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع) والذي يتميز باللغة السهلة الفهم وإيراد الشواهد الحديثية لما يورده من الأحكام الفقهية، وقد صدرت طبعته الأولى في سبع مجلدات كبار في القاهرة قبل مائة عام في عام 1327 هجرية بعناية اثنين من رجالات حلب من آل الجابري كانت مخطوطة الكتاب لدى أحدهما وهما "سعادة محمد أسعد باشا جابري زاده" صاحب المكتبة القيمة وفضيلة الحاج مراد أفندي جابري زاده ابن الحاج عبد القادر بن مراد الجابري الحلبي المشهور بحاجي أفندي، وقد قال عنه الأستاذ الشيخ راغب الطباخ: كان من فضلاء هذه الأسرة، وكان يحب اقتناء الكتب، فجمع لنفسه خزانة نفيسة فيها المطبوع، ووقف مكتبته عند ولده الحاج مراد أفندي إلى سنة 1343هـ، فسَعيْتُ في نقلها إلى المدرسة الشرفية في منتصف جمادى الأول سنة 1345هـ وهي ستمائة مجلد، ومن جملة نفائسها كتاب "بدائع الصنائع" في الفقه الحنفي الذي سعى ولده الحاج مراد ومحمد أسعد باشا الجابري في طبعه في مصر في سبع مجلدات "بتحسين بعض أهل العلم والفضل". ولعله الشيخ راغب الطباخ، رحمة الله على الجميع. وقد حاز إعجاب الفقهاء من قبل ومن بعد، ذكر ابن العديم في تاريخه أن الفقيه شمس الدين الخسروشاهي بالقاهرة قال له: لأصحابكم الأحناف في الفقه كتاب البدائع للكاساني وقفت عليه، ما صنف أحد من المصنفين من الحنفية ولا من الشافعية مثله، وجعل يعظمه تعظيماً، ثم قال: ورأيته عند الملك الناصر داود صاحب الكرك أهداه إليه بعض الفقهاء الحنفية، فعجبت ممن يكون عنده مثل ذلك الكتاب ويسمح بإخراجه من ملكه.
والكتاب في أصله شرح لكتاب تحفة الفقهاء الذي ألفه أستاذه علاء الدين السمرقندي المتوفى سنة 539، وهو والد زوجته فاطمة الفقيهة العالمة التي ذكرنا سبب زواجه منها، وكانت في أول قدومهما إلى حلب تحث الكاساني على مغادرتها والعود إلى بلادها، فلما علم الملك العادل نور الدين الشهيد برغبة الشيخ في المغادرة استدعاه وسأله عن جلية الأمر وأبدى له رغبته ورغبة العلماء أن يقيم بحلب، فعرفه السبب وأنه لا يقدر أن يخالف زوجته وابنة شيخه، فأرسل الملك رسالة إليها مع امرأة يرجوها البقاء بحلب فأجابته إلى ذلك وأقامت بحلب إلى أن توفيت رحمها الله تعالى قبل وفاة زوجها بست سنين في عام 581 ودفنت في مسجد إبراهيم الخليل ولم يقطع الكاساني زيارة قبرها كل ليلة جمعة إلى أن مات رحمه الله.