أمين شنار: الفرق بين النسختين

[مراجعة غير مفحوصة][مراجعة غير مفحوصة]
تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
Producer (نقاش | مساهمات)
محاولة ترتيب
لا ملخص تعديل
سطر 3:
 
== أعماله ==
 
# عمل مديرا للتحرير في مجلة (الافق الجديد ) منذ تأسيسها عام [[1961]].
# أصدر ديوان شعر (المشعل الخالد ) عام[[ 1957]]، وأذيعت كل قصائده عبر [[إذاعة]] [[المملكة الاردنية الهاشمية]] في [[القدس]].
# اصدر [[رواية]] (الكابوس ) والتي فازت مناصفة في مسابقه عربية عام [[1967]].
# بدأ بنشر شعره مبكرا وعمره 19 عاما في جريدة (الصريح) عام [[1949]].
# عمل صحفيا في (جريدة المنار) , ثم في (مجلة الافق)
# كان يكتب زاويه يوميه ثابته في (جريدة الدستور)تحت اسم جهينـــه بعنوان (لحــــظات)لمدة تزيد عن 30 عام. وزاويه اسبوعيه تحت اسم (مع الحيـــاه و الـــناس) .
'''# عمل صحفيا في (جريدة المنار) , ثم في (مجلة الافق)'''
# عمل مديرا لبرامج التلفزيون الاردني حتى عام 1971.
 
# قدم للتلفزيون الاردني اول مسلسل اردني هادف , اسمه(فندق باب العمود), ومسلسل (همس القناديل) و(البحث عن مفقود) وبرنامج علمي ديني بعنوان
'''# كان يكتب زاويه يوميه ثابته في (جريدة الدستور)تحت اسم
# قام بكتابة عدة برامج اذاعيه هادفه ,من اشهرها برنامج (لمحــات)و (حـــبات قـــلب), كتــب عدة مسرحــيات رائعه اشهرهــا: مسرحيه (قريه الشيخ حمـــاد). و(ظلام في عين الشمس) و (الليله يطلع القمر) و(السد)
 
# عمــل مدرســا ومربيــا في (مدارس الاقصى) الثانويه في عمان حتى تقاعد في اواخر التسعينات .
'''جهينـــه بعنوان (لحــــظات)لمدة تزيد عن 30 عام. وزاويه
 
'''اسبوعيه تحت اسم (مع الحيـــاه و الـــناس) .'''
 
'''# عمل مديرا لبرامج التلفزيون الاردني حتى عام 1971''' .
 
'''# قدم للتلفزيون الاردني اول مسلسل اردني هادف , اسمه(فندق باب'''
 
'''العمود), ومسلسل (همس القناديل) و(البحث عن مفقود) وبرنامج علمي
 
'''ديني بعنوان (سبــــــحان الله).'''
 
'''# قام بكتابة عدة برامج اذاعيه هادفه ,من اشهرها برنامج
 
'''(لمحــات)و (حـــبات قـــلب) ,'''
 
'''كتــب عدة مسرحــيات رائعه اشهرهــا : مسرحيه (قريه الشيخ
'''
'''حمـــاد).'''و(ظلام في عين الشمس) و (الليله يطلع القمر) و(السد)'''
 
'''# عمــل مدرســا ومربيــا في (مدارس الاقصى) الثانويه في عمان'''
 
''' حتى تقاعد في اواخر التسعينات .'''
 
'''انتقل الى جوار ربــه في الرابعة عشر من شعبان لعام 18-9-2005'''
 
'''رحمه الله رحمه واسعه , وجزاه الله عنا خير الجزاء , وجعل مقامه في
 
'''عليين...انـــه سمـــيع مجـــيب .'''
 
''' # # #
 
'''ربـــــــاه امنح كلمــــــاتي دفء الايمــــــان'''
'''فلعل فؤادا مقرورا تمتـــد يـــداه , فتصتلـــيان'''
''''''ولعل الغوث يـعاود جذب العمر فيمرغ خصبا يتدفق حبا, يتوهج ''''''ومضا''''''لا صفو ولا منجاة لهذا القلب السادر في ليل غفلته, الا بك''' يا '''ربـاه''''''''' '''فأن ترحمه صحـــا واناب : حديث العهـــد بفطرته, عبـــدا محضا'''
'''..يحيــا , ويغد خطـــاه الى مولاه لا زاد له في رحلتـــه الا الشــــوق'''
''''''الغـــــامر فالموعــــــد يوم لقاء اللــــــــــه .'''''' '''
 
 
'''== == ''''''ربيع القلب ==''' ..
 
''''''قال (الفضيل بن عياض) : "" ان العين اذا لم يكن بصرها من''' '''القلب '''فكأنما''' أبصرت سهوا.. فتعاهد قلبك لا يتلبسه ، '''من''' الذنوب '''والشهوات''' ، ما يطفئه .. ولا يدرك أحد ما '''يرجو من''' رضا ، '''الا بسخاء''' النفس وسلامة الصدر .. ومن '''غفل عن''' نفسه فقد أرداها ..).
***'''أرأيت الى الطفل المتحفز فيك ، يود لو اتسعت منه العينان ، لتحتضنا ، بالدهشة ، هذا الثوب الابيض يكسو الارض .. كما لو كان يراه لأول مرة ؟؟
أنى يتلبس بالتكرار وبالسأم المتلبد ، هذا القلب البكر حديث العهد بربه : تتجدد فيه اللحظة دفقة ينبوع ثرة ..
ظمأى .. لا يرويها الا أن تعطي ما أتاها الله فلا تستبقي قطرة ؟؟
وكما تتشيأ ، في رحم الارض ، البذرة ..
فإذا هي خيمة ظل ممدود ، وخزانة خصب مخضرة ..
فكذلك كن .. ليفض بالخير فؤادك ، ملء جوارحه ، ينعم بهداه ، ويزدد نضره ..
هذا الاحساس البكر الغامر كم ناداك ، أيا انسان العصر ، بكل مكان من دنياك ، وكم أغضيت ‍!
أوصدت رتاج القلب ، وما أعطيت ..
لو من دفء ورجاء كسره ..
وتسائل نفسك : فيم تواريها - في كل فجاج الارض - الحسرة ؟
أفلا تخشى ان يذوي ذاك الطفل الكامن فيك ، اذا ما أطبقت الشهوات عليه ، وعج الى باريه ، ليشكو : فيم أرقت ، سدى ، عمره ؟؟
هل يحيا القلب بلا فطرة ؟؟
 
امين شنار
5/12/1994''' =='''
 
== خفقة قلب ==
 
العين اذا احتجبت عن ضوء القلب نظرت سهوا .. وحجاب العين الزخرف ممدودا يتبرج ، رخوا ملء الارض ، اذا فجأته الشمس هوى زبدا وغثاءا .. والسمع اذا عشاه الاثم - فلم يك كوة حمد مشرعه ، تتلقى النأمة فهى صداها صبح مساء - غدا اذنا صماء .. وامسى بعد بكارته ، لضجيج الارض وعاء ‍ 0
 
***
قدماك اذا انبتا عن غاية خلقهما ..
ان لم يك سعيهما مرقاة فلاح
فهما دوامة تيه ، محض هباء
***
رباه احعل في قلبي نورا ، ان ربيع القلب هداك ..
واجعل في سمعي نورا ، كيلا يغفل طرف’ عين ، ان حياة السمع نداك
واملأ بصري نورا كيلا تتخطه الانواء
***
رباه امنح كلماتي دفء الايمان
فلعل فؤادا مقرورا تمتد يداه ، فتصتليان
ولعل الغوث يعاود جدب العمر فيمرع خصبا يتدفق حبا ، يتوهج ومضا
لا صفو ولا منجاة لهذا القلب السادر في ليل غفلته ، الا بك يا رباه فان
ترحمه صحا واناب : حديث العهد بفطرته ،
عبدا محضا .. يحيا ، ويغذ خطاه الى مولاه
لا زاد له في رحلته الا الشوق الغامر فالموعد يوم لقاء الله .
 
امين شنار
 
 
 
== عابر سبيل ==
كان (اويس القرني) ينفق على المعوزين في حيه اذا اتى المساء ، كل ما في بيته من فضل طعام وكساء .. ثم يقول : ( اللهم من بات جائعا فلا تؤاخذني به ، ومن بات محتاجا فلا تؤاخذني به ‍! ( .
تراه كان ينام - بعد - هانئا قرير العين ؟ ام تؤرقه أنات المحرومين ، تأتيه من كل فج ، ثم لا يفارق سمعه في ليل او نهار ؟ .
منذا الذي دعاك يا اويس ان تكون للايتام والجياع - حيثما لقيتهم - أبا ومطعما ؟؟ .
***
من اويس ؟
تعالوا نقترب منه ، لعلنا نراه من وراء عباءة التاريخ ، فالتاريخ حجاب ، تعالوا نتعرف الى ( الانسان ) فيه ، كيف تفجرت ينابيع فطرته بصدق ويقين .. تعالوا نسائل انفسنا عنه ، وعنا : اعزها فلم يكبلها بحرص يشدها الى دبق لحظتها فلا تستفيق ؟ . فلماذا نحن - في كل فجاج الارض - ترسف انفسنا من شهواتها في قيود ، ثم تتلمظ العمر كله في طلب المزيد ، حتــى تتيبــس خطاها خلف جدار مسدود ؟ . فيم بات هم الناس همه العتيد ، وبتنا لكل همومه الآنيه الانانيه التي تلتهم انبل ما فيه ، دون ان تمد جيدها - ولو لحظه - الى قريب او بعيد ؟ .
***
من اويس ؟
اسطوره صاغها خيال شاعر ؟ . ام انسان من لحم ودم .. صحا من حلم العمر على سؤال يطرق شغاف القلب يناديه : (عابر سبيل انت ، ففيم تلتفت يمنة ويسره والى الوراء ، والذي تنشده امامك ؟؟ ) .
وما كان ينشد - في صميم فطرته وهي فطرتنا كذلك - الا جلائل الامور : السكينه التي لا تكدرها نأمة قلق ، والرضا الذي لا تعشي عينيه بارقة طمع ، والشوق الى خلود لا تلم بساحته لخظة موات ، والعطاء الذي لا تغل يديه خشية املاق . من منا لم تخالجه هاتيك الآمال ؟ . لكن اويسا رآها مبرر حياته الوحيد ومعناه وما له في غيابها سوى العدم ، فما زال يـروض نفسه حتى خشعت واطمأنت ، فكان لها ما ارادت .. واكتفينا - وقد لج بنا البعد - بعيش مدوخ نجتره ويجرنا في سأم .
***
بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم اصحابه ، واوصاهم به خيرا .. فتوافد عليه الناس - وقد ذاع امره - يسأله كل ان يستغفر له ، فيجيب : ( ما اخص باستغفاري نفسي ولا احدا من ولد آدم ، ولكن في البر والبحر ، في المؤمنين والمؤمنات جميعا) ولا يجد العجب الى قلبه سبيلا .. وما كان قوله لمن يثنون عليه الا (انما يجزى كل عبد بعمله) ثم ينسرب منهم ليحيا في غمار جيش مرابط على الثغور .
هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يعرض عليه نفقه ، فيقول : ( ما اصنع بالنفقه يا أمير المؤمنين ؟ اما ترى علي ازارا من صوف فمتى تراني اخرقه ؟ وان معي اربعة دراهم فمتى تراني آكلها ؟ يا امير المؤمنين ، ان بين يدي ويديك عقبة كؤودا لا يجاوزها الا ضامر متخفف!) . اما صحا من حلم العمر قبل الممات ؟ هيهات ان يعود الى اضغاثه وتهاويله !. لقد انعتق من اسار نفسه ، فأنى تكبله - بعد - بشهوة تثقله ، او رغبة ينكفئ بها على ذاته ، فيستنقع في لذاته ؟ . انه نسمة صبح تشيع الرضا حيث تمر ، ودفقة غيث تبث الحياه في الارض القفر .. كل لحظة تأتيه تأخذ بيده ، مترفقه ، ترجوه ، ان يؤدي حقها ويحييها ، فلا تسترخي مثل تثاؤبة على فم الزمان ! .
 
سأله (هرم بن حيان) ان يدعو له ، فقال : ( اللهم ارضه من دنياه باليسير ، واجعله لما تعطيه من الشاكرين ! ) . الم تكن حياته هو تسجيدا لهذا الدعاء ؟ . بلى .. قد رضي من المتاع بأقل القليل فأخرجه ذلك الرضا من ضيق دنياه وثقلها ، الى سعة الآخره وامنها .. وكان لما اعطي من سعة وامن شاكرا .. لكأنما هو روضه فينانه ، اليها يفيء اليتامى ، وبها يستظلون من لفح الهجير .. وابتسامه دافئه ترف على شفاه كاد يشقهها يبس الريح الزمهرير .. وكيف لا يكون كذلك وهو يتبوأ منازل القرآن الذي يقال لتاليه : ( اقرأ وارتق فمنزلتك يوم القيامه عند آخر آيه قرأتها) . يقرأ قول الله عز وجل : (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) ويمضي صعدا الى قوله سبحانه ( فأما من اعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ) . فاذا حياته عطاء كلها .. في كلمة طيبه يصل بها رحما ، وساعد يمده لاغاثـــة لهفــان ، حتــى اذا استنفـذ في ذلك طاقته كلها ، مضى مرددا في ضراعة وخوف : ( اللهم من بات جائعا فلا تؤاخذني به ! ومن بات محتاجا فلا تؤاخذني به ! ) .
لقد اعتق نفسه من اثرتها وهوانها ، بعبوديتــه لربــه المنعم الوهاب ، فوسع الآخرين . ( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) .
 
امين شنار
 
 
 
== قطرة ماء .. ==
 
كلما رأيت الماء يهمي من عـل ، او ينبجس من ينبوع ، او يتدفق على منحدر عجلا لهفان ، كأن له موعدا يخشى ان يفوته .. فاذا خريره لهاث ، وركضه اغاثه صريخ .. كلما رأيته كذلك ، كدت امد اليه يدي استوقفه ، اسائله : احبة تراب تناديك ام طائر ظمآن ؟ ام هكذا خلقت : ما وجودك الا ان تلبي امر ربك .. ولا مسافة ولا وقت لديك بين ان تكون وان تفعل .. فكل قطرة منك تسبيحة حمد ، وصدى ابتهال ؟ .
***
ويرتــد طرفي حسيرا ، يتجول هنا وهناك ، فاذا الكائنات كلها على قدر تسعى ، كما الماء .
منذا رأى النسغ في عروق شجيرة يمور ، ليعقد الزهر ، وينضج الثمر .. في زيتونه ، تهم ، اذ تمر بها ، ان تقرئها السلام .. او ياسمينه ما تكاد تقطف منها زهره حتى تنبت مكانها اثنتان .. والشمس في اوجها المهيب مرسلة اشعتها على ميزان لا يتقدم ولا يتأخر .. والطير كل قد عرف صلاته وتسبيحه ، مؤديا اماناته ، ما عرفنا منها وما استتر .. الكائنات كلها حياتها هي اخباتها لمشيئة ربها في جد خالص وعمل موصول .. فلماذا الانسان . في كل أرجاء الارض وقد انتهى اليه كدح كل شئ مسخر له - يقف متخما مدوخا حيران ، كأنما لا عمل له الا الأخذ النهم الذي لا يشبع ، ولا منتهى اليه الا الموت ؟ . ام لأنه اوتي ارادة فهو بها ينقطع ، وبحملها يشقى ، وتحت ثقلها ينوء ؟ كيف وما اوتي تلك الاراده الا لكي ينهد بها - على هدى وبصيره ، وفي كل ما يفعل - لعبادة ربه انابة اليه وشكرا ؟ انها ارادة خير مركوزه في فطرته ، فلماذا يراوغها ويتوهمها تأرجحا بين حياة وعدم ؟ ام يحاول عبثا ان يجردها من دفق منبعها ودفق مصبها ، مستغنيا - فيما يحسب - عن نواميس ربه وما اودع في الكون والحياة من سنن لا تتخلف ابدا .
الكون كله مسخر له ، كي يتخذه مرقاة عبودية وحمد ، لكنه ينأى بجانبه كبرا واعراضا ، فلا يحصد الا الخيبه والضنك والسراب .
***
ان في اراقة قطرة ماء عبثا وبلا منفعه ، قتلا لها بغير حق .. فكيف بمن يريق الكون و الحياه ، متصورا انه جاء صدفه ، وبلا اي هدف يراد ؟ . الا اي حياة ، اذن ، ليس لها معنى سوى مجرد العيش ، ولا حافز الا الجوع ، ولا غايه الا الجدار المسدود ؟ .
(اللـه الــذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بامره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) .
(وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) .
 
امين شنار
 
== ''''''انه يرجو ويخاف'''''' == !
ذاك هو (الحسن البصري) .. رأى فيه معاصروه شيئا عجبا .. قالوا : ( كأنما هو آت من الدار الآخره ، يحدث عنها باليقين كله !).
ام ترى سبقته نفسه الى هناك ، فيما بقيت جوارحه في دنياه ، تنتظر ساعة الرحيل .. فهو رهين غربة ووحشة وحزن ثقيل .. يعمل جاهدا لكي يؤدي امنته : بأن تخرج كل جارحة فيه - باسم ربها - ما استودعت ، ليدلف - من بعد - بكيانه كله الى دار خلوده ، فيكون له من بعد هم ، راحة ومقيل ؟؟ .
هو ذا ينظر الى من حوله .. في دهشة وذهول .. كيف التصقت انفسهم بدنياهم ، ولم تمهد لهم - بايمانها وشوقها للقاء ربها - من سبيل ؟ .
***
يود لو ينتشل جوارحه من بينهم ويطير ، انى له ذلك ، وثم خطى لا بد ان يمشيها ، ولكل اجل موعد وكتاب ؟ تضج فيه اللهفة للحاق بمن عرف من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . لكم يلهج بذكرهم ، لعله يؤنسبهم وحشته ويكفكف من أساه ! . يخاف ان تحبسه عنهم لحظة غفلة ، فينقطع عن آثار خطاهم ، وليس له غيرهم - وغير ما اهتدوا به - من قدوة ، ومن دليل . يخاف ان تتلبس نفسه بشهوة او انكفاءة الى مزالق العدم . كيف ، وقد اعتقها ، تعود للاسار من جديد ؟ .
بل ما الذي يدريه ان نفسه تحررت ؟ ما الذي - اذن - يعج في اهابه ويستجير .. من ربقة الألم ، وكيف يأمن الظمآن قبل ان يجيئه البشير : ان هلم للورود ؟ .
يخاف ان يحبسه عن المسير ، هؤلاء ! . يراهم في السوق كل يوم ، غافلين .. يلغون ، يضحكون .. ثم ها هم اليه في فضول ، ينظرون .. يتصفح وجوههم ، فيثقله الاسى ، فينادي : (اسمع اصواتا ولا ارى انيسا ! ما رأيت أخصب ألسنة ، وأجدب قلوبا ! اما سمعتم انه من عصى الله فقد حاربه ؟ . كم قيل لكم : اصحبوا الدنيا بأجسامكم وفارقوها بقلوبكم ! . ان المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته ! الا من هم بشيء اكثر من ذكره ، ولا هم لكم سوى متاع دنياكم ، وان ابن آدم يكفيه ما يكفي العنيزه : قبضة تمر ، وشربة ماء ! - والله ما من رجل ادرك اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثم اصبح بين ظهرانيكم ، الا أصبح مغموما وامسى مغموما !) .
قام (المغيره بن مخادش) اليه قائلا : (يا ابا سعيد ! كيف نصنع بأقوام يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير) . قال الحسن البصري : (لأن تسمع اقواما يخوفونك حتى تدرك الأمن خير من ان تصحب اقواما يؤمنونك - من يوم الحساب - حتى يلحقك الخوف ).
قال له رجل آخر : (ما رآك احد الا ظنك حديث عهد بمصيبة ، ففيم ذلك يا ابا سعيد ؟ ) ، قال : ( ولــم لا أكون كذلك ؟ ما يدريني لعل الله تعلى اطلع مني على بعض ما يكره ، فمقتني ؟ ) . واستبد بالقوم فزع ، وبكى رجل في اقصى المجلس ، وقال : ( لئن كان هذا قولك في نفسك فاين نذهب نحن ؟ ) . وقال آخر : ( ألم يقل فيك أنس بن مالك - رضي الله عنه - سمع وسمعنا وحفظ ونسينا ؟ . وقال قتاده : ما رأيت افقه من الحسن .. وقال ..) ونكس الحسن البصري رأسه مليا .. حتى اذا سكت القوم ، قال كمن يحدث نفسه : (ابن آدم ‍ انك تموت وحدك ، وتبعث وحدك ، وتحاسب وحدك ‍‍!) .
نعم انه يرجو ويخاف . وكيف لا ، وقد سمع قول الله عز وجل : ( انما يتقبل الله من المتقين ) ؟ وهــل طلــب العلم أحدا الا كان حظه منه ما اراد به ؟؟ وهز رأسه في أسى ، وتلا : ( أفرأيت ان متعناعم سنين ،ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ، ما أغنى عنهم ما كاموا يمتعون ؟ ) . تراهم يسمعون ؟ لقد غر اكثرهم اعمال يؤدونها ، والقلب غافل بهواه مرتهن .. فلا يعرفون خوفا ولا يخشعون .
كيف بهم لو رأوا ابا بكر - رضي الله عنه - وهو يجبذ لسانه باكيا ، ثم يقول : (ان هذا اوردني الموارد ! ) ؟ . كيف لو سمعوا ( ابا سعيد الخدري ) ينادي : ( انكم لتعملون اعمالا هي ادق في اعينكم من الشعرة ، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من الموبقات ! ) .
يعجبون من خوفه ؟ من تراهم يخدعون ؟ .
حذار ان يفتنوك عن نفسك يا ابا سعيد ! امض في اثر من سبقوك ولا تلتفت الا لكي ترحم هؤلاء اليتامى ، وتؤدي لهم حقهم مما اوتيت .. واياك ان تحقر احدا فيقعد بك الكبر عن مرادك .
***
ربما يمنحه شيئا من العزاء علمه بأن هؤلاء يؤمنون تارة ، ويغفلون تارة ، وليس يدري احد : قبضته - في المنتهى - كيف تكون ؟ .
كيف به لو عاش بين انفس قد صفدت في عتمة الاجساد .. لا ترى في الموت الا غاية المراد .. وتعشق العدم .. كي لا يطوف طائف الأسى بها : ( ماذا ترى ، اعددت للمقبل من محياك - بعد الموت - من سكينة وزاد ؟ . كي لا يهزها الألم : وانما الانسان ما يريد .. وهي تريد ان تظل في عذابها ، وفي انقطاعها .. وتزعم الحياه هكذا .. أحجية .. او صدفة .. ولا بديل .. ينقذها من لجة البوار والسأم ..
أم حسبها ان تغرق المكرور من ايامها في المتع المأكولة التي من زبد ومن غثاء .. ؟ ام كبروا عن فطرة الطفولة (الساذجة العمياء) - فيما يحسبون - لكي يعيشوا بعدها طفولة جرداء .. مفتونة بكل ما في جبها المظلم والعقيم من أشياء .. بلا براءة ولا تجدد ولا ارتقاء ؟ ( ولله غيب السموات والارض ، وما امر الساعة الا كلمح البصر او هو اقرب ، ان الله على كل شيء قدير ) .
 
امين شنار
 
 
 
'''مبشر بالجنه'''
ما الذي يخشاه سعد ؟ ان تكون نفسه قد انطوت على بقية من زخرف ومن زبد ، أم تجيئه قبضته ، وهذه الحمى تعيث في الجسد ، تعيقه عن ارتقائه على مدارج الرضوان والرغد ؟ .. يموت نائيا عن المدينة المكسوة الأديم بالضياء .. كأنما غدت هجرته التفاته الى وراء ؟ تلك اذن - والله - حسرة الابد ! .
اوجاعه تشتد ، بيد ان حزنه اشد : (يا رسول الله ! فادع الله ان يشفيني !) ، يبكي .. يود لو يبوح بالذي يجد : ما جزعي من ان اموت ،، انما اريد ان يمتد مشهد شهدته معك . اخاف ان يكون مضجعي كمضجع (ابن خوله) الذي استأذن الفراق ، ثم لم يعد ! اود لو خطاي في سبيل ربي العظيم ، مثل زهوة الضحى ، تنساب دونما عدد .. فان دنت منية ، ففي جوار (بدر) التي احب او (أحد) .
يا سعد لا تخف .
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يضع يده الكريمة على جبينك ، ثم يمسح بها وجهك ، داعيا لك : (اللهم اشف سعدا ، أتم له هجرته !) ، ثم يهمس في اسى : (لكن البائس سعد بن خوله يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ان مات بمكه !) ثم يربت على صدرك حانيا وراجيا : (لعلك ان تخلف حتى ينتفع بك اقوام ، ويضر بك آخرون .. اللهم امض لاصحابي هجرتهم ، ولا تردهم على اعقابهم !) .
***
ومرت السنون ..
وها (سعد بن ابي وقاص) رضي الله عنه في المدائن ، ينفع الله به اقواما يجاهدون تحت امرته وينصرون ، ويضر به آخرين يأبون الا الكفر قبضة عليها يقتلون .. فما لسعد ذاهلا ، واليوم يوم نصر رائع مبين ؟ تراه لايصدق الذي يراه ؟ هو ذا يقلب بين يديه سواري كسرى ، وزينته وسيفه .. ويقول : ( وااله ان الجيش لذو أمانه .. ولولا ما سبق لأهل بدر لقلت انهم على مثل فضل اهل بدر !) .
كم ذا يرى من صور للنصر ومن آيات !.. يروض نفسه على التصديق : ان هذا النصر ماثل أمامه ، يحسه بيديه ! . هو ذا سعد ، الذي كان مشركو مكة يأنفون من النظر اليه ، والى المستضعفين من اصحابه : بلال وابن مسعود وعمار وصهيب .. يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اطرد هؤلاء عنك ، لعلنا نجلس اليك !) وينزل الله عز وجل آياته مناديا رسوله الكريم : (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ما عليك من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم ، فتكون من الظالمين ). ثم ها هو ذا .. سوار كسرى بين يديه ، وزينته وسيفه !. ولم لايكون ذلك يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ لم لا يجري نصره على يديك ، وقد وعيت فيم كان ذاك البلاء ، وصبرت عليه ؟ فيم لا يرفعك الله عز وجل وقد نزع عنك الكبر ، فما تنسب لنفسك حولا ولا قوه .. انما بالله حولك وقوتك ؟ .
يالله كم راودته الفتن عن نفسه فالتجأ الى ربه واحا نفسه بسياج من ايمانه بالغيب ، فأنقذها من كل سوء ! . ألم تحلف امه الا تتكلم او تأكل او تشرب حتى يترك دينه ؟ ألم يتجرع مرارة الجوع في (شعب ابي طالب) بمكة ، حتى ليقول : (رأيتني هناك وقد خرجت ليلا ، فسمعت قعقعة شيء تحت قدمي ، فاذا قطعة من جلد بعير ، فأخذتها فغسلتها ثم أحرقتها ثم دققتها بين حجرين ، وأكلتها ، ثم شربت عليها ماء فقويت بها ثلاثة أيام !) ، وفي اول سرية له بعد هجرته .. هل كان له طعام الا ورق الشجر ؟ . فما الذي بقي فيه من شهوة ، وقد رأى الى شهوات الدنيا كم هي صغيرة وتافهة حتى لتسد اعتاها بوريقة شجرة او قطعة جلد ملقاة في ظلمة ليل ؟؟ .
ويوم احد كنت - يا سعد - بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ترمي وتدعو .. فيقول رسول الله : (اللهم استجب لسعد !) فاذا انت ،من بعد ، ذو دعاء مستجاب لا يرد . وثلاث مرات في ثلاثة أيام متواليات ، يقول رسول الله عليه السلام : ( يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة !. ) فتكون أنت ..
ترى نال منه العجب ، أم زهت وانتفخت في عينك دنياك ؟ هيهات ! انى يكون ذاك ، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي محذرا ، وانت تصغي بكل جارحة فيك : ( انا في فتنة السراء أخوف عليكم مني في فتنة الضراء ، انكم ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم ، وان الدنيا حلوة خضره) . كيف تركن الى متاع دنياك وهذا صوت رسول الله عليه السلام يهز منك الاعماق : (لتكن بلغة احدكم من الدنيا كزاد الراكب) ، وكيف يحجبك عن ربك اعجاب بنفسك ، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يهتف بك غداة بعثك الى المدائن : ( يا سعد ، سعد بن وهيب ! لا
‹‚.ŒئAيغرنك ان قيل صاحب رسول الله ، انظر الى الاكر الذي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ، عليه ، منذ بعث الى ان فارقنا فالزمه فانه الأمر !) .
ليس العجب ان يكون نصر الله حليفك ، بل العجب كل العجب ان لا يكون . في صباك انتشلت نفسك من رق دنياك ، وفي شبابك ، غسلت نفسك من اوضارها فيما تجرعت صابرا محتسبا ، من بلاء .. وها انت في كهولتك ( ينفع الله بك أقواما ويضر آخرين ) ، وينساب صدى صوت رسول الله عليه السلام ملء عروقك فتلهج بحمد الله ، وتبكي حنينا .. وتقلب بين يديك سواري كسرى وزينته وسيفه ..
***
يقولون لك ، في أخريات عمرك ، والفتن تموج من حولك موجا : (لو شئت للبت مائة الف سيف نداءك !). تلك فتنة السراء تضج ضجيجها .. وذاك هو الصوت المبارك يترقرق في سمعك ينبوع ضياء ويملأ عينيك دموع لهفة ورجاء : ( الفقر تخافون ؟ والذي نفسي بيده لتصبن عليكم الدنيا صبا ، حتى لا يزيغ قلب احدكم ازاغة الا هي .. وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ، ليلها ونهارها سواء ) .
يطول صمتك ، ويهتف بك ابن أخيك (هاشم بن عتبة) : فيم قعودك ؟ .. وينكس سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه رأسه ، واجما محزونا ، ثم يقول : ( يا ابن اخي ! اني مررت بريح مظلمة ، فأنخت راحلتي ، حتى انجلت عني !) . وكيف لا تنجلي عن وجهه ، وقد استضاء ، ثم أضاء بنور اليقين ؟ (الا ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، الذين آمنوا وكانوا يتقون ، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، لا تبديل لكلمات الله ، ذلك هو الفوز العظيم) .
 
امين شنار
 
 
 
 
'''مع النفس والجسد'''== نص عنوان رئيسي ==
ألم تر الى الارض ، كيف تستجيب - بكل ما عليها من ماء وتراب وصخر ونبات وحيوان - لأي جهد يبذله الانسان ، بأي جارحة من جوارحه .. فكأن هذا الجسم البشري والارض - وهي منبته - أخوان متحابان متآلفان ؟ . ولا تدري ايهما الرابح في هذه الصلة المتبادلة : الانسان ، بما نال من وسيلة عيش ومتاع ، أم الكائنات المسخرة له بما اتيح لها من اخراج اماناتها لتؤديها خير أداء ؟ .
تلك يد ، ربما هي يد طفل ، تعهدت يوما برعايتها بذرة شجرة (السيكوا) ، فاذا بتلك البذرة التي لا تون اكثر من ستة واربعين غراما ، تصبح شجرة طولها ثلاثة وثمانون مترا ، وزنها الفان وثلاثون طنا ، اي ضعف وزن بذرتها بمائتين وخمسين مليون مره !. وراحت الشجرة تعطي الانسان : الاكسجين والظل والخشب ..
وذاك رجل ياباني اصطحب كلبه يوما الى محطة القطار وتركه هناك .. ولم يعد الرجل ، فظل الكلب يذهب كل يوم الى المحطة ويبقى ، حتى يهبط الليل ، في انتظار سيده . حتى اذا يئس من عودته ، رجع الى البيت ، ليعود في صباح اليوم التالي .. واستمر على ذلك أحد عشرة سنة متواليات ، حتى وجدوه في المحطة ميتا ، وفي عينيه دموع .. ترى ، ماذا أعطاه سيده ليرد جميلة بكل هذا الفاء ؟ كسرة خبز ؟ مأوى ؟ أم ربت على ظهره بحنان ؟ .
***
ألم تر الى جوارحنا هذه التي تستجيب لها كل ما على الارض ، كيف تستجيب هي في طاعة وخضوع تامين لما تريده (النفس) ؟ . هل تمردت يوما يد او قدم او عين على يريدها صاحبها ان تفعل ؟ الا ترى الى بشرة الوجه كيف تحمر او تصفر او تنقبض او تتهلل ، اذا اعترى (نفس) صاحبها خجل او خوف او حزن او فرح ؟ بل ألم تر الى المعدة كيف تفرز افرازها الهضمــي بمجــرد ان تشتهــي (نفس) صاحبها طعاما ، فيقترب منه ، او يراه عن بعد ؟ . ألم يبلغك نبأ تلك الفتاة التي عاشت عشرين عاما صماء بكماء ، فلما جيء لها برجل عجوز ليتزوجها اضطربت نفسها وارادت ان تعلن رفضها فاذا لسانها - بعد عشرين عاما من صمت مطبق - ينطق معترضا بشــدة ، فيما اهلها من دهشة واجمون ، لا يستطيعون قولا ؟ .. وتلك الجدة العجوز ذات الثمانين عاما التي احتضنت حفيدها المريض وقد ماتت أمه ، ولم
ترض مرضع بارضاعه ، واستوفزت (نفس) الجدة ، واستجمعت ارادتها ، ودعت ربها ، ثم ألقمت الطفل ثديها ، فاذا هي تدر عليه وترويه ! .
***
الا ترى الى خاتمة المطاف اين ينبغي ان تكون ؟ . انها هذه النفس الآمرة المطاعة ، تسكنها الوحشة والغربة ، ويملؤها القلق والضياع .. اذا لم تكن - بدورها - مطيعة خاشعة لربها ، تصدر في كل ارادة تريدها عن نفحة
الروح فيها ، تماما كطاعة جسمها لها ومثل استجابة الكائنات المسخرة لها ، بل اكثر من ذلك وأقوى وأتم ، فهي باراتها تفعل ، والى سعادة الأبد تسعى ،وتمد طريق انابتها لله عز وجل ، في توازن وألفة مع الكون ، وانسجام وتناسق مع نواميسه الباقيات .
(ألم تروا ان الله سخر لكم ما في السموات وما في الارض) ، ( وسخر لكم الليل والنهار ، وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها ان الانسان لظلوم كفار) ، (ومن تاب و عمل صالحا فانه يتوب الى الله متابا ).
امين شنار
 
 
'''ويرجو رحمة ربه'''== نص عنوان رئيسي ==
)يا عثمان ! صم غدا وافطر عندنا ، فاننا ننتظرك ) .
أي فرح يملأ قلبه ويملك عليه اقطار نفسه ! تلك رؤيا حق ، وذلك ما كان يريد : لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلته تلك ، ومعه ابو بكر وعمر .. وسمع النداء المبارك يجلو كربه ، ويبته على الموقف الذي ارتآه . هو ذا نال مراده . وغدا الغيب شهادة . وما بينه وبين لقاء رسول الله عليه السلام الا ان تمر سويعات ذلك النهار الذي تلقاه صائما راضيا محتسبا ، ولتكن مشيئة الله .
هل يعلم اولئك الذين يطيفون بداره يريدون به شرا ، وقد أعمى الكبر أعينهم ، أصم الحقد آذانهم ، أن منتهاه ومنتهاهم الى الله الذي لا يظلم أحدا ؟ . فيم يريدونه ان يتخلى عن امرة المسلمين ؟ كيف وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لعل الله يقمصك قميصا ، فان أرادوك على خلعه فلا تخلعه) ؟ ما الذي ينقمون منه ؟ كلا . ان هي الا الفتنة التي انذر بها رسول الله عليه السلام أمته ، وقال : ( ان النائم فيها خير من اليقظان ، والقاعد خير من القائم ..) . ولا - والله ، لن يأمر بقتالهم ، ولن يترك أمة محمد عليه السلام يعدو بعضهم على بعض !! .
***
ما الذي ينقمون منه ؟ كيف لو رأوه ، وقد بعثه الرسول الكريم ، يوم الحديبيه ، الى قريش ، يسألهم : أن يخلوا بين نبي الله والبيت الحرام ، فهو انما جاء معتمرا ولم يأت مقاتلا .. ودخل عثمان بن غفان ، رضي الله عنه ، مكة ، فلقيه أهلها غضابا ، أحاطوا به آذوه .. فأبلغهم بما جاء لأجله . وقال له أبو سفيان : (دونك البيت فطف به ان شئت) . فقال ، مطفئا كيدهم الذي يكيدون : ( ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم) . فهموا به ليقتلوه ، لولا أن أجاره ابن عم له ، فاكتفوا بحبسه . وقال له ابن عمه : ( ما لي أراك متخشعا في ثوبك هذا الخشن ؟ أين ما كنت فيه من نعيم ؟ ) . يريدونه ان يعود لاسار دنياه وظلمتها وضيقها ، وقد أعتق منها فاتسعت وأشرقت وأمست طريقا الى الآخره ؟ . ويعاوده السؤال : فيم أنت كذلك ؟ فيجيب : ( هكذا حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) . وشاع انهم قتلوه ، فقال الرسول الكريم : (لا نبرح حتى نناجز القوم) . ودعا أصحابه الى بيعة الرضوان ، وضرب باحدى يديه على الثانية مبايعا عن عثمان .
ما الذي ينقمون منه ؟ أما كان من الاولين السابقين الى هذا الدين ؟ .
وتطوي له الذكرى عمره كله ، فكأنما هو ساعتان : هذه الساعة التي هو فيها ، وتلك التي لقي فيها رسول الله صلى اللــه عليــه وسلــم .. كان عثمــان - رضي الله عنه - في بيت ( أروى بنت عبد المطلب ) خالته ،وقد جاء يعودها .. عندما دخل رسول الله عليه السلام .. فجعل عثمان ينظر اليه ، متفكرا في هذا الذي بلغه من أمره ، وما حدثه به أبو بكر عنه . يقول عثمان : ( واقبل علي ، وقال : مالك يا عثمان ؟ . قلت : أعجب منك ، ومن مكانك فينا ، وما يقال عنك . قال : ( لا اله الا الله ) . فاعترتني هزة وقشعريرة . ثم تلا : ( وفي السماء رزقكم وما توعدون . فورب السماء والارض انه لحق مثل ما أنكم تنطقون ) . ثم قام فخرج ، فخرجت خلفه ، وأدركته وأسلمت ) . ومرت السنون ، وها هو ذا يجيئه هذا الوعد ، وانه لحق ، فكيف لا يصبر له ولا يرضى به كائنا ما يكون ؟ .
وتتوالى عليه ذكريات أمسه البعيد .. هو ذا عمه الحكم بن أبي العاص يوثقه ويقسم ان لا يحله حتى يترك دينه ، فيقول والله لا أدعه أبدا . وعندما اذن للمسلمين بالهجرة الى الحبشة كان عثمان رضي الله عنه أول من هاجر بزوجه رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم .. وقال الرسول الكريم ، يومئذ : ( انهما أول من هاجر الى الله بعد لوط عليه السلام ) . ما الذي ينقمون منه ؟ كيف لو سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي : من يشتري مربد بني فلان ؟ . فيشتري عثمان ، فيأمره بأن يضمه الى المسجد ويقول له : أجره لك . وينادي يوما : من يشتري ( بئر رومه) ؟ فيشتريها عثمان بخمسة وثلاثين الف درهم .. فيقول عليه السلام : اجعلها سقاية للمسلمين ، واجرها لك . وينادي عشية غزوة تبوك : من يجهز هؤلاء غفر الله له ؟ . فجهزهم عثمان رضي الله عنه بمائتي بعير ، ومائتي أوقية ذهبا .. فدعا له الرسول الكريم : (اللهم جوزه على الصراط ، واغفر له ما أقبل وما أدبر وما أخفى وما أعلن ، وما هو كائن الى ان تقوم الساعة !) .
كان ينفق ماله انفاق من هو بما في يد الله عز وجل اوثق منه بما هو في يده .. ثم لا تختلج نفسه بذرة عجب .. يقول له رجل يوما : ذهبتم يا أصحاب الاموال بالخير كله ، تتصدقــون وتعتقون وتحجون .. قال عثمان : وانكم لتغبطوننا على ذلك ؟ ، قال: نعم . فقال : (والله لدرهم ينفقه أحد من جهد ، خير من عشرة الآف ينفقها موسريملك أضعافها !) والجواز على الصراط صعب عسير ها هو ذا يهيأ له ولما بعده من منزلة سامقة بهذا البلاء ، يصيبه فيعيه ويصبر عليه . ( وما يبرح البلاء بالعبد - كما قال الرسول الكريم - حتى يتركه يمشي على الارض وما عليه خطيئة) .
***
يأتيه أصحاب النبي عليه السلام ليقاتلوا عنه ، فيقول لهم : ( انما تراد نفسي ، وسأقي المؤمنين بنفسي . ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد الي عهدا فأنا صابر عليه ) . اما استأذن يوما للدخول عليه ، فقال لمن بالباب : (ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه). فدخل لا يدري أيضحك ام يبكي ؟ ها هو ذا يوشك ان يقرع باب الآخرة .. وما يحزنه الا ان يلتفت فيرى الى الفتنة توشك ان تعصف بالناس . ما أكثر ما قال له حذيفة رضي الله عنه ( اليوم تغيرت القلوب ) .! وحدثه عن يوم تصير فيه القلوب الى قلبين : أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السمات والارض ، واسود لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا الا ما اشرب من هواه .. هل كان يظن ان شيئا من ذلك يدركه والعهد قريب ؟ أم احتجب هؤلاء بزخرف دنياهم فزاغت ابصارهم ؟ أم هي الفتنة اذا اقبلت اختلط على الناس امرها واذا أدبرت تبينت ؟ . يريدونه ان يأخذ نفسه وذوي قرباه بمثل ما كان يفعل عمر ؟ . يقول لهم : ( لست اطيق ما كان يطيق عمر ، ولا انتم تطيقون !) .
كيف لا يعلمون ان لكل امرئ وسعه فهو محاسب عليه ؟ . أما قال فيه رسول الله عليه السلام : (اصدق أمتي حياء عثمان .. وهو رفيقي في الجنة ) ؟ وقال فيه عمر : (لو قسم ايمان عثمان على جند من الاجناد لوسعهم) وقال فيه علي رضي الله عنه : ( ذاك امرؤ يدعى في الملأ الاعلى ذا النورين ) . بلى والله قد كان واسع الحلم ، لينا ، يصل الرحم ، ويغيث الملهوف ، ويقوم الليل الا هجعة في اوله ، باكيا كأن زفير النار في أذنيه ..
كان له خادم أغضبه يوما ففرك اذنه ، ثم تذكر وأناب ، فقال له : اقتص مني .. فأخذ الخادم بأذنه ، فقال رضي الله عنه : ( اشدد .. حبذا قصاص في الدنيا ولا قصاص في الآخرة ) . كان يقيل في المسجد ويقوم واثر الحصى بجنبيه . ويطعم الناس اللحم ويدخل بيته فيأكل الخل والزيت . أليس هو القائل : (لو ان قلوبنا طهرت لم نمل من ذكر الله عز وجل . من زل فليتب ولا يتماد في الهلكة ، فان تمادى في الجور كان ابعد عن الطريق . لا تركنوا الى الدنيا واعلموا انها غير تاركة الا من تركها . ان تقوى الله غنم والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت .. واتقوا الله في السرائر فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( والذي نفس محمد بيده ما عنل احد عملا قط سرا ، الا البسه الله رداءه علانية ، ان خيرا فخير وان شرا فشر .. ولو اني بين الجنة والنار ولا ادري الى ايتهما يؤمر بي لاخترت ان أكون رمادا قبل ان اعلم الى ايتهما اصير ) . ( أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون انم يتذكر اولو الالباب ) .
 
امين شنار
 
 
''')ادع لنا بالمغفرة''' == نص عنوان رئيسي ==( !
ها نحن على جبل ، في لجةليل ، في احضان فلاة .. بخباء من مزق تتناوح فيه الريح ، تهدد ساكنه انسام صلاة .. ونسائله : أفرارا من دنياك ووحشتها ؟ او تنشد في هذا القفر الممدود ، سيكنة نفسك ، أم تبغي من مد الروع نجاة ؟ . الموت اذن ما تخشاه ؟ هل يهرب مثلك ؟ كيف وقد أبصرت الموت حياة ؟ .
كلا ، ومعاذ الله . ما أكثر ما التقيا - هو والموت - ومضى كل في وجهته ، لهفان ليحضن صاحبه في موعد صدق لا يتخطاه ! . انه ( محمد بن مسلمة الانصاري رضي الله عنه .. ألم ير الموت يترصده يوم (بني ثعلبة) ؟ . بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهم على رأس سرية من عشرة رجال ، فوردوا عليهم ليلا على بعد اربعة وعشرين ميلا من المدينة .. فاذا القوم قد أعدوا لهم كمينا من مائة رجل .. وتراموا ، ساعة ، بالنبال .. ثم حمل (بنو ثعلبة) بالرماح على محمد بن سلمة ومن معه فاستشهدوا جميعا الا هو .. وقع ، على حافة الموت ، مغشيا عليه ، مخضبا بدمائه .. وضربوا كعبه فلم يتحرك .. فظنوه قد مـت وراحوا .. ولم يفـق لا على صـوت رجـل من المسلمين جاءه بعد ساعات ، على قدر ، يسعى .. يناديه ، ويحمله الى المدينة .
ورأى الموت تحدق به ظلاله يوم (أحد) ، اذ ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في قليل من الرجال .. ولم يقعد به عن القتال ما أشاعوه يومئذ من أن رسول الله عليه السلام قد قتل .. وما خطر له ببال الا ( ان يموت على مات عليه رسول الله ان يكن قد مات ) ، كما قال شهيد (أحد) أنس بن النضر رضي الله عنه .. او ان يدفع عنه الاذى بكل ما أوتي من قوة ( فلا عذر له ولا لأحد ممن معه ان خلص الى رسول الله وفيهم عين تطرف ! ) كما قال شهيد ( أحد ) الآخر سعد بن الربيع رضي الله عنه ..
ورأى الموت في انتظاره يوم سار الى (كعب بن اشرف) في حصنه المنيع بين قلاع حلفائه بني النضير : فقد سمع رسول الله عليه السلام يقول لاصحابه : من لكعب بن الأشرف فانه قد آذى الله ورسوله ؟ ) واذا الكلمة على شفتي ابن سلمة كأنها الصدى : (أنا له يا رسول الله.) فقال عليه السلام : ( فافعل ان قدرت عليه ) . لشد ما كان يبغض ذاك المجترئ على رسول الله ، ينقض عهده معه ، ويهجوه بشعره ، ويخرض قريشا عليه ، ويشبب بنساء المسلمين .. ومضى - ومعه اثنان من رفاقه - الى كعب ، وناداه ، وسمع امرأة كعب تقول لزوجها : (لا تخرج ، فهذا صوت يقطر منه الدم !) . لمن كعبا خرج الى مصرعه ..
لم يكن اعتزال (محمد بن سلمة) الناس اذن من خشية موت ، فهو (فارس نبي الله) - كما سموه - ولقد كان حريصا على الموت في سبيل الله .. لم يتخلف عن غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الا يوم (تبوك) اذ استخلفه الرسول الكريم على المدينة .. ففيم اذن ؟؟
 
***
أيكون من ضعف يعتريه ، وعجز يقعده عن مواجهة الفتن ؟ . كلا . فلقد كانت مواقفه كلها ، بحول الله وقوته ، مواقف اقتدار .. يقول كلمته فاذا هي قاطعة كحد السيف .. ولا يخشى في الله لومة لائم .. الا ترى اليه ، يسأله عمر ، رضي الله عنه : كيف تراني يا محمد ؟ فيقول : ( أراك والله كما أحب ، ولو ملت عدلناك ! ) فيستعيده عمر ما قال ، فيعيده ، فيقول : ( الحمد لله الذي جعلني في قوم اذا ملت عدلوني) . وكان عمر اذا أراد ان يؤتى الأمر الصعب يبعثه فيه ..ارسله الى سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه ، وأمره بأن يحرق باب داره ، وقد بلغه انه أغلقه دون أصحاب الحاجات .. فقدم الكوفة وفعل ما أمر به ، وحلف سعد رضي الله عنه ان ما بلغ امير المؤمنين عنه ، باطل .. فقال ابن مسلمه : ( نفعل ما امرنا ، ونؤدي عنك ما تقول .) .. ودعاه سعد الى الدخول ، فاعتذر بأن عليه ان يعود من فوره .. وعرض عليه نفقة لمسيره فأبى .. وعاد الى المدينة بأقصى ما يستطيع من سرعة حتى ان عمر رضي الله عنه عندما رآه لم يصدق عينيه ، وقال : (لولا حسن الظن بك ما رأيت انك أديت!) . وبعثه عمر ، كذلك ،الى عمرو ابن العاص رضي الله عنه ، بمصر ، ومعه كتاب جاء فيه : (بلغني انك أحرزت مالا كثيرا لم يكن لك حين وليت ، واني موجه اليك محمد بن مسلمة ليقاسمك ما معك ، فأطعه واعفه من الغلظة عليك ، فانه برح الخفاء !) . وكادت تأخذ عمرا رضي الله عنه هزة من عصبية الجاهلية لولا ان اسكته محمد بن مسلمة وقال له : ( دع عنك هذا ، فعمر خير منك ، أما ابوك وابوه فهما في النار !) . واعتذر عمرو وقد سكت عنه الغضب ، وترك له ان يفعل ما جاء لأجله ! .
فيم ، اذن ينأى محمد بن مسلمة بنفسه عن كل ما حوله من أحداث جسام ، بعد مقتل عثمــان رضي الله عنه ، ويمضي بعيدا ليقضي آخر سني عمره في ذلك القفر الموحش وحيدا ؟ . أبقية كبر يكتمها ؟ أم فورة نفس غضبى حرمت من بعض متاع الارض ، او التفتت في غفلتها لعلائق الماضي ؟ كلا : فما كان لاصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ان تنطوي أنفسهم على كبر او شهوة . الا ترى الى الانصار وفيهم (ابن مسلمة) يقول لهم رسول الله عليه السلام : (سلوني ، فوالله لا تسألوني اليوم شيئا الا أعطيتكموه ، ولا أسأل الله لكم شيئا الا أعطانيه !) فلا يجدون الا شيئا واحدا يستحق ان يسألوه اياه ، يقولون ( يا رسول الله ، ادع لنا بالمغفرة !) . ثم الا ترى الى محمد بن مسلمة يبعثه رسول الله عليه السلام الى بني النضير ليأمرهم بالخروج ، بعد ان تنكروا لمواثيقهم معه وهموا بالغدر به عليه السلام .. فيذهب اليهم ويبلغهم بما أمر به . قالوا : ( ما كنا نظن ان يجيئنا بهذا رجل من الاوس !) هيهــات ان ينطلــي عليه مكرهم ! يذكرونه بحلفهم القديم مع قومه على الخزرج ؟ تلك جاهلية اندثرت ولم يبق فيه منها اثر ! ها هو ذا يحسم الامر بكلمتين اثنتين لا غير : (تغيرت القلوب !) .
***
فيم اذن نقامك في هذا المنتأى بعيدا عن كل شيء ؟ انها الفتنة تشخص فيه الابصار وتذهل العقول .. من استشرف اليها استشرفته .. هو منها خائف وجل ان تمس ايمانه بسوء فيرى حلالا ما كان يراه حراما ، ويقبض على موقف سوء او شقاق فيحبط عمله ويهلك ! .. كلا. (بل الانسان على نفسه بصيرة ) . فلا يحملن نفسه ما لا يطيق . اما سمع رسول الله عليه السلام يقول : ( أفلح من كف يده !) جاءه محمد بن مسلمة يوما يبكي ويقول : (كيف اصنع اذا اختلف المصلون يا رسول الله؟ ) فقال عليه السلام : ( اذا كان ذلك فاضرب بسيفك صخرة حتى ينقطع ، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة او منية قاضية) . وهكذا فعل .
يقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : ( ما من أحد تدركه الفتنة الا وانا اخاف عليه الا محمد بن مسلمة فاني سمعت رسول الله عليه السلام يقول فيه : لا تضره الفتنة ) . ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة انهم الى ربهم راجعون . أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون . ولا نكلف نفسا الا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون ) .
 
امين شنار
 
 
'''ويؤثرون على انفسهم''' == نص عنوان رئيسي ==..
في مشهد من مسلسل أجنبي بثه التلفزيون ، قبل أيام ، دعت الأم ابناءها لتناول طعام العشاء ، فقاموا متثاقلين ، الا واحدا منهم قفز الى المائدة ، وهو يصيح في دهشة : (انا احس بالجوع فعلا !) ورمقه اخوته غضابا غير مصدقين .. ذلك معظم الناس في هذا العصر العجيب يأكلون لا من جوع او حاجة معدة ، ولكن لمجرد التلذذ بالطعام او قتلا للوقت .. وهم كذلك ينامون لا من نعاس او طلبا لراحة بعد تعب ، ولكن ضجلرا من راحة موصولة ، وفرارا من فراغ .. انهم كذلك في الاغلب الاعم : تسوقهم اجسامهم كرها ، بلا غاية تشدهم الى أمام ، ولكن بحكم العادة .. وربما ليثبتوا لانفسهم وللآخرين انهم ما زالوا يعيشون ! . لئن كان هذا مدى انقطاعهم عن الاسس التي تقوم عليها انسانيتهم .. فانى لهم ان يرقوا الى ما فوق ذلك ، من صلة بالله ، وابتغاء لوجهه عز وجل في كل ما يفعلون ؟ كيف وهم مسكونون باللامبالاة ممتلئون بالسأم ؟
أعرابي جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده ، ذات يوم ، يشكو الجوع . ولم يكن لدى النبي الكريم من شيء يطعمه اياه .. فقال لمن حوله : منذا يستضيف هذا .. الليلة ؟ . فقال رجل من الانصار انا يا رسول الله ! . وانطلق به الى بيته .. فلما رأته امرأته ، قالت ما عندي والله الا قوت اولادي !. قال : فعلليهم بشيء حتى يناموا . ودخل بالطعام على ضيفه ، ووضعه أمامه ، وحرك يده كأنما عرضا وعن غير قصد ، فاصطدمت بالسراج ، فانطفأ .. وطفق الاعرابي يأكل والانصاري يحدثه ويشعره بأنه يأكل معه ، دون ان يمد الى الزاد يدا .. حتى شبع الضيف ، ونام وفي الصباح التقى الانصاري برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاذا بالرسول الكريم يتهلل له وجهه ، فرحا بما فعل . وانزلت ، في الرجل ، الآية الكريمة ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) .
***
أهي دعوة للجوع ، اذن ؟ . كلا . فما أكثر ما كان الجوع مدعاة لسخط صاحبه ، وحاجبا له عن ربه ! . لكنها تذكرة بأنفس ان شبعت لم تعرف البطر .. او جوعت تضرعت لربها ، موقنة ان اليه ، وحده المفر .. آخذة بكل أسباب النجاة ، دونما تواكل او انفلات .. أجل تذكرة بأنفس أعتقها إيمانها من ربقة الدنيا ورق الشهوات فانبرت تسعى الى غايتها راضية ، مدركة ان لها موعدها بعد الممات فهي في شوق اليه .. وهي تحياه ، من الآن سموا ، واكتفاء وعطاء .
***
يا لهذا النور ينساب من البيت الذي تحسبه العين فقيرا ، وهو بالله غني .. ينشر الدفء على كل الفجاج ! . أي ضوء فاض منه بعد اغماض السراج .. يملأ الارجاء طيبا . نضرة ، فيض هبات .. هاتفا : ما لامريء الا الذي أنفق باسم الله من نفس ومن مال وجهد وحياة ! ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له اضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط واليه ترجعون ) .
امين شنار
 
 
'''حتى تنفقوا مما تحبون'''== نص عنوان رئيسي ==
)إني جلد يا رسول الله ، فوجهني حيث تريد ، ومرني بما شئت ) .
كان ذلك شأن ( أبي طلحة الانصاري ) لرضي الله عنه مع رسول الله عليه السلام .. وكان آخر عهده به يوم دخل عليه في مرضه الذي قبض فيه ، فقال صلى الله عليه وسلم ، لــه ( اقرئ قومك السلام فانهم أعفة صبر ) . هــا هو ذا شارف السبعين يقرأ قوله تعالى : ( انفروا خفافا وثقالا) فينادي بنيه : ( ان ربنا يستنفرنا شبابا وشيوخا فهيا جهزوني !) يقولون له : (قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع ابي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فدعنا نغز عنك .) . فيقول ( هيهات يا بني ! انه لا يجزي أحد عن
أحد ..) وتطيف به ذكرى أكثر أيام عمره خيرا وبركة ، يوم أسلم وجهه لله ، عز وجل .
***
-(هذا ابو طلحة جاءك خاطبا يا أم سليم ، فماذا تقولين ؟ ) . انه الفارس الجواد الوسيم ، اكثر اهل المدينة مالا .. فهلا استجبت ؟ تقول ( ام سليم ) : ( انى يكون ذلك ، وانت على دين آبائك ، اما انا فقد آمنت بالله ربا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ؟ . فان أسلمت فذلك مهري لا أريد مهرا سواه ) . قال ابو طلحة في حيرة : ( أي مهر هذا ؟ انما مهرك الذهب والفضة ، فسليني منهما ما شئت !) . دع عنك هذا يا أبا طلحة .. انها تريده زواجا باسم الله ، زواج مودة ورحمة ، يظله نور وتغشاه سكينة . ألم يأن لك ان تفيء الى ربك بعد طول ضياع ؟ ها هي ذي تعرض عليك ان تكون صورة نفسك المطمئنة : منك تتلقى زادا لمسيرة عمرها اذا اهتديت ، وتستمد ثباتا على دربها ان عزمت ، وتمضيان معا في ارتقاء لا يشوبه تلكؤ ، ولا يعيقه التفات .. ذاك مهرها يا أبا طلحة .. مهر لكل لحظة ، وكل يوم ، لا ينفد خيره ولا ينقطع مداه ، فهو دوما في مزيد .. ذلك ما تريده (ام سليم) .. وذلك هو ايضا ما تريده نفسك لو أصغيت الى نداء أعماقها وصدقت .. فهيا امض الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واشهد بين يديه شهادة الحق ، واترك عيشك هذا الذي تنوء بأيامه المثقلات ، الى عمر تحياه في تجدد وفي رغد ، وتتخطى به بوابة الموت الى نعمة الأبد ! . وتخلى ابو طلحة عن جاهليته ، ولحق بركب الانصار .
***
)لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) . أي نداء هذا يا أبا طلحة ؟ انه نداء ربك الذي به آمنت ، وذا سبيل البر الذي أردت ان تناله منذ استنقذت ارادتك من أوهام كبرك ومتاع دنياك ، وأسلمت : أن تنفق مما تحب ، كي يكون حبك خالصا لله عز وجل .. وهل من شيء احب اليك من (بيرحاء) بستان نخيلك الشاسع الذي كنت به تزهو وتختال ؟ .
يقول أبو طلحة رضي الله عنه : ( يا رسول الله ! انها صدقة ارجو برها وذخرها عند الله ، ولو استطعت ان أسرها لم أعلنها ، فضعها حيث أراك الله !) ويتهلل وجه رسول الله عليه السلام ، ويقول : (ذاك مال رابح يا أبا طلحة ، واني أرى ان تجعله في الأقربين) . وما كان شد فرحة ( أم سليم ) رضي الله عنها بذلك ! فها قد أثمر زواجهما وباركه الله .. وهو ذا (أبو طلحة) ، لن يشغله عن البر تعلق بشيء من دنياء ، وليفيضن هذا البر عليها وعليه غبطة ونعيما .
وشهد طلحة بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال فيه الرسول الكريم : (لصوت أبي طلحة في الجيش خير من الف رجل !) . ويوم (أحد) نثر كنانته بين يدي رسول الله عليه السلام ، وراح يرمي اعداء الله ، ويقول : (نفسي لنفسك الفداء يا رسول الله ، ونحري دون نحرك !) . ولم تكن (ام سليم) ببعيدة عنه في يوم الروع ذاك ، فقد كانت تضمد الجرحى وتسقي العطاش .. ويوم (حنين) قاتلا أشد القتال ، وقالت (ام سليم) لرسول الله يومذاك : (بأبي انت وامي رسول الله ! اقتل هؤلاء الطلقاء الذين ينهزمون عنك) فرد عليها : (ان الله قد كفى وأحسن يا أم سليم !) .
***
وتوفي ابنهما : وأبو طلحة غائب في سفر ، فسجته امه في ركن البيت ..وعاد ابو طلحة في المساء ، فاذا هي قد تزينت له وأعدت عشاءه ، سألها عن الطفل ، وكان قد غادره مريضا ، فأجابت : ( قد هدأت نفسه وارجو ان يكون قد استراح) . فتناول طعامه مطمئنا ، وقضى ليلته على أحسن حال .. فلما طلع عليهما الصباح ، قالت : (أرأيت جيرانا لنا استعادوا شيئا ، فتمتعوا به زمنا حتى ظنوا انه قد ترك لهم .. فلما طالبهم به اصحابه شق عليهم ذلك ، وأبوا ان يردوه !) قال ابو طلحة : ( بئس ما صنعوا ، الوديعة مؤداة الى أهلها !) . قالت ( فان ابنك كان وديعة لله عندنا وقد قبضه الله اليه .. فاحتسبه يا أبا طلحة !) . نظر اليها مليا غير مصدق سمعه ولا بصره .. ، كيف أطاقت هذه المرأة حزنها ، وفيم كتمت عنه ؟ . أتخشى ان يفجعه النبأ فيسخط ، أم تخاف ان تنغص عليه ليلته فيحزن ؟ . لشد ما آثرته على نفسها ، منحته الرضى والغبطة وقد طوت جانحها على أسى ودموع ! أم سما بها الصبر الى مستوى سامق فهي راضية بما أراد الله عز وجل ، وما ثمة من شك ولا تساؤل ولا اعتراض ؟ أليست هي أم سليم التي سمع رسول الله عليه السلام يقول فيها : (دخلت الجنة فسمعت خشفة بين يدي ، فاذا أنا بالغميصاء بنت ملحان) ؟ واسترجع ابو طلحة رضي الله عنه ، وقال : ( والله لا تغلبيني اليوم على الصبر !.) . وغدا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه النبي الكريم ، قال : ( قد بارك الله لكما في ليلتكما ) . وحملت أم سليم بطفل ، فلما ولدته سماه رسول الله ، عليه السلام ، عبد الله . قال احد التابعين : ( لقد رأيت لذلك الغلام سبعة بنين كلهم قد حفظز القرآن ) .
***
وجهزه ابناؤه للخروج ، وركب البحر غازيا ، ولقي وجه الله راضيا مرضيا .. ( أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ؟ ) .
 
'''امين شنار'''
 
ويعلمون انها الحق ...
 
هو ذا في آخر الدرب ، وقد طال به السرى ، يبكي وحيدا ..
هو ذا يطويه للأمس حنين ظامئ
قد مد - من لهفته - قلبا ، وجيدا ..
للبدايات اللواتي كان فيه الشوق ملء العين .. والعزم جديدا ..
والطريق النضر المخضل بالنعمة ، يزداد - على مر لياليه - صعودا .. ويسألونه : علام يبكي؟ فيجيب : (على زمان بسط اورث قبضا ، وايام انس اعقبت وحشة! ما أطيب منازل الالفة! وما اوجع الفترة والغفلات!)..
ويعجبون : أيغفل (الجنيد بن محمد) او يفتر ، وله في كل لحظة تذكر وانابة واخبات؟ ام هو الخوف من ان تأتيه قبضته ، وفي النفس كسرة من بقية تشدها الى دنياها ، فهي - اذن - في اسارها ، تتجرع بلواها؟ الهذا يحن الى بداية مسعاه ، ومستهل خطاه؟ بلى .. وانه هو القائل : (لو أقبل امرؤ على الله عز وجل الف سنة ، ثم اعرض لحظة واحدة ، كان ما فاته اكثر مما ناله!) .. ولقد أقبل على مرضاة ربه ، صغيرا .. كان في السابعة ، يلعب مع
اترابه ، عندما سأله خاله (السري السقطي) : يا غلام! ما الشكر؟ ، فأجاب من فوره : (ان لا يعصى الله بنعمه!) وفرح السري كثيرا ، ثم قال له منذرا : اياك ان يكون كل حظك من المعرفة ، لسانك!. وكان (الحارث المحاسبي) يصطحبه اذا خرج الى الصحراء ، ليزوده بما لديه من علم .. فيقول : أخاف ان اخرج من العزلة والامن الى الطرقات ورؤية الآفات ، فيفسد قلبي!. فيكفكف المحاسبي من خوفه ، ويقول له معاتبا : كم تقول أنسي وعزلتي! والله لو ان نصف الخلق تقربوا مني ما وجدت بهم انسا ، ولو ان النصف الآخر نأوا عني ما استوحشت لبعدهم!. ولقد جرب الجنيد ذلك ، في نفسه ، فوجده حقا .. ولكن ما يدريه بما توارى في زوايا قلبه من خبيئات ، دون ان يحس؟ ما يدريه لعل لسانه هذا الذي جال في ميادين المعرفة معلما ومذكرا قد اورثه شيئا من الزهو دون ان يشعر .. ولعل أنسه بأصحابه قد سلبه بعض انسه بربه دون ان يعلم ؟؟. بلى ، هو يعلم انه (لا يؤتى الحكمة الا من لا مطمع له في الخلق ، ومن لا هم له الا هم معاده). ولكم اوصى من حوله : (عليكم بحفظ همتكم من ان تتخطفها الشهوات ، فان حفظ الهمة مقدمة كل عمل صالح!). ولكم خدعت الدنيا اناسا حسبوا انهم منها ناجون ، فاذا هم - من بعد عزوف عنها - في غمراتها يخوضون .. وقد اخرج الله ما كانوا يكتمون! وانه ليخشى ذلك كله ، ويعج الى ربه مستغفرا في كل حين!.
بلى .. لقد انفق الجنيد جهده كله في التجافي عن متاع دنياه ، منيبا الى مولاه .. لكنه
يعلم ، يقينا ، ان بذل الجهد لا يكفي ، وان كان مطلبا لا غنى عنه : (من ظن انه ينال ما يريد ببذل الجهد فهو متعن ، ومن ظن النية هو مناط التوفيق : (وان الله عز وجل يعطي القلوب من بره ، حسب اخلاصها في ذكره ، فانظر ماذا خالط قلبك!) و (من لم يصل علمه باليقين ، ويقينه بالخوف ، وخوفه بالعمل ، وعمله بالاخلاص ، واخلاصه بالدأب ، فهو من الهالكين.) وكم دعا ربه : (يا موفق العاملين لصالح ما عملوه ، منذا الذي يشفع عندك الا باذنك؟ ومنذا الذي يذكرك الا بفضلك ؟ اللهم املأ قلبي بك فرحا .. ولساني لك ذكرا ، وجوارحي فيما يرضيك شغلا ، اللهم اجعلني من يقصد اليك قصد من لا رجوع له الا اليك .. واجعلني ممن يستعين بك استعانة من استغنى بقوتك عن جميع خلقك .. اللهم طهر قلبي من كل رجاء الا بك ، وكل خوف الا منك!) .. وهو ، من نفسه ، على حذر متوجس ، دائم لا يقر له قرار .. فلقد علم ان النفس ذات لجاجة ودعوى وفضول وازدهاء : (لا تسكن الى نفسك وان دامت طاعتها لك في طاعة ربك .. وان شر درجات الكبر ان ترى نفسك او ان تخطر ببالك .. ولن يغدو داء النفس دواءها الا اذا فارقت هواها .. ومن عرف الله اطاعه ، ومن عرف نفسه أساء بها ظنه ، وخاف على حسناته ان لا تقبل .. وان المسير من النفس الى الله صعب شديد!). ولقد أوصى اصحابه ان يكونوا في عبوديتهم لربهم وانعتاقهم من هوى انفسهم (كالارض ، يطرح عليها كل قبيح ، ولا يخرج الا كل مليح). وكان على كل لحظة من وقته حريصا ، يخاف ان اضاعها ان يضيع عمره كله .. وهو بذلك يذكر من حوله : (احفظوا ساعاتكم فانها تمضي ولا تعود ، ولا تخلف الا الحسرة على ما ضاع منها .. وان علامة اعراض الله عن العبد ان يشغله بما يعنيه ، وان من علامات التوفيق ان لا تتجوز ارادتك الوقت الذي انت فيه!).
كيف لا يخشى الغفلة وقد ادرك زمانا شغل فيه معظم الناس بدنياهم ، حتى كادت تحجبهم عن آخرتهم؟ وهو في ذلك يقول : (كان التوكل حقيقة ، وهو - اليوم - علم!). ويوصي صاحبا له : اذا لقيت من يصبر على الحق فتمسك به!) ويزجر من بعدت الشقة بين قولهم وعملهم : (كيف يدعو الى امر لا تظهر عليه آثاره؟ من الى الله وسكن الى هواه ومتاع دنياه ، ابتلاه الله وحجب ذكره عن قلبه واجراه على لسانه ، فان انتبه كشف الله ما به من بلاء ، أما اذا أصر فان الله ينزع من قلوب الخلق الرحمة عليه ويلبسه لباس الطمع ، فتصير حياته عجزا ، وموته كمدا ، ومعاده اسفا ..) وكان بالناس - على الرغم مما هم فيه - رفيقا .. يدعوهم الى ما فيه خيرهم لعلهم يفيئون الى الصراط المستقيم .. فالشفقة على الناس
- عنده - :(ان تعطيهم من نفسك ما يطلبون ، ولا تحملهم ما لا يطيقون ، ولا تخاطبهم بما لا يفهمون .. واذا لقيت غافلا فلا تبدأه بالعلم ، وابدأه بالرفق ، فان العلم يوحشه والرفق يؤنسه.) ويقول لهم : لا تيأسوا من انفسكم وانتم تشفقون من ذنوبكم وعليها تندمون .. ويذكرهم بأن الرزق قضاء ، وان العمل عبادة : (ان اليقين ان تهتم برزقك الذي كفيته ، وتقبل على عملك الذي كلفت به) ويعلمهم : (ان الصلاة صلة ، والسجود قربة ، ومن ترك طريق القرب اوشك ان يسلك طريق البعد .. وان رؤية النعم ورؤية التقصير تتولد من بينهما حالة تسمى الحياء .. ومن خاف من شيء فر منه ، ومن خاف الله عز وجل فر اليه ..) وان مدار الامر كله التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم : (ان الطرق كلها مسدودة عن الخلق الا من اقتفى اثر الرسول عليه السلام واتبع سنته). ويسألونه عن اليقين ما هو؟ فيجيب : هو استقرار العلم الذي لا يحول ولا يتغير في القلب . ويعجبون له كيف لا يؤرقه هم من هموم دنياه ولا يكدر سكينته بلاء ، فيقول لهم : كيف يحزنني شيء مما يرد علي من دنياي وقد ايقنت انها موضع هم وفتنة وبلاء ، فان أتتني بما أحب فهو فضل من الله ؟. وفي احتضاره اقبل على كتاب الله يقرؤه ، فلما اشتد به الالم قالوا له : ارفق بنفسك : فقال : وهل احد احوج مني الى ما أفعل ، وهذا اوان تطوى صحيفتي؟ (وما يدريك لعل الساعة قريب يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون انها الحق الا ان الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد).
 
امين شنار
26/12/1997
 
من منازل اليقين ..
الحكيم - فيما يقول ابو الفيض بن ابراهيم - (من يجود بما لديه ويزهد فيما عند غيره ، ويكف اذاه ويحتمل الاذى من غيره). ومن كلماته : (الصدق سيف الله في ارضه ، ما وضع على شيء الا قطعه. وكل مطيع مستأنس ، وكل عاص مستوحش. وتوبة العامة من الذنوب ، وتوبة الخاصة من الغفلة. ولن تشتاق الى لقاء ربك الا اذا جعلت الآخرة لك قرارا ولم تجعل الدنيا لك مستقرا ودارا .. ولا يصح في القلب الخوف الا اذا صح فيه اليقين ..).
***
هو ذا لا يغفل عن اهواء النفس ، وينهاها ..
عن ان تتثاقل ، او ان تتخذ الدنيا دارا ..
لا ترجو الاها ..
فاذا هي من اسراها ..
كل جوارحها غرقى عمياء وفي دبق الشهوات تميد ..
فاذا حرمت منها ضجت باللوم وبالحسرات :
لم لم تمنحني قطرة ضوء ، كسرة زاد ؟
أفما طافت بك رعدة خوف ، لو يوما ، لو طرفة عين ..
من ان تخنقني العبرات ..
يوم الظمأ الممدود ؟
أرأيت الى السهم المنقض مضى قدما ..
لا يحجبه شيء عن مرماه ؟
فكذاك ينيب العبد المؤمن في رغب ، ويغذ خطاه ..
ويمد جوارحه ، رهبا ، كيلا تستنقع في غفلات هواه ..
أوليس الموعد يوم لقاء الله؟؟
أرأيت الى أحياء الكون جميعا كيف تجود ..
لا تستبقي من فطرتها ذرة ؟
وبكل الحب تجوس الشمس بذوب أشعتها الفلوات ..
كي تكسوها نضرة ؟.
هل يأتي يوم فيه ترد الى الانسان الذاكرة المفقودة ..
ليوجه صوب اليوم الآخر ، في مرضاة الله ، هواه وعمره؟؟
 
امين شنار
29/9/1998
 
(والله يحب المحسنين)
اذا أبصروك تمر بهم باسم الثغر ، طلق المحيا ..
يخالون قلبك ، من كل هم ، خليّا!
فماذا اذا ما رأوك وقد خيم الليل ،
ترتاد ركنا قصيّا ..
وينساب دمعك ثرّا سخيا ..
كأن ذنوب الورى ، في فجاج الحياة جميعا ،
على منكبيك ، فلا تستطيع مضيا؟؟
ترى .. كان ليلك يأتي نهارك بالخوف : زادا وسقيا؟
وكان نهارك يأتي الظماء ، يطوف عليهم ..
يفيض الرجاء ، لمن شاء عذبا نديّا؟
لكم سمعوه يسبح ، يحمد ، ان دخل السوق .. تغدو خطاه من الذكر اجنحة ، فهي تعلو به ، وتناديه : لا تنس يوم المعاد! .. يذود عن القلب ساعة غفلته في ضجيج الزحام .. وكيف يغفل (محمد بن سيرين) وقد اتخذ من الورع حارسا ، لا يكل ولا ينام؟. ألم يقل فيه هشام بن حسان - وكان جارا له - : (كنا نسمع بكاءه في الليل وضحكه في النهار)؟ وقال فيه مورق العجلي : (ما رأيت رجلا أفقه في ورعه ، ولا اورع في فقهه ، منه!) ذلك ان ورعه لم يكن مكمن عجب تزهو به نفسه ، وتختال .. ولا كان حلية يتزين بها للأعين ، والقلب في غفلة وضلال .. كلا . بل هو ورع المخبت اليقظ يرد نفسه عن هواها ، ويقي قلبه نزغات السوء ، فاذا هو حديث عهد بربه في كل حال!
سئل يوما ، مسألة فأحسن الجواب فيها ، فقال له قائل : (ما كانت الصحابة لتحسن اكثر من هذا!). فنظر اليه مليا ، ثم نكّس رأسه في اسى ودهشة ، وراح يسائل نفسه ، وقد اطبق على المجلس صمت متوجس مديد : (فيم يسارع هؤلاء الى لغو القول حتى ليسوق احدهم صاحبه الى الهاوية وهو لا يدري؟ ما الذي اغرى هذا الرجل بأصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم ، فقال - في لجاجة - ما قال؟ كيف لا يرى ان ما نحن فيه من بقية علم وهدى انما هو من ثمرات صحبتنا لهم؟ ام أحس فيما قلته له هزة عجب خفيت عليّ ، فاراد الله عز وجل ان يظهرها بجزيل كرمه ، وواسع فضله؟؟). ورفع رأسه وقد كسا وجهه الالم : (يا هذا! لو اردنا فقه الصحابة لما ادركته عقولنا!). وأبحرت به الذكرى الى ايامه مع انس بن مالك رضي الله عنه .. فيم يراها اذا خلا بنفسه قريبة كأنها لم تزل .. فاذا التقى بهولاء رآها تمد اليه يديها من منتأى بعيد ؟ ام تغير الناس ، وادبرت الايام؟؟
هو ذا أنس ، رضي الله عنه ، كلما جاءه ومعه الحسن البصري ومالك بن دينار وثابت البناني تهلل وجهه بشرا ، وقال : (مرحبا بكم ! والله لأنتم احب الي من اولادي الا ان يكونوا في الخير مثلكم ، واني لأدعو لكم في الاسحار!). ويعلّمهم الورع . دخل عليهم يوم الجمعة وهم في المسجد يتحدثون ، فانتهرهم ، فلما قضيت الصلاة ، قال لهم وعيناه تذرفان : (اني لأخاف ان اكون قد ابطلت صلاتي بانتهاري اياكم!) ورأوه مرة يبكي ، فسألوه عما به ، فقال : (لا اعرف مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه ، عليه ، الا هذه الصلاة وقد صنع الناس فيها ما صنعوا !). وكانوا معه يوما ، فجاءه اناس واصروا على تقبيل يده لانها صافحت رسول الله عليه وسلم ، فقال لهم في حزن كظيم : (هلا ، اذن ، اطعتموه؟). وسألوه ان يحدثهم ففعل ، فاستزادوه ، فغمره الذهول ، وقال : (وما حدثتم به .. هل وعيتموه؟ ام اخذتموه لكي تضيعوه؟) واردف : (كان الرجل اذا قرأ البقرة وآل عمران عد فينا ذا شأن! وانكم لتعملون اعمالا هي في اعينكم أخف من الشعرة كنا نعدها من الموبقات!). وضج المجلس بالبكاء .. وقالوا له : الا تدعو لنا بدعوات ؟. فرفع يديه داعيا: (اللهم اغفر لنا وارحمنا وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار!) فلبثوا حيث هم ينتظرون منه المزيد ، فراح يقلب فيهم طرفه وقد اعتراه همّ شديد ، وقال : لئن اوتيتم هذا فهو خير الدنيا والآخرة !
***
ها هم أولاء بين يديه كما كان اولئك بين يدي أنس رضي الله عنه .. يرى اليهم يتجاذبونه يمنة ويسرة كأنما لكي يزحزحوه عما هو فيه ، وهم لا يعلمون يأخذون عنه يسيرا ، ويرهقونه من امره كثيرا .. كم يود لو تمتد اليه يد تنجيه !
يأتيه رجل مرة ، ويناديه : قد اغتبتك فهلا أحللتني؟ فيجيل فيه عينيه ، فلا يرى نأمة من ندم ، فيقول له (ما كنت لأحل شيئا حرمه الله عز وجل!). ويهولهم هذا الورع الذي لا يفارقه قط في قول ولا عمل .. فاذا رجعوا الى انفسهم ، قالوا : (ومن منا يطيق ذلك؟). بل تطيقونه ولكنكم عنه في شغل! كم مرة ذكركم : (ليكن لكم من قلوبكم واعظ يأمركم وينهاكم!). ام اغلقت القلوب على خبيئاتها فلا تمسها رعدة من وجل؟. يراهم مقبلين ، بكليتهم ، على متاع دنياهم حتى لا تبقى لأي منهم بقية من همة يقبل بها على آخرته !! يناديهم حانيا مشفقا : (اتقوا الله ، وابتغوا ما قدر لكم في الحلال فانكم ان تطلبوه من غير ذلك أثمتم ولم تصيبوا اكثر مما قدر لكم !). يتهافتون على زائل ولا يشعرون انهم مفارقوه ..يروي لهم نبأ رجلين اختصما - في الازمنة الاولى - على ارض ، فأوحى الله سبحانه اليهما ان كلميهما ، فقالت : (ايها الشقيان! تختصمان فيّ ، ولقد ملكني - مذ كنت - الف اعمى سوى الاصحاء!). وكم راعهم منه ان اشترى بضاعة ليتجر بها ، فربح فيها ثمانين الف درهم ، ثم حاك في قلبه من ربحه ذاك شيء انكره ، فتركه جميعا ! وكيف لا يفعل ، وهو يخشى ان تحدث تلك الشبهة في قلبه ندوبا لا تندمل ؟. اما قالوا فيه : (كان اذا ذكر الموت عنده مات كل عضو منه على حدة)؟
وكما حمى (محمد بن سيرين) قلبه من ان يمزقه الكبر والحرص والهوى اشلاء ، صان جوارحه عن كل سوء ، لئلا يذهب كدحها هباء .. جاءه رجل يجادله في القضاء والقدر ، فقال له : لا يسألنا الله عز وجل عن قضائه وقدره وانما يسألنا عن اعمالنا وما اردناه منها! فأصر الرجل ، فوضع ابن سيرين اصبعيه في اذنيه ، وقال : اما ان تخرج عني او ان اخرج عنك! فلما خرج الرجل ، قال لمن حوله : (لقد خشيت ان ينفث في قلبي شيئا ثم لا استطيع ان اخلصه منه!). ويكف لسانه عن كثير من القول ، ويوصي بذلك اصحابه : (لو ايقن الناس ان كلامهم يكتب عليهم لقل كلامهم!). وكان يحفظ لكل لحظة حضورها ووهجها ، فلا يبددها فيما لا ينفع ولا يبقى .. فاذا لحق به رجل ، في طريقه ومشى معه ، سأله في رفق : ألك حاجة؟. فان كانت له حاجة قضاها ، وان لم تكن تركه ومضى .. وكان اكثر دعائه : (اللهم تقبل منا احسن ما نعمل ، وتجاوز عنا في اصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون!). ولقد ابتلي في آخر عمره بدين لم يستطع قضاءه ، فحبس ، وقال له السجان : امض الى بيتك ليلا ، وامكث هنا نهارا! فأبى وقال له : لن اعينك على خيانة أمانتك ! ورضي دائنه باطلاق سراحه ، وقد حمل عنه ابنه ما عليه .. ولما خرج من سجنه ، قال لآصحابه : انما اعتراني هذا الغم بذنب اصبته منذ اربعين سنة! قالوا ، وقد ذهلوا : وما ذاك؟ فأجاب : (قلت لرجل : يا مفلس!). بلى هو ما قال (عبد الحمن الداراني) فيه وفي نظرائه . (قلّت ذنوبهم فعرفوا من اين يؤتون وكثرت ذنوبنا فلسنا ندري من اين نؤتى!) (وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والارض اعدت للمتقين . الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين).
 
امين شنار
25/9/1998
 
 
نسيم الصباح ...
 
استوصى هرم بن حيان أويسا القرني ، فأوصاه : (ابتغ رحمة الله عند طاعته ، واحذر نقمته عند معصيته ، ولا تقطع رجاءك منه في كل حال .. وادع الله ان يصلح لك قلبك ونيتك فلن تعالج شيئا اشد عليك منهما ، بينما قلبك مقبل اذا هو مدبر ، وبينما هو مدبر اذا هو مقبل ، ولا تنظر في صغر الخطيئة ولكن انظر الى عظمة من عصيت ..) وزاره يوما ، فقال له ، ما جاء بك؟ قال هرم : جئت لآنس بك .. قال أويس : (ما كنت ارى ان احدا يعرف ربه عز وجل فيأنس بغيره! الا ادلك على ما هو انفع لك من الزيارة واللقاء؟ الدعاء بظهر الغيب ، لان اللقاء قد يعرض فيه التزين والرياء). ودعا له : اللهم ارضه باليسير من الدنيا ، واجعله لما اعطيته من الشاكرين!
***
بلى . فأولئك هم صفوة العابدين ..
بايمانهم يتشيأ صدق اليقين ..
ويغدو حياة بمحض العطاء تزيد اتساعا ..
تمد خطاها الى جنة الخلد ، في كل حين ..
بها يمرع الارض خصبا وتحنو على العابرين ..
يمرون مثل نسيم الصباح سراعا .. سراعا
فلا يركنون الى زائل من متاع مهين ..
ولا يتخطفهم عن سبيل النجاة غبار السنين ..
فيهوون في قيعة من سراب .. تباعا ..
ويا لندامتهم اذ يقال : نجا المفلحون ..
وهاتيك في الارض آثارهم :
غبطة توقظ الحب في كل قلب حزين ..
فينفق خير جناه ، ويرتد بعد الاسار طليقا ،
ويزجي الى منتهاه الشراعا ..
اما كان من اجل هذا سرى الساجدين ..
وفيه انتظارهم كل تلك القرون :
لتعرف غايتها النفس طوعا ، وتدنو باعا فباعا ؟؟
والا ففيم تنادي الحياة ، صباح مساء ، بصوت جلي مبين :
الا تعبرون بي الدرب للمنتهى الرحب يا غافلين ؟
 
امين شنار
23/9/1998
 
ابواب الرجاء ...
قضى رجل من (غينيا الجديدة) ستة اسابيع في قارب صغير تتقاذفه الامواج العاتية ، أي طعام على الاطلاق .. وانقذته احدى البواخر قبل ايام ، وسألوه : كيف تمكنت من البقاء؟ فأجاب : (لم يدخل جوفي شيء قط غير قطرات من ماء المطر كانت تأتيني بين حين وآخر ، بفضل الله وكرمه) ..
***
ها هو ذا افرد في لجته ، مضيعا مسهدا ..
لم يبق منه غير لحظة مديدة .. كأنما سدى
قد افرغت من دبق الزمان ..
واعتقت من ربقة المكان ..
منبوذة .. تلوب في العراء ..
فلا تمد جيدها لمشتهى غبر ..
ولا تشده لمشتهى في البال ، ينتظر ..
لكنها تود لو تعانق الحياة ، كي تكون ..
فتهرب الحياة من طريقها ، تخاف ان تخطفها يد المنون!..
واللحظة البكماء تستجير ، ترفع اليدين في ضراعة ، الى السماء ..
لعل هذا الشجن الذي يفور من شغافها ،
يذوب في قرارة الابد !..
لعل نهر غبطة يشق عتمة الدروب ، دونما زبد!
لعل نضرة الربيع ، خالدا ، تدب في الاشياء من جديد ..
فلا تفح في عروقها انشداهة الردى ، ورعدة الجليد!
واللحظة البكماء تستجير :-
(رباه مد لي رواق رحمة ، لعل قلبي الكسير ..
يلقي عصا ترحاله على تخوم شاطئ الرجاء !)
وبغتة من حيث لا يدري بشر ..
تفتح ابواب الرضا ، ويهطل المطر !
يا قلبي المهيض ، اطلق الجناح ..
ها قد اتاك الغيث دافقا ، تسوقه الرياح ..
وذاك قارب النجاة ، آمنا ، ينفض عن اهابه ارتجافة الخطر ..
ووحشة السفر ..
يود لو يقضي الذي عليه .. هل يطيق ..
وعمره - بما ادعى من سعة وما اشتكى من ضيق -
مرتهن بقطرة حنت عليه ، باسم ربها ، من ماء ..
لو لم تجئه اطبقت عليه قبضة الشقاء ؟؟
يا ايهذا القارب الصغير
كيف اتسعت - خائفا وراجيا - للعالم الكبير ؟
ها هم - بكل بقعة من ارضهم - يدعهم اعصار ..
الى شفير هوة سحقية ، او توبة افتقار ..
فهل تشق الاعين الظماء دربها الى منابع الشروق ؟
وفطرة الرشاد في فؤاد كل غافل .. هل آن ان تفيق؟؟
امين شنار
21/9/1998
 
 
السراب .. وخفقة الينبوع
(لا تجدي الحكمة الا حيث يكون الصمت وعاء ..
والصمت هوى وتناثر اشلاء جرفتها ريح صاخبة هوجاء ..
ومضات القلب طواها الرعب فتاتا من صدأ يصطك صباح مساء
هل ثمة ، من نبأ عن نهر الغبطة : كيف توارى في الظلماء؟؟).
هل افتقد (اليوت) حقا ذلك الصمت الجليل المبارك الذي يهجس به في قصيدته (اربعاء الرماد) : الصمت الذي تفرغ به النفس من ضجة اهوائها ، وعلى اجنحته ترقى الى طريق خلاصها المنشود؟. وهذه الغربة التي تدور حولها قصائده ، وقصائد امثاله من الشعراء : أهي غربة فطرة تطهرت من زخرفها ، وفاءت الى حقيقتها؟.. ام هي غربة مصطنعة تراد لذاتها ، او ابتغاء شهرة تجلجل في الآفاق ؟. انها - على كل حال - غربة لم تفض بهم ، قط ، الى انعتاق .
بلى . لقد عرفوا لهب الدهشة يمور في الاعماق .. واتخذوا لانفسهم - زمنا ما - مكانا قصيا ، وراحوا يراقبون لعبة العيش الاجوف ، متسائلين : اين الخلاص؟.
الا تحس بدهشة (اليوت) ، في (الارض اليباب) ، وهو ينظر الى العابرين ، على جسر لندن ، في فجر يوم شتائي يكتنفه الضباب : (لم يخطر لي ببال ان الموت قد اباد كل هذه الجموع الغفيرة!) .. او وهو يتساءل : (ذلك الجثمان الذي غرسته في حديقتك في العام
الفائت : تراه يزهر هذا الذي غرسته في حديقتك في العام الفائت : تراه يزهر هذا العام؟). او وهو يرثي حضارة زمن ميت ، حتى ليكاد ينوح : (ليس ثمة الا الصخر وحده ولا حياة ، منذا يستطيع ههنا ان يقف او ان يجلس او ان ينام؟. حتى الصمت حمل عباءته ، وانسل .. ليس ، ثمة ، الا رعد عقيم يابس بلا مطر .. وفي الفضاء بروج قلبت رأسا على عقب!). أما روعتك صرخة (اوسكار وايلد) : (اموات يرقصون مع اموات ، وتراب يدور مع تراب)؟ وفجيعة (وليم بليك) مما انتهى اليه البشر : (لم يبق في حانوت القلب سوى خرق بالية وعظام!) وصيحة (عزرا باوند) : (لا شيء الآن يذبح بنظافة .. كل شيء يترك للعطن!)؟؟.
تلك دهشتهم مما حل بهم ، وقد اكتفوا بالتكنولوجيا قائدا يصنع لهم نسيج حياتهم ، ويحدد لهم ما يعيشون لأجله ، ولا يلتفتون الى سواه .. واي عيش؟ .. يقول (جفرز) : (نحن سيرنا الآلات ، وجمعناها كي تعين كل منها الاخرى على تدميرنا ، وبنينا اعظم المدن كي تكون لنا سجنا ، ولم يبق لنا من مهرب). لا شيء الا حمى (الاستهلاك) تزداد ضراوة واشتعالا في كل ارجاء العالم!.
هذا (اليوت) ينعى على الانسان المعاصر انه استبدل بالحياة مجرد العيش ، حتى غدا (يقيس ايامه بملاعق القهوة سأما) .. ويتساءل : (انى استطيع - بعد الكعك والمثلجات - تصعيد اللحظة حتى تبلغ ازمتها؟؟). تمتلئ اسواقهم بالمشتهيات ، يهرعون اليها زرافات .. أفرارا من العبثية والزمن الضائع؟ هيهات .. فقد اوصدوا على انفسهم كل الابواب فأمست مرعى للظلمات .. سحقتهم رتابة عيشهم ، اذ لا شيء لهم يتخطى بهم الموت .. فهم يجأرون بالبكاء مع شاعرهم (روبنسون) : (اذا كان كل شيء يتحول الى لا شيء ، واذا لم يكن ثمة شيء بعد الآن ، ونحن نعلم ذلك .. فلماذا نعيش اذن؟) ويئنون مع (اليوت) : (يغرزني السأم مثل الدبوس فأتلوى على الجدار .. ولا ارى الا الضباب الاسود يفرك ظهره على زجاج النوافذ .. لم اعرف شبابا ولا شيخوخة .. تراني حلمت بكليهما في قيلولة ذات ظهيرة؟).
يحاصرهم الرعب من كل جانب .. يقول احدهم لصاحبه في (الارض اليباب) : (سأريك الخوف في حفنة من تراب .. الا تسمع خلفك انسحاق العظام مع كل هبة ريح؟ الا ترى الى النهر ينضح قارا؟) وفي (البشر الجوف) : (هي ذي ارض الصبار ، ما ثم الا عيون لا اجسر على ملاقاتها حتى في الاحلام ..) وهذا الشاعر (روتيكه) يقول لصاحبه : (صدقني انني انزف كالشجرة المقطوعة ، ولا احلم الا بشيء واحد مكرور : وجبات طعامي . ولا ابصر الا ظلا اسود حيث اسير .. هل تجمع الدم المسفوك على الارض وهذا ظله؟).
كلا . بل هو انت .. وقد اطللت على نفسك في لحظة صدق هاربة من زبد الضوضاء .. او لم يأتك ذلك النداء : (لن تلقى الا ظلك ينهض لملاقاتك .. كل مساء؟).
تحيط بهم الوحشة حتى ليلتفت كل منهم حوله في كل خطوة ، في انتظار وقع اقدام صديق حقيقي لن يأتي ابدا .. ثم يسمر عينيه تحت قدميه .. حتى يقضي كمدا ..
ويستحوذ عليهم الوهن والتردد والتسويف فهم (ايماءة بغير حراك) يحدث كل منهم نفسه : (لا تخف فلم يزل امامك وقت كاف لتهيئ وجها يليق بمن تلقى!) ويتساءل مع (بروفرك) : (هل اجرؤ على تناول حبة كمثرى؟ هل اجرؤ على ان ازعج الكون؟) ويقرر مع الشاعر (وليامز) : (الناس لا يتغيرون ، انهم يقفون فحسب ، وقد انكشف عنهم الغطاء!).
***
هل بات واقعهم الراعب هذا قدرا ليس لهم منه فكاك؟.
يقول الشاعر (ادوين ميور) : (ما قادنا الى ما نحن عليه الا الحربان العالميتان اللتان دمرتا كل شيء فينا دونما مبرر على الاطلاق!). وينسى ان ذلك كان نتاجا حتميا لسعار لا يشبعه شيء ، وكان ايضا ناقوس نذير بما هو ادهى ، لم يصغ اليه احد .. فاذا الانسان تمزقه آلام انسلاخه عن فطرته ، وانقطاعه عن غاية خلفه .. ثم لا يهوله ما هو فيه ، ولا يرجو البتة خلاصا من منفاه .. ام ينتظر ان تتحقق نبوءة شاعر الارض اليباب : (هكذا ينتهي العالم .. لا بالضجيج .. ولكن تحت طوفان من نشيج)؟.
هو ذا الشاعر (هوبكنز) ينفذ الى الحقيقة كما السهم المضيء ، لا يصده كبر ، ولا يقعده متاع ، ولا يعميه عناد : (كلما تصدت لي نفسي احسست باختناق .. ان خميرتها الفاسدة لتجعل من ضياء الروح اذا اكتنفته عجينة عصية على الاستعمال ، وكذلك هم الضائعون .. سوط عذابهم ذواتهم المكدودة!). وهذا (ايلوار) يمد جيده مترقبا صيحة البشرى ( .. تلك التي يصدح بها الفجر المكمم .. تلك الشمس المتلألئة تحت قشور الحاضر الذي ادركه اليباس). وذاك (ييتس) يصرخ مستغيثا : (ادركوا البراءة فقد غرقت ..) وذلك (اليوت) ينادي في غمرة يأسه : (من لي بمخالب تشدخ قيعان البحار الصامتة؟!).
منذا يصيخ السمع اليكم تضجون بالنداء ، ولا تملكون الا الكلمات .. (والكلمة في رحم الكلمة المظلم عاجزة عن ان تقول كلمة)؟ منذا يمد اليكم يده واكثر الناس يهزون رؤوسهم قائلين : (ما جدوى ان نعرف ، ما دامت انفسنا تأبى ان تتزحزح انملة عما هي فيه ؟. ويا لصيحة (اليوت) الراعفة الما : (أي غفران يرجى بعد كل هذه المعرفة؟) . ام ينيبون الى فطرتهم نادمين؟ اليس عجيبا ان يتلفع بحيرته - وبكل الرضا - مضيع مرتاب؟ كيف وهو يعلم موقنا ان نفسه تسترقه بهواها ، وتجرعه اليتم والاسى والعذاب ؟؟.
 
== وفاته ==
امين شنار
18/9/1998
 
انتقل الى جوار ربــه في الرابعة عشر من شعبان لعام 18-9-2005.
 
الانسان والكائنات ...
 
== من كتاباته ==
جاء في تقرير صدر مؤخرا عن الصندوق العالمي لحماية الطبيعة ان ما يقرب من ثلثي غابات العالم قد تم تدميره نهائيا ، ولن يعود الى سابق عهده .. ويقول علماء البيئة ان التلوث يقضي على ملايين الاسماك في كل عام .. وكأنما الانسان ينفض يديه متعجلا من كل ما اوتي من نعمة الكائنات من حوله كي تستوي معه فيما يزعم من عبثية العيش!. ألم يأتك ذلك النبأ الذي نشرته قبل ايام صحيفة (دوتشيه) الالمانية عن عدد من المراهقين اسكروا بقرة ، عنوة ، حتى الثمالة .. ولم يكتفوا بذلك ، بل أخذوا يضخون الكحول في فمها حتى فارقت الحياة ؟؟.
***
'''اصفحي عنهم ، فقد جاؤوك من كل فجاج الارض ، عميا ..'''
'''فقدوا ذاكرة الروح ، فلا يدرون شيا ..''''''وذوى القلب فلا يشتاق للرشد ، ولا يكره غيا ..''''''ما لهم الا اصطخاب النفس تغلي ..
بهواها الفائر المحموم صبحا وعشيا ..''''''كلما نادتهم من وهدة اللذة : هيا التمسوا النبع السخيا !''''''زحفوا من كل واد خشعا - من خشية الفقد - جثيا ..
واذا هم ، بغتة ، بين يديك ..''''''واذا سعيك يرتد عليهم عجبا ، لغزا عصيا ..''''''وسؤالا فاغرا فاه : ترى تحيا لكي تعطي ؟ ام تعطي لتحيا ؟'''
'''هو ذا كل الذي تأخذه يصبح ، باسم الله ، بذلا سائغا عذبا شهيا ..'''
'''طيبا تمنحه ، في غير منّ او اذى ، زادا وسقيا ..'''
'''وهم تستنقع الفطرة فيهم قبل ان تحبو ،'''
'''انى ، بعد ، تسطيع مضيا ؟'''
'''فاذا عاشوا فلليتم .. وهل عاش امرؤ في لجة من نفسه الا شقيا ؟'''
'''نقموا منك حياة الرغد المدرار فانقضوا عليك !!'''
'''سملوا عينيك كي لا يبصروا دمعك فوارا ابيا !''''''اطفؤوا سمعك كي تبقى لهم ارضهم ليلا عقيما سرمديا !''''''فرحوا اذ نفضوا ايديهم منك ، وطابت لهم الدنيا مراحا عدميا!''''''لا وربي! سوف يبقى كل ما في الكون من شيء '''،'''عليهم شاهدا عدلا جليا ..
اترى يصحون يوما ، ويعجون الى الله منيبين بكيا ؟
كم جهول غافل قد رد بالطاعة والاخبات حيا!!
 
# [[ربيع القلب]]
''''''امين شنار'''
# [[خفقة قلب]]
16/9/1998
# [[عابر سبيل]]
# [[قطرة ماء]]
# [[مبشر بالجنه]]
# [[انه يرجو ويخاف]]
# [[مع النفس والجسد]]
# [[ويرجو رحمة ربه]]
# [[ادع لنا بالمغفرة]]
# [[ويؤثرون على انفسهم]]
# [[حتى تنفقوا مما تحبون]]
# [[ويعلمون انها الحق]]
# من منازل اليقين
# والله يحب المحسنين
# نسيم الصباح
# ابواب الرجاء
# السراب
# الانسان والكائنات