ويكيبيديا:مقالات مقترحة/ثقافة وفنون: الفرق بين النسختين

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
سليمان العيسى- شاعر الطفولة العذب
ط استرجاع تعديلات د. مفيد مسُّوح (نقاش) حتى آخر نسخة بواسطة Abanima
سطر 1:
== ثقافة وفنون ==
 
=== ثقافة ===
سليمان العيسى- شاعر الطفولة العذب - د. رياض نعسان آغا
 
لا يمكن لأحد أن يكتب عن أدب الطفولة المعاصر عند العرب، دون أن يتوقف طويلاً عند أهم ثروة أدبية قدمها شاعر الطفولة العذب سليمان العيسى، وأحسب أنه الشاعر العربي الوحيد الذي وجه جُلَّ شعره للأطفال متفرّغاً لتربيتهم والارتقاء بذائقتهم الأدبية على مدى ستين عاماً، يغني لهم ويدعونا إلى الغناء معهم، وقد حفظت الأجيال قصائد سليمان، وتربّى عليها الملايين من أبناء العروبة. ولقد كتبتُ مرّاتٍ عن سليمان، ولكن هذه المقالة أثيرة عندي، لأن صديقي سليمان العيسى أحبها ونشرها في كتاب سيرته.
***
 
 
هو شيطان شعر تحول إلى ملاك، حاملاً شعلة وهّاجة حمراء، سرعان ما تحولت إلى وردة بيضاء، يضوع منها الطيب والنّقاء، هو اليوم يتجاوز التسعين من العمر، لكن قلبه ما يزال قلب طفل ينبض بالفرح، رغم كل معاناة الشيخوخة والعجز، ما كلمته مرة حتى حين قعد، إلا كانت النكتة الطريفة مَعْبَراً للحديث معه. وهب حياته لأمته وغنّى لها أجمل أشعاره، لكنه حين وجد الكبارَ عاجزين عن تحقيق الحلم، توجّه إلى الأطفال، ليرى فيهم فرح الحياة ومجدها الحقيقي، فهم المستقبل، وهم الشباب الذي سيملأ الساحة غداً أو بعد غد، يقول سليمان: (إنهم امتدادي وامتدادك في هذه الأرض، هم النبات الذي تبحث عنه أرضنا العربية لتعود إليها دورتها الدموية التي تعطّلت ألفَ عام، وعروبتها التي جفّت ألف عام.. إنني أكتب للصغار لأسلّيهم، ربّما كانت أية لعبة أو كرة أجْدى وأنفع في هذا المجال، لكنني أنقل إليهم تجربتي الإنسانية، أنقل إليهم همومي وأحلامي).
***
لا أذكر متى عرفت سليمان العيسى، وأحسب أن كثيرين مثلي يتساءلون، أترانا عرفناه يوم ولدنا أم كان من قبلُ في الذاكرة؟ فقد كانت أشعاره ولاتزال تقدم وجبة غنية لخيال الطفولة من ثدي الشاعرية العذبة الصافية يرضعونها مع حليب الأمهات، وتلك حالة لم يحققها شاعر قبله، كما أن قصائده القومية والإنسانية للكبار كانت تهدر على كل لسان، ولقد كنت طالباً في دار المعلمين في حلب مطلع الستينيات من القرن الماضي، وكان الأستاذ سليمان يدرّس الأدب في الدار، وفي ثانوية المأمون الشهيرة، ولم أحظ بأن أدرس في صفه، وهذا ما دفعني فيما بعد إلى الحرص على تحقيق ما فاتني، فهرعت إليه أدرس على شاعريته، وأحظى بصحبته وصداقته.
كان سليمان العيسى واحداً من رواد حركة القومية العربية منذ أواسط القرن العشرين، اقترن اسمه باسم الأرسوزي وعفلق وغانم وسواهم من مؤسّسي الحركة التي سرعان ما تسلّمت الحكم في العراق وسورية، لكنه لم يقترب من الحكم يوماً لقد أمسك بالحلم، وترك لسواه الحكم، واحتفظ بالمنصب الذي لا يملك أن يمنحه إياه أحد، ولا أن يعزله منه أحد، وهو منصب الشاعر الذي يحكم القلوب، وفوجئنا بأن شاعرنا لا يختصّ نفسه بشيء من متع الحياة وقد باتت يسيرة، فكل من حكموا الشام، كانوا من تلامذته أو من تلامذتهم، وكلهم يعرضون على الشاعر ما يريد مع فيض من الحب والتقدير، لكنه لم يكن يريد شيئاً لنفسه، فقد كان الحلم الذي عاش حياته كلها يزركشه وينمّقه، هو أن يرى أمته قوية تمتلك سيادتها وإرادتها، وتعود إلى دورها الحضاري العظيم.
كان الحلم يتوهّج في مطلع الستينيات، حركات انقلابية هنا وهناك، وشعارات وأهازيج تهتف للعروبة، وبعض الناس ينشدون قصيدة سليمان الشهيرة (يا شباب العرب هيا وانطلق يا موكبي) لكن الموكب توقَّف عن السير فجأة في نكسة يونيو 67، وكانت فجيعة الشاعر الكبرى حين رأى الحلم يصير أضغاثاً.
فقد الشاعر ثقته بقدرة الكبار على تحقيق أحلام الأمة، فانصرف بإبداعه إلى من يحملون الأمل، ومن يصنعون المستقبل، إلى الطفولة التي لم تلوث، وهي تحتاج إلى ينابيع تستقي منها العقيدة والإيمان، وتعلمها الشعر بوصفه إبداع أمة، ولغة تحمل البيان، وتطرب الآذان، وتصوغ ثقافة ترسخ في الوجدان، وهكذا تحوّل سليمان، من شاعر الشعلة الحمراء، إلى حمامة بيضاء، تهدهد للصغار، وتحكي لهم قبيل النوم، عن المعري والمتنبي وأبي تمام، وتقصّ روايات السندباد.
وأول ما تلثغ به الطفولة في بلادي قصيدة عصماء لا يوجد طفل في الشام وما حولها لم يبدأ بها شدوه العذب الجميل هي (ماما ماما يا أنغاما، تملأ قلبي بندى الحب، أنت نشيدي عيدك عيدي، بسمة أمي، سر وجودي، أنا عصفور ملء الدار، قبلة ماما ضوء نهاري) أو أغنيته العذبة التي هي نموذج لأغنياته التي يُعرِّف فيها الصغار إلى قيمة العمل (عمي منصور نجار، يضحك في يده المنشار، قلت لعمي، عندي لعبة، اصنع لي بيتاً للعبة، هزّ الرأس وقال، أنا أهوى الأطفال). لقد عاد الشاعر سليمان مخلصاً لمهنة التعليم، ليبدأ الدرس من جديد مع تلامذة صغار جداً، بعضهم دون الخامسة، وأكد أن بناء الأمة يبدأ من صناع المستقبل، فانصرف إليهم وراح يعلمهم معنى الوحدة والتعاون (من زهرة واحدة، لا يُصنع الربيع) ويحكي لهم عن أصلنا العربي كيلا يظنوا أنهم بلا جذور:
(وأبعدُ نحن من عبْسٍ، ومن مُضَرٍ نَعَمْ أبعدْ
حمورابي وهاني بعْلٍ، بعضُ عطائنا الأخلدْ
لنا بلقيسُ والأهرامُ، والبرديّ والمعبدْ
ومن زيتوننا عيسى، ومن صحرائنا أحمدْ).
أليس هذا بعض ما عناه ابن المقفع حين تحدث عن السهل الممتنع؟
وأحسب أن أول أبيات حفظتها لسليمان العيسى هي تلك التي قرأتها في مجلة العربي في الستينيات، وليست لدي القصيدة الآن كي أقبس منها، وأخشى أن تخونني الذاكرة بعد عقود، لكنني أظن أنها تلك الاعتذارية العذبة التي مهّدت لها المجلة بقولها إن الشاعر سليمان العيسى كان في الكفرون على مائدة طعام وإلى جواره صبية حسناء، ودون أن ينتبه هوى كأس من يد الشاعر على ثوب الفتاة، وبدا أنها انزعجت فقال لها الشاعر معتذراً:
(لا تلوميني وْلومي القَدَحَا
أسكرتْه لفتةٌ فانْسَفَحا
قطرةٌ شاعرةٌ حنّت إلى
شاطئ السحر فطارت فرحا
فهبيها في الندامى مطرحا)
إلى آخر هذا الاعتذار الرقيق الذكي المبدع.
لقد تعرفت على سليمان العيسى عن قرب، وعرفت الكثير من أسرار إبداعه وبعضها امتلاء قلبه بالمحبة، وترفعه عن الصغائر، ولطفه ودماثته، وحسن لقائه، وبشاشة ترحيبه، وتعرفت على شيء من ذاك المخزون الثريّ العجيب مما يحفظ من طفولته شعراً ونثراً، وهو يمتح منه، فيدخله إلى مشغله الفني ليأخذ منه النكهة والسلاف، ويضيف إليه من لدنه ما تقتطفه الروح القلقة المعذبة في سراحها وهواجسها وهي تعاود الأرق، فتصوغه شعراً. ومنه تعلمت يوم كان الحوار مشتدّاً حول القصيدة القديمة والجديدة أن (الشعر هو النبض الحي وراء البيت). وهكذا ببساطة وضع سليمان يده على النار التي يتوهج منها الإبداع، وهو يقتبس منها جمرة النبضة الحية ويعاف الميتة الباردة، وقد أتيح لي أن أحاوره مرات على شاشة التليفزيون، وهو المتحدّث العذب الفياض، الذي يغرف من بحر ثقافته الواسعة، وسِرِّ جماله الصافي صدقِه وبساطتِه.
لقد أطلق سليمان العيسى هديرَ صوته حين كان الحلم مواراً شديد التوق، وكان ينعكس على لغته في مثل قوله: (هدرٌ يضجُّ بمسمعي ونداءُ، وخُطى تُجرُّ وشارعٌ وضّاءُ، ومواكبٌ ألِفَ الطريقُ ذهابَها، وإيابها والريحُ والضوضاءُ)، لكن هذا الهدير يصير سكوناً وأسى ووحشة، حين يواجه حقيقة الانكسار الذي حاق بالأمة، وحين صار الحديث عن العودة أغنية للنواح (مضت السنون وخيمتي ممدودةٌ، فوقي تقهقهُ حولها النكباءُ، اليومَ تكتسحُ البروقُ سماءَنا، وتموجُ فيها العزّةُ القعساءُ).. ويحق لشاعرنا، وهو يعيش انكسار الحلم، أن ينكر كأسه وعوده، وأن يسأل شظايا النجوم في الوتر المحموم:
(هل فيك شهقة من قصيدِ؟
بسمة؟ وردة؟
بقية طفل لم يزل
يغزلُ الرؤى بنشيدي؟
وزّعتْهُ قصائدُ الحُبِّ في الدنيا
فكان الرمادُ حبَّ الحصيدِ
يا صديقي نحن كنذا على شفة الجمر
عِطاشاً إلى رحيقِ الوجود
هل ظفرنا بقطرة؟
حسبُنا لحظة بعمر الخلود).
وسليمان العيسى شاعر مسرحي وقد كانت مسرحيته الشعرية الشهيرة (الإزار الجريح) مقررة على طلاب البكالوريا، لقد عرّفنا فيها أستاذنا (أبو معن) على ضخامة موقف كنا نمرُّ عليه مرورَ العابرين، ولا نتأمّله كما فعل الشاعر الكبير، إنه موقف جَبَلة بن الأيهم الشاعر الغساني المسيحي، حين تعرض لامتحان الولاء بين بيزنطة المسيحية وبين إسلام قومه، فاختار الوقوف مع العروبة المسلمة، وحارب العدو المحتل، إنها مسرحية هامة في أدبنا العربي لأنها تقتحم الانتماء، وينجح الولاء للعروبة في امتحان حاسم مثير.
ولو أن أبا معن أمعن في كتابة المسرح الشعري لزوّد الأدب المسرحي العربي بكنوز من الإبداع، وقد فعل ذلك فيما كتب للأطفال من مسرحيات شعرية وغنائيات، وأعتقد أنه أول شاعر عربي كبير، يقتحم عالم الطفولة الذي يهابه المبدعون، لأن الكتابة للكبار أمرٌ يحسنه الكثيرون، ولكن من ذا يملك أن يبسط اللغة، وأن يملأها لحناً طروباً ليصير نشيداً وأغنيات يرددها ملايين أطفال العرب، ومن ذا يستطيع أن يصوغ الفكرة الجليلة الصعبة العميقة فيجعلها يسيرة لطيفة يستوعبها الأطفال وهي تنسلُّ إلى اللاشعور، وتدخل في الوجدان بلا استئذان؟.
 
إنه الشاعر المتمكّن من أدواته، المجرّب في بيانه، وهو المعلم الذي مارس خطاب البسطاء من الناس حين كان يطوف القرى، ويعلم الفلاحين الأميين القراءة والكتابة، ويصوغ لهم أهازيج حب العروبة والوطن.
وسليمان العيسى شاعر يتأرجح بين مدرستين، مدرسة التجديد ومدرسة التقليد، ولكنه لم يشغل نفسه بإعلان الانتماء إلى واحدة دون الأخرى، فهذه مهمة النقّاد يرون أي المدارس خرّجته وأيها كان فيها معلماً؟ وقد خرجته مدرسة التقليد، ليصير أستاذاً في مدرسة التجديد، ولكنه لم يشتطّ على أركان القصيد، فحتى في قصائده الحديثة أو النثرية، تسمع موسيقا الشعر الطربة تتمايل راقصة بين الكلمات، وسرُّ ذاك، أن أبا معن فنانٌ طروب، لا تتوقف الموسيقا عن العزف والغناء في داخله.
وسليمان العيسى بقي وهو على عتبة التسعين من العمر يحن إلى نِدّه القديم، وهو موج البحر الهادر:
(نِدّانِ يا أمواجُ نحن
قصيدةٌ عطشى ولجٌّ ثائرٌ متمرّدُ
صُبّي على عينيَّ آخرَ قطرةٍ
في صدر عوسَجةِ المغيبِ تَردّدُ)
ولعل كثيرين لا يعرفون أن سليمان العيسى واحد من كبار الشعراء الظرفاء الساخرين، وقد أسّس مع صديقه الأديب الراحل صدقي إسماعيل جريدة (الكلب) التي نبح فيها كبار المبدعين، وتهاوشوا مع الحكومات، وعضّوا السياسات، وعضّتهم، وهذه المجلة فريدة في بابها، وقد صدرت مجموعة قبل سنين في كتاب يحمل عنوان (الكلب) وهي تؤرخ للسياسة من جانبٍ ساخرٍ ضاحكٍ ظريف.
وسليمان العيسى عضو في مجمع اللغة العربية، وقد أمضى جُلَّ عمله الوظيفي موجّهاً تربوياً عامّاً للغة العربية في وزارة التربية، وقد رافق زوجته الأديبة الدكتورة ملك ابيض في رحلتها منذ مطالع التسعينيات إلى اليمن حيث عملت أستاذة وباحثة في الجامعة وقد أحب سليمان أهل اليمن وأحبوه، وبات ديوانه الشعري عن اليمن ذروة انتاجه الأدبي.
ولا يتيح لي المجال أن أسهب في الحديث عن أستاذي وصديقي أبي معن، ولو أنه اتسع لما توقفت، ففي قلبي فيض من الحب له، ومن الوفاء لأستاذيته، ومن التقدير لمكانته السامية في ثقافتنا وفي أدبنا العربي الحديث، ومن المعرفة لقدره بوصفه رجل موقف ومبدأ، واحمد الله أن التقدم في السن، والحزن المفجع على ما آل إليه حال الأمة، لم يوقفاه عن العطاء، وقد قال:
(وتموتُ آخرُ باقةٍ مخضوبةٍ بدم النّهارِ
وأظلُّ عبر الموج لحناً كالمحيط بلا قرارِ).
 
=== النعيمي احمد ===