جعفر المقتدر بالله: الفرق بين النسختين
[نسخة منشورة] | [نسخة منشورة] |
تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
تصحيح قول بشكل ... قالب:ملاحظة اليوم/2 |
كما تعني مثلما أصلًا وليس حرف عطف وسمان: مُسترجَع تحرير مرئي |
||
سطر 13:
انشغل المُقتدر بمجالس اللَّهو والطرب والجواري في أول خلافته بدعمٍ من والدته [[شغب (جارية)|السَّيدة شغب]]، بهدف إدارة البلاد وتسيير الشؤون مع قهرماناتها والوزراء، ومع أنها شهدت فترة جيدة في أوائل حكمه إلا أن الأمور بدأت تزيد سوءًا، فقد حاول [[الدولة الصفارية|الصَّفَّاريون]] استغلال الأحداث والسيطرة على [[فارس (محافظة)|فارس]]، وثارت [[أذربيجان (إيران)|أذربيجان]] في وجه الخلافة بقيادة سُبُك غلام ابن أبي السَّاج، وتمرَّد [[الحسين بن حمدان التغلبي|الحُسين بن حمدان]] في [[الجزيرة الفراتية|الجزيرة]]. ولعلَّ أخطر الاضطرابات التي أثَّرت على الدولة واستنزفتها على المدى البعيد، هو ظهور [[قرامطة|القرامطة]] في [[إقليم البحرين|بلاد البحرين]]، وهم من الشيعة [[إسماعيلية|الإسماعيليين]]، [[الغزو القرمطي للعراق|فهجموا على جنوب العراق]]، [[هجوم البصرة (923)|ونهبوا البصرة]]، ودمروا [[الكوفة]]، وقتلوا [[الغارة القرمطية على قافلة الحجاج (924)|الحُجَّاج]]، ولعلَّ أخطر ما قاموا به هو [[هجوم مكة (930)|هجومهم على مكَّة]] واقتلاع [[الحجر الأسود]] من مكانه إلى عاصمتهم هجر، حتى أعادوه بعد 22 عامًا. أثارت هذه الأحداث أنظار [[الإمبراطورية البيزنطية|الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة]] حينها، فقد شد انتباهها الضَّعف الذي سرى في جسد الخلافة وصراعاتها الدَّاخلية، فأغاروا على [[ملطية]] مرارًا، واستولوا على [[أرضروم|أرض الرُّوم]] وأخرجوا المُسلمين من [[إمارة أرمينية|أرمينية]].
ومن الأحداث التي أنذرت بتغيُّر موازين القوى، هو ظهور [[الدولة الفاطمية|الدَّولة الفاطميَّة]] الشيعيَّة الإسماعيليَّة في بلاد [[إفريقية]]، والتي أعلن داعيها [[أبو عبد الله الشيعي]] بدء خلافة [[عبيد الله المهدي|عُبيد الله المهدي]] العلوي، وعلى الرُّغم من الجدال الذي دار حول نسبه إلى [[العلويون (قبيلة)|العلويين]]، فقد تمكن الفاطميون أساسًا مُعتمدين على [[كتامة (قبيلة)|قبيلة كتامة]] البربريَّة، من الاستيلاء على كامل إفريقية وما جاورها، فأنهوا إمارة [[الدولة الأغلبية|الأغالبة]] الذين خطبوا باسم الخليفة العبَّاسي بعد أن حكموا لنحو قرنٍ من
وعلى الرُّغم من كل تلك الأحداث العصيبة المُتلاحقة، فإنها قد ساهمت في تحريك القيادة العبَّاسيَّة للتدخُّل، وبدأ المُقتدر مع والدته ووزرائه في محاولة إيقاف هذه الهجمات أو إخمادها، فعُيِّنَ مؤنس الخادم قائدًا للجيش وأجرت الدولة عددًا من الإصلاحات والسياسات،
عين المُقتدر العديد من الوزراء خلال مدة حكمه، لتلمع أسماء منهم، مثل [[علي بن محمد بن فرات|ابن الفُرات]]، و[[علي بن عيسى بن الجراح|ابن الجرَّاح]]، والذين عملوا على تحسين أمور البلاد خلال وزارتهم لعدد من المرات، إلا أنهم تعرَّضوا للقبض بتهم كثيرة وغالبًا ما كانت بتحريض من السَّيدة شغب وقهرماناتها المُتنفذات، بهدف تعيين وزراء بالرَّشاوي، مثل أبُو علي الخاقاني و<nowiki/>[[حامد بن العباس|حامد بن العبَّاس]]، وغيرهم، إلا أن الدَّولة أُصيبت بعجز مالي كبير نتيجة سوء إدارتهم وفسادهم، إضافةً لما تكلَّفته الدولة من تمويل الحروب والمعارك المستمرة، ومُتطلبات الجُند والخدم والحشم المُتزايدة، ما أدى لارتفاع الأسعار واضطراب الأوضاع بحلول السنوات الأخيرة من حكم المقتدر، وكان مصير هؤلاء الوزراء القبض عليهم كسابقيهم.
سطر 47:
تولَّى [[أحمد المعتمد على الله|المُعتمد على الله]] الخلافة بعد المُهتدي، إلا أنه لم يكُن له من الخلافة إلا اسمها، فقد كان أخوه [[الموفق بالله|أبُو أحمد طلحة بن المُتوكِّل]] والمعرُوف باسم المُوفَّق بالله (جد المُقتدر)، قائدًا للجيش والأقاليم العبَّاسيَّة، ففرض السُّلطة، وتمكن من احتواء الأتراك الذين أثاروا الاضطراب طوال عشرة أعوام، وأنهى [[ثورة الزنج|ثورة الزَّنج]] الخطيرة بعد 14 عامًا على انتفاضتها الدمويَّة، وأوقف تمدُّد [[الدولة الصفارية|الصَّفاريين]] نحو العاصمة [[بغداد]] حين كبَّدهم هزيمة كبيرة في [[معركة دير العاقول]] 262هـ / 876م، فانتعشت أحوال الخلافة، واستأنفت نهضتها في عهد المُعتمد بفضل أخيه المُوفَّق بالله وجهود الخلفاء السَّابقين الذين ذهبوا ضحيَّة [[فوضى سامراء|الفوضى]].<ref>{{استشهاد مختصر|الخضري|2003|ص=278}}</ref><ref>{{استشهاد مختصر|ذياب|2003|ص=4-5}}</ref> وعلى الرُّغم من أن المُوفَّق بالله لم يتولَّ الخلافة، إلا أن ابنه [[أحمد المعتضد بالله]] تولَّى الخلافة بعد عمِّه المُعتمد في سنة 279هـ / 902م، فاستمرَّت البلاد في تحقيق الاستقرار ونشر الأمان في عهده حتى توفي في 289هـ / 902 م بعد أن أوصى لابنه [[علي المكتفي بالله|علي المُكتفي بالله]].<ref>{{استشهاد مختصر|الخضري|2003|ص=303-306}}</ref>
كان عهد [[علي المكتفي بالله|المكتفي بالله]] أكثر مرونة ولينًا من والده، فقد كان محبوبًا لسماحته ورفقه، فهدم سجون المُعتضد واستبدلها بالمساجد، وابتلي بعدد كبير من الأعداء الذين واجههم بكل عزيمة،<ref>{{استشهاد مختصر|ذياب|2003|ص=29}}</ref>
=== ترشيحه للخلافة ووفاة المُكتفي ===
[[ملف:Dinar_of_al-Muktafi,_AH_292.jpg|تصغير|269x269px|<span data-darkreader-inline-color="">دينارٌ ذهبيٌ عبَّاسي صُك باسم الخليفة علي المُكتفي بالله في سنة 292هـ / 905م.</span>]]
<span data-darkreader-inline-color="">حينما ظهر المرض على الخليفة </span>[[علي المكتفي بالله|المُكتفي بالله]]<span data-darkreader-inline-color="">، وثقل عليه ذلك، بدأ الوزير العبَّاس بن الحسن يُفكر بمن يصلح للخلافة من </span>[[بنو العباس|بني العبَّاس]]<span data-darkreader-inline-color="">، وذلك لصغر جميع أبناء المُكتفي، فرأى أن يستشير كُتاب الدواوين، ومنهم </span>[[محمد بن داود بن الجراح|مُحمَّد بن داوُد بن الجرَّاح]]<span data-darkreader-inline-color="">، و</span>[[علي بن عيسى بن الجراح|عليُّ بن عيسى بن الجرَّاح]] <span data-darkreader-inline-color="">(وهُما أبناء عُموم)، و</span>[[علي بن محمد بن فرات|عليُّ بن مُحمَّد بن الفُرات]] <span data-darkreader-inline-color="">والمعرُوف أكثر باسم ابن الفُرات، وطلب منهم أن يعرضوا عليه من هم أهل للخلافة، فاقترح ابن داوُد اسم </span>[[عبد الله بن المعتز|عبد الله بن المعتز بالله]]<span data-darkreader-inline-color="">، وكان مشهورًا برجاحة العقل والأدب والرَّأي، ووافقه في ذلك ابن عمه،
== خلافته ==
سطر 59:
بعد أن اتَّفق المسؤولون المُتنفذون بقيادة الوزير [[العباس بن الحسن|العبَّاس بن الحسن]] على اختيار الأمير الفتى جعفر خلفًا لأخيه [[علي المكتفي بالله|علي المُكتفي بالله]]، بُويع جعفر بن [[أحمد المعتضد بالله|أحمد المُعتضد بالله]] خليفةً وأميرًا للمُؤمنين في 13 ذي القعدة سنة 295هـ / 13 أغسطس 908م، ولُقِّب '''المُقتدر بالله''' وكان عمره آنذاك ثلاثة عشرة سنة وشهراً واحداً وواحد وعشرين يومًا، ليكون أصغر من تولَّى الخلافة في التَّاريخ.<ref name=":57" /><ref>{{استشهاد مختصر|المسعودي|1893|ص=376}}</ref> وبخلاف رغبة المسؤولين الإداريين، فقد كان الجيش نفسه يميل لاختيار المُقتدر، فقد حرص المُعتضد والمُكتفي في خلافتهما على أن يكون قائد الجيش تحت السَّيطرة الكاملة لهما، وكانت ذرية المُعتضد من أكثر العوائل تأثيرًا ونفوذًا داخل الأسرة العبَّاسيَّة بحلول ذلك الوقت، فاستمدَّت العائلة المُعتضديَّة قُوتها من الغُلمان الداريَّة الذين وصل عددهم نحو عشرين ألفًا في عهد المُكتفي، وكانوا حريصين كُل الحرص على مُلازمة [[دار الخلافة العباسية|دار الخلافة]] وحماية الخليفة، بالإضافة إلى المماليك الحجريَّة والرجالة المصافيَّة.<ref>{{استشهاد مختصر|سعيد|1979|ص=107-110}}</ref><ref>{{استشهاد مختصر|القضاوه|2000|ص=21}}</ref> استهلَّ المُقتدر حُكمه بإطلاق يد الوزير [[العباس بن الحسن|العبَّاس بن الحسن]] على [[بيت المال]] لتوزيع [[بيعة|حق البيعة]] حسب عادة الخُلفاء الجارية، وكان بها مبلغًا كبيرًا يُقدر بخمسة عشر مليون دينار، صرف منها ثلاثة ملايين دينار في حق البيعة إلى عوام الناس والجند.<ref>{{استشهاد مختصر|القضاوه|2000|ص=20}}</ref>
لم يستحسن الوزير خلافة المُقتدر بهذا السن، وكان مُضطرًا لقبول رأي أصحاب النُّفوذ، فبدأ يستصغر من شأنه وعُمره،
=== خلع المُقتدر الأوَّل وبيعة ابن المُعتز للخلافة ===
سطر 74:
==== عودة المُقتدر للخلافة وضبط الأوضاع ====
أعاد المُقتدر ضبط الأوضاع بنفسه وباستشارة المُقربين منه بعد هروب ابن المُعتز، فسلَّم إدارة الشُّرطة لمُؤنس الخازن لولائه يوم الإنقلاب،
=== ثورات أكراد الجزيرة ===
سطر 90:
==== حيلة مُؤنس واستعادة فارس ====
[[ملف:Darab_by_Eugène_Flandin.jpg|تصغير|250x250بك|رسمة تظهر إحدى مدن ولاية [[فارس (محافظة)|فارس]]، بريشة يوجين فلاندين (1840).]]
ومع تحقيق الانتصار العبَّاسي على اللَّيث الصَّفَّاري، لم يكُن مُؤنسًا معجبًا بسُبكرى لسببٍ ما، فاحتال على سُبكرى وأقنعه بالخروج إلى [[شيراز]]. علم الخليفة المُقتدر ووزيره [[علي بن محمد بن فرات|ابن الفُرات]] بذلك، فكتب الأخير إلى مُؤنس يأمره بضرورة القبض على سُبكرى لخروجه دون حجة، وأن يحمله مع اللَّيث إلى [[بغداد]]. طلب سُبكرى من مُؤنس خلال رسالته، أن يتوسَّط لحاله مع الخليفة، ووعده بإرسال الأموال إليه، فلم يكترث له، أدرك ابن الفُرات أن هنالك حيلة يقوم بها مُؤنس،
=== تمرُّد الحُسين بن حمدان التَّغلُبي ===
سطر 102:
كان [[يوسف بن أبي الساج|يُوسف بن أبي السَّاج]] واليًا على [[أذربيجان (إيران)|أذربيجان]] و[[إمارة أرمينية|أرمينية]] منذ وزارة [[علي بن محمد بن فرات|ابن الفُرات]] الأولى، وكان مُلزمًا كغيره من الولاة بتأدية الخراج إلى ديوان الخلافة، فلما عُزل ابن الفُرات ومن بعده الخاقاني ومن ثم [[علي بن عيسى بن الجراح|ابن الجرَّاح]]، بدأ ابن أبي السَّاج بتأخير تأدية المال، ثم رأى نفسه قويًا في إمارته، فامتنع كليًا عن الدفع للخلافة في سنة 304هـ / 916م، وبسبب ذلك، دارت العديد من المواقف والرسائل بين الطرفين، والتي انتهت بإرسال المُقتدر، القائد [[مؤنس الخادم|مُؤنس الخادم]] لحرب ابن أبي السَّاج، فتمكن من الظفر به في مُحرَّم سنة 307هـ / يونيو 919م، وأسره وجاء به إلى [[بغداد]] مُشهَّرًا على جمل، وأدخل إلى الخليفة وحُبس في داره عند القهرمانة المُتنفذة [[زيدان القهرمانة|زيدان]].<ref>{{استشهاد مختصر|ابن الأثير|2005|ص=1135-1136}}</ref>
<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">بعد أن عاد مُؤنس من أذربيجان إلى العراق، انتفض سُبُك غُلام ابن أبي السَّاج مع أنصاره انتقامًا لما جرى لسيده، فسيطر على كامل بلاد أذربيجان في ثورة كبيرة، وحينها، أُرسل إليه القائد مُحمَّد بن عبيد الله الفارقي لمُحاربته، إلا أن الفارقي انهزم وعاد إلى بغداد. كتب سُبُك إلى الخليفة يسأله أن يُوليه على أذربيجان، فأجابه لكنه اشترط عليه أن يدفع 220 ألف دينار سنويًا، إلا أنه لم يعمل بذلك. لم يدم حبس ابن أبي السَّاج في بغداد، فقد شفَّع فيه مُؤنس لدى الخليفة في سنة 310هـ / 922م،
=== اضطِّراب الأوضاع وظهور المصائب ===
سطر 110:
اضطَّربت أحوال الخلافة وكثر التولية والعزل فيها، فضلًا عن تعدد مراكز القوى وازدياد نفوذها في بلاط الخليفة، الأمر الذي أدى لانعكاس هذا الوضع على عامَّة الناس، وبدأ الاستياء والسَّخط والإشاعات تنتشر بينهم حتى وصلت إلى حد خطير يؤثر على الخلافة نفسها، وأول ذلك حين وقعت فتنة في يوم 12 ذي الحجَّة سنة 296هـ / 2 سبتمبر 909م، وذلك بين القائد نجح بن جاخ، وبين الأجناد في [[منى]] الواقعة في [[مكة|مكَّة]]، بعد أن طالبوا بجائزة بيعة الخليفة المُقتدر وتمردوا، فقُتل منهم جماعة، وهرب الناس إلى بستان ابن عامر، وأصاب الحجَّاج في عودهم عطشٌ عظيم ومات منهم جماعة.<ref name=":2" /><ref name="مولد تلقائيا15">{{استشهاد مختصر|إلهامي|2013|ص=187}}</ref> وظهرت جماعة في [[بغداد]] ادَّعت الرُّبوبيَّة في حق رجل يدعى محمد بن بشر، فأخذوا وقتلوا في شوَّال سنة 298هـ / يونيو 911م.<ref name=":27" /><ref name=":60">{{استشهاد مختصر|ابن الجوزي|1995|ج=13|ص=106}}</ref><ref name=":32">{{استشهاد مختصر|ابن كثير|2004|ص=1680}}</ref> ويروي المُؤرخون ظهور حيوان غريب، يُقال له الزَّبزب في صيف سنة 304هـ / أوائل 916م، فكان يطوف الليل ويأكل الأطفال من الأسرَّة ويعدو على النيَّام، وربما قطع يد الرجل وهو نائم، وبات الناس يتحارسون طوال الليل، ويتزاعقون ويضربون الطسوت والهواوين والصواني لإصدار الأصوات القويَّة فوق أسطح ديارهم، بهدف إفزاع الحيوان وإرعابه، فكانت بغداد ترتج من شرقها وغربها من مسألة هذا الحيوان، واغتنمت اللُّصوص هذه الشوشة وكثر النَّهب في تلك الفترة، فأمر الخليفة المُقتدر بأن يُؤخذ حيوان من كلاب الماء ليُصلب على الجسر ليهدئ من الرُّعب الذي اجتاح أهالي بغداد، فاطمأن الأهالي واستراحوا من همه، بل وتبين لبعضهم أنه لا حقيقة لما توهموه، وعادوا إلى حياتهم.<ref>{{استشهاد مختصر|ابن الجوزي|1995|ج=13|ص=167}}</ref><ref>{{استشهاد مختصر|ابن كثير|2004|ص=1686}}</ref>[[ملف:View of River Street, Mosul, 1916-1919.jpg|تصغير|صورة لشارع في مدينة [[الموصل]]، والتي شهدت أحداثًا أهليَّة عصيبة وأوقاتًا دامية في خلافة المُقتدر بالله. (1916-1919)|يمين]]وفي جنوب العراق، انفجر الوضع بين أهل [[البصرة]] وواليها الحسن بن خليل الفرغاني أكثر من مرة ثم ما تلبث أن تهدأ، حتى حلول عام 305هـ / 917م، فقد تعاظمت الفتنة وتوجَّه أهالي المدينة لحصار الحسن بن خليل ومعه كل الجنود، فقطعوا القناة المائية التي تغذي الناحية التي يقيمون فيها، وأحرق الجامع، وكانوا يقتلون كل جندي يرونه، ورغم أن الحسن قاد مجموعة من عساكره لإخماد هذه الثورة وقتل أعداداً كثيرة من المتمردين، إلا أنه عجز عن تهدئتهم واضطَّر للخروج من المدينة بعد أن عزله الخليفة المُقتدر.<ref>{{استشهاد مختصر|ابن الجوزي|1995|ج=13|ص=176}}</ref><ref>{{استشهاد مختصر|إلهامي|2013|ص=187-188}}</ref> شاع موت الخليفة المُقتدر بالله في سنة 306هـ/ 918م، فشغبت العامَّة في [[بغداد]]، حتى قرر المُقتدر الخروج في موكب عظيم، فوقف طويلًا ليراه الناس، ثم ركب إلى الشَّمَّاسيَّة وعاد إلى [[دار الخلافة العباسية|دار الخلافة]] في دجلة وهدأت الفتنة.<ref name=":21" />
ثارت فتنة بين أهل بغداد و<nowiki/>[[حنابلة|الحنابلة]] في نفس السنة المذكورة سابقًا، حتى أمر المُقتدر بحبس جماعة منهم في البصرة.<ref name=":422">{{استشهاد مختصر|ابن الأثير|2005|ص=1138}}</ref> ثم تجددت الفتنة بين الحنابلة بقيادة أصحاب [[أبو بكر المروذي|أبو بكر المروذي الحنبلي]] وبين غيرهم من العامَّة في سنة 317هـ / 929م ودخل فيها كثير من الجند بسبب خلاف حول آية، فوقع العديد من الناس قتلى.<ref>{{استشهاد مختصر|ابن الأثير|2005|ص=1162}}</ref><ref name=":37">{{استشهاد مختصر|إلهامي|2013|ص=189}}</ref>
ولعلَّ أبرز ما ذُكر، هو ظهور فتنة كبيرة في مدينة [[الموصل]] بين أصحاب المطاعم والأساكفة سنة 307هـ / 919 أو 920م، فقد وقعت اشتباكات دامية أدت لاحتراق سوق الأساكفة، وكان الوالي خارجًا، فلما أراد العودة لم يتمكن من دخولها، وعزم أهالي الموصل على قتاله، فحصنوا البلد وسدوا الدروب، فاستعمل مرتزقة من الأعراب وأمرهم بتخريب ما بنوه، إلا أن الأمور ازدادت سوءًا، فارتكبوا النَّهب والسَّلب وقطعوا الطرق، وحين وصل الخبر إلى المُقتدر، أمر بعزله واستبدله في سنة 308هـ / 920م، واستعمل من بعده عبد الله بن محمد الفتان، وكان عفيفًا صارمًا، فمنع الأعراب وكفهم عن التخريب. تكرَّر نفس الحادث بعد عشرة أعوام، في مُحرَّم سنة 317هـ / مارس 929م، واندلعت الاشتباكات بين أصحاب المطاعم من ناحية، وبين المُربِّعة والبزَّازين من ناحية أخرى لينضم لهم الأساكفة، فاقتتلوا حتى كانت محرقة كبيرة في الأسواق ومقتلة بين الناس، ولم يتمكن الوالي آنذاك الحسن بن عبد الله الحمداني من تهدئة الفتنة، حتى تدخل العُلماء وأهل الدين وسكنت الفتنة أخيرًا.<ref>{{استشهاد مختصر|إلهامي|2013|ص=188-189}}</ref>
سطر 116:
==== الأحداث الجويَّة السيئة وانتشار الأوبئة ====
[[ملف:Hospital de apestados por Francisco de Goya.jpg|تصغير|267x267بك|لوحة فنيَّة تُصوِّر حلول [[طاعون|الطَّاعون]] قديمًا وانتشاره القاتل، بريشة [[فرانثيسكو غويا|فرانثيسكو دي غويا]]. (1808 أو 1810)]]
في صيف سنة 299هـ / منتصف 912م، هبَّت رياحٌ حارَّة صفراء شديدة في [[حديثة الموصل]]، فمات من شدة حرها خلقٌ من الناس.<ref name=":27" /><ref name=":60" /> ووقع طاعون في [[فارس (محافظة)|فارس]] في نفس السنة المذكورة سابقًا، أدى لمقتل سبعة آلاف إنسان.<ref name=":32" /> وفي سنة 300هـ / 913م، بدأت الأمراض والأوبئة تظهر في [[بغداد]]، وظهرت الكلاب الشرسة والذئاب في البادية، فكانت تقصد الناس والبهائم في النهار، وتسببت في قتل العديد من الناس،
=== ظهور القرامطة والإسماعيليين ===
سطر 129:
{{مفصلة|الغارة القرمطية على قافلة الحجاج (924)}}
[[ملف:Qarmatian_Republic-ar.png|يمين|تصغير|<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">خريطة تبين مناطق نفوذ [[قرامطة|القرامطة]] وهجماتهم، وتظهر أقصى توسُّع لهم في الجزيرة العربيَّة و[[سواد العراق|جنوب العراق]].</span>]]
<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">في أيام ذو الحجَّة سنة 311هـ / مارس 924م، </span>شنَّ القرامطة الذين يبلغ عددهم 800 مُقاتل بقيادة [[أبو طاهر الجنابي]]، [[الغارة القرمطية على قافلة الحجاج (924)|هجومًا على قافلة للحُجَّاج]] <span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">كانت في طريق عودتها من مكَّة نحو </span>[[سواد العراق|العراق]]<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">، وكانت متوقفة للاستراحة في منطقة الهبير، فقُتل العديد من أهالي بغداد الحجَّاج، وأسر أشخاص بارزون ومنهم أبُو الهيجاء بن حمدان وعمُّ والدة المُقتدر أحمد بن بدر،
<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">وحينما وردت الأنباء بنية القرامطة التوجه نحو مدينة </span>[[الكوفة]]<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">، أمر الخليفة المُقتدر، قائده مُحمَّد بن ياقوت للخروج على رأس </span>[[الجيش العباسي|جيشٍ كثيف]] <span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">ومعه ولداه المُظفَّر ومُحمَّد، وحينما ورد ذلك الخبر على القرامطة، عادوا من حيث أتوا، فقد كان أسلوبهم العسكري يقوم على مبدأ الهجوم السريع دون الاصطدام بقوات نظاميَّة غالبًا.</span><ref name=":24" /><ref name=":26">{{استشهاد مختصر|ابن الأثير|2005|ص=1146}}</ref><ref name=":35">{{استشهاد مختصر|خليفة|1931|ص=193}}</ref> قرر أبو طاهر التقرُّب من الخليفة بإطلاق سراح من عنده من أسرى الحُجَّاج، وطلب من الخليفة تقليده ولاية البصرة و[[الأهواز]]، فلم يجبه المُقتدر لطلبه بسبب بشاعة سيرته وفساد مذهبه، فسار القرامطة من عاصمتهم هجر نحو [[الكوفة]] في سنة 312هـ / 925م، وتغلبوا على الحامية العبَّاسيَّة والمُكونة من ألف مُقاتل من [[بنو شيبان|بني شيبان]] بقيادة واليها جعفر بن ورقاء الشيباني. أقام القرامطة ستة أيام في الكوفة وحملوا من الأموال والثياب وغيره وعادوا إلى هجر.<ref>{{استشهاد مختصر|ابن كثير|2004|ص=1698}}</ref><ref name=":35" /><ref>{{استشهاد مختصر|ابن الأثير|2005|ص=1148}}</ref>
كرر القرامطة نيتهم الهجوم على الكوفة، فزحفوا نحوها في أواخر رمضان سنة 315هـ / منتصف نوفمبر 927م، وسرعان ما أمر الخليفة المُقتدر، [[يوسف بن أبي الساج|يُوسف بن أبي السَّاج]] بالتوجه إليها لحمايتها، وعلى الرُّغم من قلة عدد القرامطة، إلا أنهم تمكنوا من هزيمة الجيش العبَّاسي وأسر ابن أبي السَّاج ليُعدم في مُعسكر أبُو طاهر. دارت معركة في سور مدينة [[هيت]] بعد أن سيَّر الخليفة جيشًا نحوها، ليحقق العبَّاسيين أول انتصارٍ لهم على القرامطة، ما أوقف هجماتهم جنوب العراق بعض الشيء، ومع ذلك، حزن المُقتدر لمقتل ابن أبي السَّاج والجُند الذين معه.<ref name=":35" /><ref>{{استشهاد مختصر|ابن الأثير|2005|ص=1151-1152}}</ref> <span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">استمر القرامطة بالإغارة على قوافل </span>[[الحج في الإسلام|الحُجَّاج]] <span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">ونهبهم بين الفترة والثانية،</span><ref>{{استشهاد مختصر|ابن الأثير|2005|ص=1149}}</ref> <span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">
==== مذبحة مكة واقتلاع الحجر الأسود ====
{{مفصلة|هجوم مكة (930)}}
[[ملف:المكة_المكرمة.jpg|تصغير|<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">صورة مُعاصرة تُظهر [[الكعبة]] حيث يحجُّ إليها [[مسلم|المُسلمون]] من أنحاء العالم.</span>|270x270بك]]
<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">بعد توقُّف هجمات القرامطة في [[سواد العراق|جنوب العراق]]، لم تثنى عزيمتهم في القيام بهجمات أخرى والإغارة على قوافل الحُجَّاج بين الفترة والأخرى، إلا أن أكبر الهجمات التي سجَّلها التاريخ، ما حصل في المدينة الإسلاميَّة المُقدَّسة، </span>[[مكة|مكَّة المُكرَّمة]]<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">، والتي ظهرت الشائعات بين الفترة والأخرى عن نيَّة </span>[[أبو طاهر الجنابي|أبُو طاهر الجنابي]] <span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">التوجه نحو المدينة ومهاجمتها، ما جعل أهلها يرسلون نساؤهم وأموالهم إلى مدن أخرى مثل </span>[[الطائف]]، وذلك <span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">خوفًا من أنباء قدومه</span><span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">.<ref name=":1" /></span><ref name="مولد تلقائيا5">{{استشهاد مختصر|ابن الأثير|2005|ص=1151}}</ref> بعد فترة الخلع الثانية للمُقتدر من قبل [[مؤنس الخادم|مُؤنس المُظفَّر]] وعودته، انتهز القرامطة لحظات الضعف والاضطراب في دار الخلافة، مُتوجهين نحو مكَّة بقيادة أبُو طاهر، ووصلوا إليها في [[يوم التروية]] الثَّامن من ذي الحجَّة سنة 317هـ / 11 يناير 930م،<ref name=":63">{{استشهاد مختصر|ابن الجوزي|1995|ج=13|ص=281-282}}</ref> وقيل في السَّابع من ذي الحجَّة،<ref name=":64">{{استشهاد مختصر|الذهبي|1996|ج=15|ص=320-321}}</ref> فدخلوا الحرم وعملوا السيف على الحُجَّاج وقتلوهم في ساحة [[المسجد الحرام|الحرم المكي]] وفي [[الكعبة]] نفسها، واقتلعوا بابها وخلعوا كسوتها،
لم يكتفي القرامطة بما فعلوا، بل اقتلعوا [[الحجر الأسود]] من مكانه وأخذوه معهم إلى عاصمتهم هجر، في خطوةٍ أثارت ضجَّة وحُزنًا في العالم الإسلامي،<ref name=":65" /><ref name="مولد تلقائيا6" /> فقد ساءت صورة القرامطة في العالم الإسلامي بعد هجماتهم الأخيرة، ويُعلق الباحث المصري محمد إلهامي على صدمة الحدث ومخرجاته قائلًا: {{اقتباس مضمن|ولا شك أن حدثًا كهذا اهتز له عالم الإسلام كله، بل تزلزل من أجله، وافتضح أمر القرامطة لمن بقي في نفسه ذرة من بصر أو عقل، فعلم القاصي والداني أنهم على غير ملة الإسلام وأنهم خارجون عنها بالكليَّة}}.<ref>{{استشهاد مختصر|إلهامي|2013|ص=220}}</ref> ويُعلِّق الشيخ والمُؤرخ المصري [[محمد الخضري بك]] قائلًا: {{اقتباس مضمن|ولم يحصل في التاريخ أن انتهكت حرمة هذا البيت إلى هذا الحد}}.<ref name="مولد تلقائيا6" /> حينما بلغت أحداث مجزرة مكة أوَّل الخُلفاء الفاطميين [[عبيد الله المهدي]] حاكم [[إفريقية|إفريقيَّة]]، كتب إلى أبُو طاهر يلومه ويلعنه ويتهمه بإلصاق تهمة الكفر والإلحاد على [[إسماعيلية|الدَّعوة]] وهدده بالتبرُّؤ منه إن لم يعيد الحجر الأسود وكسوة الكعبة، فردَّ أبو طاهر بعض الأموال إلى أهل مكة إلا أنه ماطل في رد الحجر الأسود ولم يعيده، واعتذر بأن كسوة الكعبة وأموال الحُجَّاج قد تفرَّقت بين الناس ولا يستطيع ردها.<ref>{{استشهاد مختصر|إلهامي|2013|ص=220-221}}</ref> وكانت الهجمة على مكة هي ختام هجماتهم ضد الحجَّاج أو مكة.<ref>{{استشهاد مختصر|إلهامي|2013|ص=221-222}}</ref> أعاد القرامطة الحجر الأسود بعد نحو اثنين وعشرين سنة من أخذه، وتحديدًا في زمن [[الدولة البويهية#دُخُول البُويهيين إلى بغداد وسيطرتهم على العراق|السَّيطرة البُويهيَّة على الخلافة العبَّاسيَّة]]، في عهد الخليفة [[فضل المطيع لله|الفضل المُطيع بن جعفر المُقتدر]] سنة 339هـ / 950م.<ref>{{استشهاد مختصر|الدشراوي|1994|ص=230-231}}</ref><ref name="مولد تلقائيا6">{{استشهاد مختصر|الخضري|2003|ص=331}}</ref>
سطر 146:
تزامنًا مع هجمات [[قرامطة|القرامطة]] الإسماعيليين على جنوب العراق، ظهرت جماعات إسماعيليَّة تدريجيًا في [[سواد العراق|أرض السَّواد]] وما جاورها، ففي صفر سنة 310هـ / يونيو 922م، بلغ الخليفة المُقتدر أن جماعة من [[رافضة|الرَّافضة]] يجتمعون في [[جامع براثا|مسجد براثا]] في بغداد، ينالون من [[الصحابة|الصَّحابة]] ولا يصلُّون الجُمعة ويكاتبون [[قرامطة|القرامطة]]، وحين دخلت الشُّرطة إلى المسجد وجدوا ثلاثين شخصًا يصلُّون وقت الجمعة، ويعلنون البراءة ممن يتخلَّف عن بيعة المُقتدر، فلم يصدقوهم وقُبض عليهم، وبعد تفتيشهم، وجدوا معهم خواتيم من طينٍ أبيض عليها {{اقتباس مضمن|محمد بن إسماعيل الإمام المهدي ولي الله}}، فحبسوهم، وتمكن الوزير الخاقاني من الحصول على فتوى جماعة من الفُقهاء لهدم مسجد براثا بدعوى أنه مسجد ضرار وكفر وتفريق بين المُؤمنين، وأنه إن لم يُهدم سيبقى مأوى للدُّعاة والقرامطة الإسماعيليين، فأمر المُقتدر بهدمه وهدمه نازوك صاحب الشُّرطة.<ref>{{استشهاد مختصر|ابن الجوزي|1995|ج=13|ص=247-248}}</ref>
وفي مدينة [[الكوفة]] سنة 316هـ / 928م ظهرت خلايا شيعيَّة إسماعيليَّة نائمة كانت تكتم حالها وشأنها، فاجتمع أكثر من عشرة آلاف رجل فيها تحت قيادة حريث بن مسعود،
=== ظهور الحُسين بن منصُور الحلَّاج ===
سطر 152:
==== خلفيته ونشأته ====
[[ملف:A_Sufi_in_Ecstasy_in_a_Landscape_LACMA_M.73.5.582.jpg|تصغير|رسمٌ لرجل صوفي يتأمَّل في الحياة والكون. تأثَّر الحلَّاج [[صوفية|بالأفكار الصُّوفيَّة]] وكان له طريقته الخاصَّة في فهم الأمور.]]
ولد أبُو مُغيث [[الحسين بن منصور الحلاج|الحُسين بن منصُور الحلَّاج]] في إحدى بلدات كورة [[إصطخر]] من ولاية [[فارس (محافظة)|فارس]] في مطلع عام 244هـ / 858م، وكان جده [[الزرادشتية|مجوسيًا]] من أصلٍ [[فرس (قوم)|فارسي]]، ويُقال أنه من ذرية [[أبو أيوب الأنصاري]].<ref>{{استشهاد مختصر|ابن الجوزي|1995|ج=13|ص=201}}</ref><ref>{{استشهاد مختصر|سرور|2014|ص=30-31}}</ref> كان والده يعمل في النَّسيج ولهذا سُمي حلَّاجًا، وقيل أنه كان يُكاشف أهل [[الأهواز]] بما في قلوبهم، فسمُّوه حلَّاج الأسرار، وبه بات يُعرف.<ref>{{استشهاد مختصر|سرور|2014|ص=31}}</ref> منذ صغره ارتحل الحلَّاج نتيجة ضائقة والده الماديَّة إلى [[واسط (مدينة تاريخية)|واسط]] للعمل بها، وكانت مركزًا هامًا يُقيم بها [[أشعرية|الأشاعرة]] و[[حنابلة|الحنابلة]] و[[أهل الحديث]] وغيرهم، فأصبحت مُلتقى للبحث والتدريس في ساحاتها، وعلى هذا الأساس، نشأ الحلَّاج في هذا الجو، فحفظ القُرآن في العاشرة من عمره، وتعمَّق في فهم معانيه، وأقبل على تعلُّم الفقه والتوحيد والتفسير وغيره،
<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">بحلول العشرين من عمره، أعجب الحلَّاج بالإمام الصُّوفي </span>[[سهل التستري|سهل بن عبد الله التَّستري]] <span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">وتعلَّم منه، ثم ارتحل إلى </span>[[البصرة]] <span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">وزادت علاقته بالصُّوفيَّة أكثر،
==== اصطدام الحلَّاج بالبلاط العبَّاسي ====
ارتحل الحلَّاج إلى بغداد عائدًا من [[مكة|مكَّة]] والتقى شيخ الصُّوفيَّة [[الجنيد البغدادي]]، وما زال يتنقَّل ويعظ وينشر فكره، حتى وصلت أخباره إلى الوزير في تلك الفترة [[حامد بن العباس|حامد بن العبَّاس]].<ref name=":13" /> فقد نُقل إلى مسامع الوزير أن الحلَّاج يُحيي الموتى، وأن الجن يخدمونه، وأنهم يُحضرون إليه ما يُحب ويشتهي، ومن شدة تأثيره أن نصر الحاجب مال إليه مع جماعة من حاشية الخليفة المُقتدر، ما جعل الوزير حامد يطلب من الخليفة المُقتدر أن يأمر باستدعاء الحلَّاج لمُحاججته والنظر في أمره الغريب، فاستدعي ومعه إنسان يُعرف بالشَّمريّ، فقرَّره الخليفة على ما جرى من أمر الحلَّاج، ولم ينكر الشَّمريُّ ذلك وقال أنه بالإضافة له وغيره، فهم يُؤمنون بأن الحلَّاج إله، وأنه يُحيي الموتى فعلًا، وحينما قابلوا الحلَّاج أنكر ذلك وقال: {{اقتباس مضمن|أعوذ بالله أن أدعي الرُّبوبيَّة أو النُّبُوَّة، وإنما أنا رجل أعبد الله عزَّ وجل!}}، واستدعي جماعة من وجود القُضاة مثل أبُو جعفر بن البهلول وأبُو عمرو وجمعٌ من الفُقهاء والشُّهود، وبعد استفتائهم في أمره، رفضوا الحُكم عليه بغير ما ادَّعى وأنه لا يجوز قتله،
==== إباحة دم الحلَّاج وإعدامه في بغداد ====
سطر 163:
لم تُثنى عزيمة الوزير [[حامد بن العباس|حامد بن العبَّاس]] في كشف أمر الحلَّاج، وقرر أن يجدَّ ويجتهد في أمره، ودارت الكثير من الأحداث، فقد كان يُظهر الزُّهد وأعجب به كثير من الخدام والحشم في دار الخلافة، حتى أصبحوا يتبركون به ويتمسحون بثيابه،<ref name=":20">{{استشهاد مختصر|ابن كثير|2004|ص=1684}}</ref> حتى وجد الوزير للحلَّاج كتابًا يقول إذا صام الإنسان ثلاثة أيام بلياليها ولم يفطر، وأخذ في اليوم الرابع ورقات هندباء وأفطر عليها، أغناه ذلك عن صوم [[رمضان]]، وأنه إذا تصدَّق المرء في يوم واحد بجميع ما يملكه في ذلك اليوم، أغناه عن الزكاة، وإذا بنى بيتًا وصام أيامًا ثم طاف حوله عريانًا مرارًا أغناه عن الحج، وما إلى ذلك.<ref name=":62">{{استشهاد مختصر|ابن الجوزي|1995|ج=13|ص=205}}</ref><ref name=":17">{{استشهاد مختصر|ابن دحية|1946|ص=103}}</ref> طلب الوزير من القاضي أبُو عمرو أن يرى أفكار الحلَّاج في كُتُبه، فلما رآه استُدعي الحلَّاج وناظره في ذلك، وسأله عن مصدر علمه، فأجاب الحلَّاج أنه قرأها من كتاب الإخلاص [[الحسن البصري|للحسن البصري]]، وقيل بل أسنده عن رجل عن الحسن البصري، فقال القاضي مُتعجبًا: {{اقتباس مضمن|كذَّبت يا عدو الله يا كافر يا فاجر يا حلال الدم}}، وسُرعان ما تم القبض عليه، على الرُّغم من أن الحلَّاج كان يُردد انتمائه للإسلام وبمذهب السُّنَّة وأن دمه لا يُحل لهم. كتب الوزير إلى الخليفة يستأذنه في قتله، وأرسل فتاوي القُضاة بناءً على ما ظهر منه.<ref name=":14" /><ref name=":62" />
[[ملف:Al-Hallaj_executed.png|تصغير|رسمٌ يُظهر لحظة استدعاء الحلَّاج إلى المشنقة لإعدامه. بريشة درويش محمود ميسنيفي خان ({{قرابة|1590}}).]]
دخل الحلَّاج مُقيدًا إلى الخليفة مرفوع الرأس، وحيَّاه بالإسلام وبدأ يحذر الخليفة وينذره ويطالبه بإصلاح الأوضاع حتى يرضى الله عنه، وأنه مُستسلمٌ لقضاء الله عليه ولا يعترض على حكم الخليفة ولا يلومه، إلا أن الخليفة أعاده إلى السجن مُؤقتًا حتى يتثبَّت في أمره.<ref>{{استشهاد مختصر|سرور|2014|ص=105-107}}</ref> إلا أنه قبل يوم من إعدامه، حصل الوزير على توقيع الخليفة المُقتدر بعد أن وضحت الحجَّة عليه، وأصبح لا بد من إقامة الحد عليه.<ref name=":17" /> وفي يوم الثلاثاء 23 ذو القعدة سنة 309هـ / 25 مارس 922م، جُلد الحلَّاج نحو ألف سُوط أمام حشدٍ كبير من الناس،<ref>{{استشهاد مختصر|سرور|2014|ص=111}}</ref> ويُروى أنه لم يصدر عنه صوتًا وما فتر لسانه عن ذكر الله،<ref name=":14" /><ref>{{استشهاد مختصر|سرور|2014|ص=117}}</ref> ثم قُطعت أعضاء جسده في اليوم الثاني،<ref>{{استشهاد مختصر|سرور|2014|ص=116}}</ref> ليلفظ أنفاسه الأخيرة وقُتل من أثر ذلك، ثم أحرق بالنار وأُلقي رماده في [[دجلة]]، حتى نُصب رأسه في [[بغداد]].<ref name=":14" /><ref>{{استشهاد مختصر|ابن الجوزي|1995|ج=13|ص=206}}</ref>
=== الاصطدام الأوَّل مع مُؤنس وخلع المُقتدر الثَّاني ===
سطر 169:
==== خلفية تاريخيَّة ====
[[ملف:Middle_east_map_920.png|يمين|تصغير|270x270بك|خريطة تُظهر [[الدولة العباسية|الخلافة العبَّاسيَّة]] باللَّون الأسود في عهد الخليفة جعفر المُقتدر بالله، في سنة 309هـ / 920م، إلى جانب الإمارات والدُّول التي بقيت تابعة للخلافة باللَّون الرَّمادي.]]
شكَّل [[الجيش العباسي|الجيش العبَّاسي]] مركز ضغطٍ ونُفوذ لا يمكن تجاهله في إضعاف [[الدولة العباسية|الخلافة العبَّاسيَّة]]، والتي بدأت مع مقتل عاشر الخُلفاء [[جعفر المتوكل على الله]]، وانتهت في السَّنوات الأخيرة من عهد الخليفة الخامس عشر [[أحمد المعتمد على الله]]، وعرفت [[فوضى سامراء|بفوضى سامرَّاء]]. ومنذ ذلك الحين، تضاءل دور قادة الجيش منذ أواخر عهد الخليفة المُعتمد، غير أنهم سرعان ما استعادوا مكانهم البارز من جديد بعد وفاة [[أحمد المعتضد بالله|أحمد المُعتضد بالله]]، والتي تمثلت بشخصيَّة [[بدر المعتضدي|بدر المُعتضدي]]، فحاز على نفوذ كبير بعد وفاة المُعتضد، وقد واجهه الخليفة [[علي المكتفي بالله|علي المُكتفي بالله]] وتخلَّص منه حتى قال: {{اقتباس مضمن|الآن ذقت طعم الحياة ولذة الخلافة}}.<ref>{{استشهاد مختصر|سعيد|1979|ص=125}}</ref> <span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">صعد نجم القائد </span>[[مؤنس الخادم]] <span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">(وهو غُلام </span>[[يونانيون|روميُّ]] <span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">الأصل)، في عهد الخليفة المُكتفي،</span><ref name="مولد تلقائيا7">{{استشهاد مختصر|ذياب|2003|ص=108}}</ref><ref>{{استشهاد مختصر|سعيد|1979|ص=126}}</ref> <span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">وأصبح واحدًا من الرجال القلائل المُعتمد عليهم، وكان أحد الذين أرادوا تنصيب الخليفة المُقتدر بالله. وحينما حدث الانقلاب الأوَّل بقيادة </span>[[عبد الله بن المعتز|ابن المُعتز]]<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">، كان مُؤنس الخادم ومُؤنس الخازن و</span>[[غريب الخال]]، من <span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">الأقليَّة التي دعمت المُقتدر وساندته في ذلك الظرف العصيب. وبعد فشل الانقلاب، كسب مؤنس محبة وتقدير لدى المُقتدر، فولَّاه قيادة الجيش في سنة 298هـ / 910م وفاءً لدوره وصنيعه ورصيده العسكري.</span><ref>{{استشهاد مختصر|سعيد|1979|ص=127}}</ref> <span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">عُرف مُؤنس بلقب المُظفَّر منذ ربيع الآخر سنة 309هـ / أغسطس 921م، وظهرت براعته بجهوده العسكريَّة المُوفَّقة على مختلف الجبهات، فمن الانتصار على </span>[[الدولة الفاطمية|الفاطميين]] في الديار المصريَّة<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">، إلى مُجاهدة </span>[[الإمبراطورية البيزنطية|الرُّوم]] في الثُّغور مرارًا وتكرارًا<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">،</span> <span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">ما أكسبه خبرة و</span><span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">محبة الجنود</span><span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">،
==== الاصطدام الأوَّل مع مُؤنس المُظفَّر ====
سطر 175:
==== خلع المُقتدر للمرة الثَّانية ====
علم الخليفة المُقتدر أن الأوضاع بينه وبين [[مؤنس الخادم|مُؤنس المُظفَّر]] المُقيم في الشَّمَّاسيَّة، وأن المراسلات قد وصلت إلى نهاية مسدودة، وشعر باقتراب الاصطدام العسكري بينهما، فجمع الخليفة كُلًا من يشعر بموالاته له، مثل [[هارون بن غريب|ابن الخال]]، و[[أحمد بن كيغلغ|أحمد بن كَيْغَلَغ]] وفرق الغُلمان الحجريَّة والرجالة المصافيَّة وغيرهم، وذهب لمُلاقاة جيش المُظفَّر في أوائل مُحرَّم سنة 317هـ / أواخر فبراير 929م، إلا أنه بحلول آخر النهار من ذلك اليوم، انفضَّت مُعظم هذه القُوات عن الخليفة المُقتدر وانضمَّت إلى مُؤنس. ثم كتب الأخير رقعة إلى المُقتدر يذكر فيها أن الجيش عاتبٌ ومستنكر للسرف من قبل الخدم والحُرَم من الأموال والضياع، ولدخولهم في الرأي وتدبير شؤون البلاد، وطالبه "باسم هذه القوات" بإخراج ابن الخال من دار الخلافة. لم يجد المُقتدر إلا القبول لمطالب مُؤنس بعد الخيانات الكبيرة التي تعرَّض لها، فذكَّرهم بيعته في أعناقهم مرة بعد أخرى، وخوَّفهم عاقبة النكث،
<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">وأمام هذه التنازلات المُقتدريَّة بهدف تحقيق الأمان له ولذويه، دخل مُؤنس المُظفَّر وابن حمدان ونازوك ومعهم الجيش المُوالي له إلى بغداد، وتخوُّف أهالي المدينة من دخولهم، وبدأت الإشاعات تتحدث عن نية مُؤنس ومن معه بخلع الخليفة وتولية غيره، وبالفعل، ففي 15 مُحرَّم / 1 مارس، دخل مُؤنس ومن معه دار الخليفة، بعد أن هرب محمد بن ياقوت، وسائر الحُجَّاب والخدم والموالين للمُقتدر، حتى لم يكن في الدار سواه. استهل مُؤنس حضوره بأن أمر بخلع المُقتدر، و أُحضر أخوه، </span>[[محمد القاهر بالله|مُحمَّد بن المُعتضد]]<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">، فبايعه الحاضرون، ولقَّبوه </span>'''القاهر بالله'''<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">، وشهد بخلعه القاضي أبُو عمر على كراهية، وكان أنصار مُؤنس حاضرين، ومنهم ابن حمدان، الذي التفت إلى المُقتدر وقال له بلُطف: </span>{{اقتباس مضمن|يا سيدي يعزُّ علي أن أراك على هذه الحال، وقد كنت أخافها عليك، وأحذرها، وأنصح لك، وأحذرك عاقبة القُبول من الخدم، والنساء، فتؤثر أقوالهم على قولي، وكأني كنت أرى هذا، وبعد، فنحن عبيدك وخدمك}}<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">، فدمعت عينا ابن حمدان وعينا المُقتدر، وأودعوا كتاب الخلع عند القاضي أبُو عمر، فكتمه ولم يُظهر أمر الخلع لأحد سوى ابنه، فكافأه المُقتدر بأن عينه قاضي القُضاة لاحقًا.</span><ref name=":7" /> <span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">بعد أن استقرَّت الأمور للخليفة القاهر بالله شكليًا، أخرج مُؤنس </span>[[علي بن عيسى بن الجراح|عليُّ بن عيسى بن الجرَّاح]] <span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">من السجن، وثبَّت </span>[[ابن مقلة]] <span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">في الوزارة، وأضاف إلى نازوك تولي حجابة الخليفة، وكتب إلى ولايات الخلافة بذلك، فاستحكم المُظفَّر بجميع أركان الحُكم، ونُهبت دار الخليفة، وقُلِعت خيام الرجالة المصافيَّة من دار الخليفة، وأمر نازوك رجاله وأصحابه أن يقيموا مكانهم، فعظم ذلك عليهم،
=== عودة المُقتدر للخلافة واحتواء انقلاب مُؤنس ===
[[ملف:Abbasid_Iraq_908_930_Shahi_inspired_coin.jpg|تصغير|220x220بك|درهمٌ فضيٌ صُك للخليفة جعفر المُقتدر بالله، ونقش فوق صورة الفارس (لله جعفر).]]
في يوم الإثنين 17 مُحرَّم سنة 317هـ / 3 مارس 929م، امتلأت الممرات وشاطئ [[دجلة]] من أهالي بغداد،
<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">بعد أن رأى المصافيَّة تضعضع وتشرذم القاهر ومن معه، سُرعان ما استكملوا هجومهم وتوجهوا نحو دار مُؤنس المُظفَّر مُطالبين بالمُقتدر المسجون لديه، وخرج إليهم مُؤنس وسمع صياحهم، فسألهم عن مطالبهم، فأجابوه بأنهم يريدون المُقتدر، فأمر بتسليمه إليهم، فلما قيل للمُقتدر ذلك، خاف أن تكون حيلةً عليه، فامتنع، إلا أن الرجالة المصافيَّة حملوه على رقابهم حتى أدخلوه دار الخلافة، فسأل عن أخيه القاهر وجيء به، فاستدناه وأجلسه عنده وقبَّل جبينه، وقال المُقتدر: </span>{{اقتباس مضمن|يا أخي قد علمتُ أنه لا ذنب لك، وأنك قُهرت، ولو لقَّبوك بالمقهور لكان أولى من القاهر}}<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">، والقاهر يبكي ويطلب منه الرَّحمة، فرد المُقتدر: </span>{{اقتباس مضمن|وحق رسُول الله لا جرى عليك سوءٌ مني أبدًا، ولا وصل أحدٌ إلى مكروهك وأنا حي!}}<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">،
=== القضاء على فرقة المصافيَّة ===
بعد إعادة فرقةِ الرجالة المصافيَّة المُقتدرَ إلى الخلافة، عظم شرَّهم وقوي أمرهم، وزاد إدلالهم وامتيازاتهم،
<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">بعدما أوقع المصافيَّة بسلاح الفُرسان، غضب الخليفة المُقتدر لمقتلهم، وثارت ثائرته ضد المصافيَّة، وأمر صاحب الشُّرطة مُحمَّد بن ياقوت بالقضاء عليهم والتخلُّص من شرهم. في مُحرَّم سنة 318هـ / فبراير 930م، شنَّت الشُّرطة العبَّاسيَّة هجومًا على فرقة الرجالة المصافيَّة، فنُودي بخروجهم عن بغداد، ومن أقام قُبض عليه وحُبس، فهرب الكثير منهم،
=== الاصطدام الأخير مع مُؤنس المُظفَّر ===
[[ملف:Iraq_in_812-ar.svg|تصغير|275x275بك|خريطة تبين المسافة بين الموصل وسامراء وبغداد، والتي كانت عرضة للاقتتال بسبب تمرُّد مُؤنس المُظفَّر على الخليفة المُقتدر بالله.]]
لم تطب الأمور بين الخليفة المُقتدر بالله و[[مؤنس الخادم|مُؤنس المُظفَّر]] بعد خلعه في المرة الأولى، ومع أنه أجرى مجموعة تعيينات بناءً على رغبة مُؤنس، إلا أنه حاول تدعيم موقفه ضد مُؤنس وأصحابه بإيجاد حليف جديد له، تمثل ذلك بشخص مُحمَّد بن ياقوت صاحب الشُّرطة.<ref>{{استشهاد مختصر|ذياب|2003|ص=96}}</ref> ومع أن المُقتدر فضَّل إبقاء الأمور بتوازن مع مُؤنس قدر الإمكان، إلا أن العلاقة بين الطرفين كانت تتفاقم من جديد، وكانت هذه المرة سببها الوزير الحسين بن القاسم، والذي كان على علاقة سيئة جدًا مع مُؤنس، فطلب الأخير من الخليفة عزل الوزير ومصادرة أملاكه، فأجاب المُقتدر إلى عزله
== خلع المُقتدر بالله ومقتله ==
{{مفصلة|معركة بغداد (932)}}
[[ملف:The Round City of Baghdad.png|تصغير|281x281بك|أحياء ومناطق مدينة [[مدينة بغداد المدورة|بغداد]] المُدوَّرة، وتظهر فيها منطقة الشَّمَّاسيَّة التي نزل بها مُؤنس المُظفَّر وجيشه لمُحاربة الخليفة جعفر المُقتدر بالله.]]
بعد اجتماع العديد من الجُند حول مُؤنس في [[الموصل]]، طلبوا منه السير إلى الخليفة لينصفهم ويجري أرزاقهم وإن رفض المُقتدر مجاراتهم يُقاتلوه، فتحرَّك مُؤنس على رأس الجيش نحو بغداد في شوَّال 320هـ / أكتوبر 932 م بعد تسعة شهورٍ من الإقامة فيها، فلما بلغ خبره جند العاصمة [[بغداد]]، شغبوا وطلبوا أرزاقهم، ففرَّق الخليفة فيهم أموالًا كثيرة إلا أنه لم يُشبع احتياجاتهم. ومن ضمن التحرُّكات المُقتدريَّة، وجَّه أبُو العلاء [[سعيد بن حمدان التغلبي|سعيد بن حمدان التَّغلُبي]] على رأس خيلٍ كثيرة نحو [[سامراء|سُرَّ من رأى]]،
خرج الخليفة جعفر المُقتدر بالله على رأس بعض الجند، ومعه الفُقهاء و[[قارئ القرآن|القُرَّاء]] ومعهم المصاحف مشهورة، وعليه [[البردة النبوية|البردة النبويَّة]]، فوقف على خيله في تل عالٍ بعيد عن المعركة، وبدأ من معه يشيرون عليه بالتقدُّم وهو لا يريد ذلك، فألحوا عليه، وكان قد رغَّب من معه بأن وعدهم قائلًا من جاءه بأسير فله عشرة دنانير، ومن جاء برأس فله خمسة دنانير، فلما تقدم المُقتدر بمن معه، ولم يكد الجمعان يلتحمان في المعركة، حتى انهزمت كتائب المُقتدر سريعًا وهرب أكثرهم عنه، فجاء رجُل يدعى علي بن بُليق،<ref name=":10" /> وقيل علي بن يلبق،<ref name=":39" /> وهو من أصحاب [[مؤنس الخادم|مُؤنس]]، فترجَّل من حصانه وقبَّل الأرض وقال للخليفة: {{اقتباس مضمن|إلى أين تمضي؟ ارجع، فلعن الله من أشار عليك بالحُضور!}}، فلم يعرف المُقتدر ما يفعل في هذا الموقف، وأراد الرُّجوع إلا أن أنصار مُؤنس أحاطوا بالمُقتدر، وكانوا من [[المغاربة (الجيش العباسي)|المغاربة]] و[[أمازيغ|البربر]]، فتركه ابن بُليق وسار عنه، وشهر الجُند سيوفهم بهدف قتل المُقتدر، فقال لهم: {{اقتباس مضمن|ويحكم أنا الخليفة!}}، فقال بعضهم: {{اقتباس مضمن|قد عرفناك يا سِفلة، أنت خليفة [[إبليس]]، تبذل في كل رأس خمسة دنانير، وفي كل أسير عشرة دنانير!}} فبادره أحدهم بطعنة سيف على كتفيه فسقط إلى الأرض، واقترب آخرون وقتلوه وحزُّوا رأسه، ثم رفعوا رأسه على خشبة وهم [[تكبير (إسلام)|يُكبرون]] ويلعنونه، وأخذوا جميع ما لديه ومنها البردة النبويَّة، والتي تلوَّثت بالدم، ليُترك جسده مُضرجًا بالدماء على الأرض، إلى أن مر به رجل من الأكرة، فستره وقرر حفر موضع له وعُفي قبره.<ref name=":44" /><ref name=":10" /><ref name=":11" /><ref name="مولد تلقائيا8">{{استشهاد مختصر|ابن دحية|1946|ص=111}}</ref> ويُروى أن الجندي الذي حز رأس المُقتدر، قد صاح الناس عليه، وفي أثناء سيره تعرَّض لوعكة، ثم اجتمع عليه الناس وأحرقوه بالحمل الشوك.<ref>{{استشهاد مختصر|السيوطي|2003|ص=304}}</ref>
سطر 211:
بعد مقتل الخليفة جعفر المُقتدر بالله، عظم قتله على مُؤنس وشعر بالذَّنب، ورأى تنصيب ابنه أبُو العبَّاس [[محمد الراضي بالله|مُحمَّد بن المُقتدر]]، وعرض وجهة نظره قائلًا: {{اقتباس مضمن|فإنه تربيتي وهو صبيٌ عاقل، وفيه دينٌ وكرم ووفاء بما يقول، فإذا جلس في الخلافة سمحت نفس جدته والدة المُقتدر وإخوته وغُلمان أبيه ببذل الأموال، ولم ينتطح في قتل المُقتدر عنزان}}، إلا أن أبُو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النُّوبختي عارض ذلك وقال: {{اقتباس مضمن|بعد الكد والتعب استرحنا من خليفة له أم وخالة وخدم يدبرونه، فنعود إلى تلك الحال؟! والله لا نرضى إلا برجلٍ كامل يُدبر نفسه ويدبرنا}}، فوافقه الرأي مُؤنس بعد تردد، وذكر له أبُو منصُور [[محمد القاهر بالله|مُحمَّد بن المُعتضد]]، المعرُوف باسم '''القاهر بالله''' فأجابه مُؤنس إلى ذلك.<ref>{{استشهاد مختصر|الخضري|2003|ص=335}}</ref>
يُعلق العالم والمُؤرخ [[ابن الأثير الجزري]] قائلًا على إرادة النُّوبختي: {{اقتباس مضمن|وكان النُّوبختي في ذلك كالباحث عن حتفه بظلفه، فإن القاهر قتله}}.<ref name=":10" /> ولم يكن مصير مُؤنس أفضل من النُّوبختي، فقد اعدم على يد القاهر بالله بعد سنة من مقتل المُقتدر، وتحديدًا في سنة 321هـ / 933م، وكان يبلغ من العمر 90 عامًا.<ref>{{استشهاد مختصر|ذياب|2003|ص=109}}</ref> يرى بعض المُؤرخين أنه وبسبب هذا التحرُّك من مُؤنس، انحلَّت مؤسسات الدَّولة أمام قوة وسطوة الجيش، فانخرقت هيبة الخلافة مما أطمع فيها القريب والبعيد،
== نفوذ السَّيدة شغب والقهرمانات ==
سطر 218:
=== التنكيل بالوزراء ومصادرة الأملاك ===
كان للسَّيدة شغب دورٌ كبير في تعيين الوزراء والكُتَّاب والقادة إضافة إلى عزلهم وحبسهم ومُصادرة أملاكهم وأموالهم حتى الفتك بهم، وكان للوزير [[علي بن محمد بن فرات|ابن الفُرات]] نصيبًا من تسلُّطها، فقد جاء لمنصب الوزارة ثلاث مرَّات، وفي كل مرة يتعرَّض للحبس والمُصادرة بعد عزله،
كان السبب في نكبة الوزراء من قبلها، هو حبها الشَّديد للمال لتستعمله في تنفيذ أهدافها السياسية، فجمعت مالًا كثيرًا من نقود ومجوهرات ورياش وملابس وغيرها من وراء ذلك، حتى أنها طلبت من القاضي ابن بهلول أن يعطيها من أموال الوقف وكان مسؤولًا عليها، فرفض بشدة.<ref name=":12" /> وعلى الرُّغم من أنها كانت تنفق الكثير من الأموال على الحُجَّاج في طعامهم وشرابهم والأطباء المرافقين لهم وإصلاح الطرقات،<ref name=":66" /> إلا أنها أصبحت موضع اعتماد الدَّولة عليها عند الحاجة نتيجة امتلاء خزائنها، ففي سنة 307هـ / 920م، قدمت من مالها المُدَّخر 500 ألف دينارًا ليتم إنفاقها في الحرب ضد [[قرامطة|القرامطة]].
=== نهاية نُفوذها مع نهاية المُقتدر ===
سطر 230:
=== تحسين المعيشة في أول خلافته ===
[[ملف:Baghdad_150_to_300_AH-ar.png|تصغير|250x250بك|خريطة [[مدينة بغداد المدورة|بغداد]] حاضرة الخلافة من سنة 150 إلى 300هـ / 767 إلى 913م.]]
استفتح الخليفة المُقتدر خلافته سنة 295هـ / 908م، بإعادة الرُّسوم والضرائب ورسوم الأضاحي إلى ما كانت عليه في أول [[الدولة العباسية|خلافة بني العبَّاس]]، فخفَّف على الناس الضَّرائب.<ref name=":19">{{استشهاد مختصر|ابن كثير|2004|ص=1677}}</ref>
رفع المُقتدر في أرزاق [[بنو هاشم|بني هاشم]] من دينار إلى دينارين.<ref name=":322">{{استشهاد مختصر|ذياب|2003|ص=88}}</ref><ref name=":59">{{استشهاد مختصر|ابن الجوزي|1995|ج=13|ص=62}}</ref>
=== تردي الأوضاع الاقتصاديَّة ===
كانت الأوضاع الاقتصاديَّة جيدة بعض الشيء في أوائل عهد المُقتدر، إلا أنه منذ سنة 308هـ / 920م، كانت الأحوال الاقتصاديَّة تزداد سوءًا بسبب وجود إدارات سيئة تزامنت مع هجمات [[قرامطة|القرامطة]] على جنوب العراق. وكان لوزارة الخاقاني، و[[حامد بن العباس|حامد بن العبَّاس]]، والخُصيبي وغيرهم، الحمل الأكبر في تحمُّل مسؤولية تفاقم الأوضاع بسبب إهمالهم وجهلهم لإدارة السياسات العامة والماليَّة في البلاد.<ref name=":34" /> إضافة إلى استئثار الخليفة ووالدته للأموال. ومن بين الأحداث التي تُبين وجود الضعف الاقتصادي، أن عمَّ الغلاء في مناطق [[سواد العراق|السَّواد]] بسبب احتكار الوزير حامد بن العبَّاس للحبوب،
=== إصلاح شؤون مكة ===
سطر 242:
=== إصلاح البيمارستانات وبنائها ===
في فترة وزارة [[علي بن عيسى بن الجراح|ابن الجرَّاح]]، أجرى الإصلاحات في البيمارستانات المُنتشرة في العاصمة [[بغداد]]، وحرص الوزير على جلب الأدوية إلى المرضى التي قرَّرها الأطباء في سنة 300هـ / 915م،
== سياسته الداخليَّة ==
=== الوزارة ===
تعاقب العديد من الوزراء خلال فترة المُقتدر بالله التي امتدت لنحو 25 عامًا، وكان العبء الأكبر في تنظيم الناحية المالية للدولة، وتأمين نفقات دار الخلافة والجند والموظفين والخدم والحرم والحشم، يقع على عاتق الوزير أساسًا، وكُتاب الدواوين معه.<ref>{{استشهاد مختصر|ذياب|2003|ص=166}}</ref> سارت الدَّولة منذ خلافة [[أحمد المعتضد بالله|أحمد المُعتضد بالله]] على سياسة الضَّمان، أي أن يضمن الوزير أنه سيحمل مبلغ سنوي لبيت المال، وذلك لتأمين النفقات والحاجات الأساسيَّة في البلاد.<ref>{{استشهاد مختصر|ذياب|2003|ص=189}}</ref> يجدر الإشارة إلى أن بيت المال المقصود ينقسم إلى قسمين، بيت المال العام، والذي يُعد الخزينة الرَّسميَّة للخلافة، والتي يديرها الوزير، بينما بيت مال الخاصَّة هو بيت مال الخليفة، وهي مؤسسة مستقلة لها مواردها ومصروفاتها،
==== العبَّاس بن الحسن ====
سطر 255:
{{مفصلة|علي بن محمد بن فرات}}
[[ملف:Inbound3876607660648875635احد_ابواب_القصر_العباسي.jpg|تصغير|300x300px|أحد أبواب [[القصر العباسي|القصر العبَّاسي]]، ويُعد القصر من البقايا القليلة الشَّاهدة على حضارة العصر العبَّاسي.]]
<span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">تولَّى أبُو الحسن </span>[[علي بن محمد بن فرات|عليُّ بن مُحمَّد بن فُرات]] <span data-darkreader-inline-color="" data-darkreader-inline-bgcolor="">الوزارة بعد مقتل العبَّاس بن الحسن في سنة 295هـ / 908م، وكان من أهم الوزراء في خلافة المُقتدر، وذلك بعد أن أثبت ولاؤه للخليفة المُقتدر في تلك المحنة،
أمضى ابن الفُرات خمس سنوات في السَّجن بعد أن نُكِّب، إلا أن الخليفة المُقتدر كان يُشاوره في الأمور بين حينٍ وآخر حتى قرر إطلاق سراحه وإعادة استوزاره.<ref>{{استشهاد مختصر|ابن كثير|2005|ص=1686}}</ref><ref>{{استشهاد مختصر|ابن الأثير|2005|ص=1134}}</ref> تولى ابن الفُرات الوزارة بعد ابن الجرَّاح في ذو الحجَّة سنة 304هـ / يونيو 917م، وكان قد ضمن على نفسه أن يحمل إلى بيت المال 1500 دينار.
عاد ابن الفُرات للوزارة للمرة الثَّالثة والأخيرة في ربيع الآخر سنة 311هـ / أغسطس 923م،<ref>{{استشهاد مختصر|ابن الأثير|2005|ص=1144-1145}}</ref> كانت الأحداث في هذه الفترة قد ازدادت سوءًا على الوزير ابن الفُرات واختلفت سيرته مُقارنة بوزارته الأولى والثانية، فقد ظهر [[قرامطة|القرامطة الإسماعيليين]] وعاثوا فسادًا في غارَّاتهم كثيرًا، وخاصةً في أعقاب [[الغارة القرمطية على قافلة الحجاج (924)|الإغارة على قافلة الحجَّاج]] في منطقة الهبير سنة 312هـ / 924م، وكان فيها أعدادًا كبيرة من البغداديين الذين قُتلوا وسبوا، فغضب أهاليهم في بغداد، وكسروا المنابر، وسوَّدوا المحاريب في السَّادس من صفر / 14 مايو. ضعفت نفس الوزير ونقم النَّاس عليه، واستدعاه المُقتدر ليُحاججه، وبدأ نصر الحاجب يُطلق سيل الاتهامات على ابن الفُرات، ومنها أنه [[الشيعة|شيعي]] مُتعاطف مع [[قرامطة|القرامطة]]، وأن خطته في إبعاد مُؤنس كان جزءًا من خطته المرسومة، فحلف الأخير أنه ما كاتب القرمطي ولا هاداه، والمُقتدر في هذه الأثناء صامت ومُعرضٌ عنه، ولم يعزله حينها.<ref name=":26" /> ألقي القبض عليه بسبب غضب عامَّة أهالي بغداد والضغوط حول الخليفة، وكان مُكرهًا لتسليمه. أُعدم ابن الفُرات في السجن 17 ربيع الآخر سنة 312هـ / 23 يوليو 924م.<ref>{{استشهاد مختصر|ابن الأثير|2005|ص=1147-1148}}</ref>
==== أبو علي الخاقاني ====
تولَّى أبُو علي مُحمَّد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، للوزارة بعد أن قُبض على الوزير [[علي بن محمد بن فرات|ابن الفُرات]] في ذو الحجَّة سنة 299هـ / يوليو 912م، وسعى في ذلك من ماله الخاص بعد أن قام برشوة [[أم موسى القهرمانة]] وضمن 100 ألف دينار للسَّيدة شغب، ويصفه المُؤرخ [[ابن الطقطقي]] بأنه كان سيء السيرة والتدبير، وكثير التولية والعزل، حتى أنه ولَّى في يومٍ واحد 19 ناظرًا للكوفة، وأخذ من كل واحد رشوة،
==== ابن الجرَّاح ====
سطر 291:
=== العلاقة مع الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة ===
[[ملف:Constantine_VII_Porphyrogenitus.jpg|تصغير|الإمبراطور البيزنطي [[قسطنطين السابع|قسطنطين السَّابع]]، الذي استغلَّ ضعف أحوال الخلافة العبَّاسيَّة، وقام بشن الغارَّات على مناطق الثُّغور.]]
كانت العلاقة بين الخلافة العبَّاسيَّة و[[الإمبراطورية البيزنطية|الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة]] على حالها المُستمر في القتال والإغارات الصَّيفيَّة السنويَّة منذ أمدٍ بعيد، وقد وردت أنباء اكتمال [[الفتح الإسلامي لصقلية|فتح كامل جزيرة صقليَّة]] قد تمَّت بعد قرنٍ من الزَّمان، وذلك على يد [[الدولة الأغلبية|الأغالبة]] التابعين للخلافة في سنة 289هـ / 902 م في أول خلافة [[علي المكتفي بالله|عليُّ المُكتفي بالله]].<ref>{{استشهاد مختصر|رستم|1956|ص=20}}</ref> قام الرُّوم بشن غارَّات كبيرة في مناطق الثُّغور الحدوديَّة مع الخلافة سنة 291هـ / 904م، مما جعل المُكتفي يُرسل جيشًا تمكَّن من فتح [[أنطاكية (مدينة تاريخية)|أنطاكية]]، والوصول إلى [[قونية]] وهدم سُورها وتخريبها في سنة 294هـ / 907م، ما اضطَّر الملك [[ليو السادس الحكيم|ليو السَّادس]] إلى طلب الصُّلح، وتبادل الأسرى مع دولة الخلافة.<ref>{{استشهاد مختصر|طقوش|2009|ص=212}}</ref> بعد قدوم المُقتدر بالله للسُّلطة، استمرَّت الإغارات بين الطرفين على عادتها، غير أنه في سنة 303هـ / 915م، استغل الرُّوم تمرُّد [[الحسين بن حمدان التغلبي|الحُسين بن حمدان]] على الخلافة واستنزاف [[الجيش العباسي|الجيش العبَّاسي]]، فهاجموا حصن منصُور وسبوا من كان فيه،
[[ملف:Follis_of_Constantine_VII.png|تصغير|194x194بك|عملة بيزنطيَّة صُكَّت في عهد الإمبراطور قسطنطين السَّابع سنة 945م.|يمين]]
بسبب انشغال الخلافة العبَّاسيَّة في صراعها ضد [[قرامطة|القرامطة]] [[إسماعيلية|الإسماعيليين]]، والذين أغاروا على جنوب [[سواد العراق|العراق]] من سنة 311 حتى 314هـ / 923 حتى 926م، أصبحت جبهة [[جند العواصم|الثُّغور]] عرضة للتهديدات الرُّوميَّة بسبب عجز الخليفة المُقتدر عن إرسال الإمدادات لأهلها من الرجال والعتاد أمام المخاطر القريبة من العاصمة بغداد. وفي أثناء تلك الفترة، انتهى الملك [[قسطنطين السابع|قسطنطين السَّابع]] بحملةٍ شرسة على أبواب عاصمته [[القسطنطينية|القسطنطينيَّة]] شنَّها [[الإمبراطورية البلغارية الأولى|البلغار]] في سنة 312هـ / 924م، وعلى الرُّغم من أن [[سيميون الأول ملك بلغاريا|سمعان الأوَّل ملك بلغاريا]] قد استنجد بالخلافة لمُساعدته في حصار القسطنيطينيَّة من الجهة الآسيويَّة أو من خلال البحر، إلا أنه لم يلق ردًا بسبب انشغال الخلافة في صراعاتها الدَّاخليَّة والقريبة من العاصمة [[بغداد]] مثل [[قرامطة|القرامطة]]، فأرسل سمعان الأول طلبًا للصَّلح إلى الرُّوم على مضض، وتم ذلك.<ref name=":242" /><ref>{{استشهاد مختصر|رستم|1956|ص=25}}</ref>
وجَّه قسطنطين السَّابع أنظاره نحو دولة الخلافة، مُستغلًا ظروفها المُتدهورة، فأرسل خطاب تهديدي لأهل المناطق الحدوديَّة إذا لم يدفعوا له [[خراج (ضريبة)|الخراج]]، وهددهم إذا امتنعوا عن أداء ذلك بتحريك جيشًا لقتالهم. ولكونهم رفضوا تهديدات ملك الرُّوم أو لم يذعنوا لها، جهَّز الأخير جيشًا بقيادة يوحنَّا كوروكواس، ويُعرف بغرغون، ودخل [[ملطية]] في سنة 314هـ / 926م، بعد أن هرب أهلها نحو [[بغداد]] مُستغيثين بالخليفة، واستولي عليها لفترة قصيرة.<ref name=":242" /> وفي سنة 316هـ / 928م، استولى الرُّوم على مدينة [[أرضروم|أرضُ الرُّوم]] (أرضروم المُعاصرة)، وقاموا بإخراج العرب من [[إمارة أرمينية|أرمينية]].<ref>{{استشهاد مختصر|رستم|1956|ص=27}}</ref> وبسبب ذلك الضَّعف الشَّديد الذي حل بالخلافة وخلع المُقتدر للمرة الأولى في مُحرَّم سنة 317هـ / مارس 929م، جاء وفد من مدن الثُّغور الجزريَّة (منها [[ملطية]]، و[[ميافارقين]]، و[[آمد]]، و[[أرزنجان|أرزن]] وغيرها) إلى العاصمة [[بغداد]]، واستأذنوا في تسليم مناطقهم سلمًا إلى ملك الرُّوم، وذكَّروهم بعجزهم،
==== زينة بغداد العظيمة ====
سطر 312:
بعد أن سيطر [[الدولة الفاطمية|الفاطميين]] على [[إفريقية]] وما جاورها، بالإضافة إلى جزيرة [[صقلية]]، استعمل الخليفة الفاطمي [[عبيد الله المهدي]]، عليُّ بن عمر واليًا على الجزيرة، إلا أن أهالي صقلية رفضوه وعزلوه عنهم، ثم ولُّوا عليهم أحمد بن قرهب، والذي قادهم نحو غارَّة إلى أرض [[قلورية|قلُّورية]]، فغنموا منها وأسروا من الرُّوم ثم عادوا منها في سنة 297هـ / 910م.<ref name=":36">{{استشهاد مختصر|ابن الأثير|2005|ص=1128}}</ref> كان ابن قرهب رجُلًا طموحًا، وأراد أن يكون ذا سُمعة وقُوَّة بين أهالي صقلية، فدعاهم لطاعة الخليفة العبَّاسي المُقتدر ليحكم باسمه، فأجابوه وقبلوا منه وخلعوا طاعة المهدي الفاطمي في سنة 300هـ / 913م.<ref name=":36" />
بدأ أنصار ابن قرهب بالإغارة على إفريقية بحرًا، فوجدوا الأسطول الفاطمي بقيادة الحسن بن أبي خنزير، فأحرقوا الأسطول وقتلوا ابن أبي خنزير وأخذوا برأسه إلى ابن قرهب. توجه الأسطول الصقلي لاحقًا إلى مدينة [[صفاقس|سفاقس]]، فخرَّبوها وتابعوا سيرهم إلى [[طرابلس]]، إلا أنهم عادوا عنها لوجود [[القائم بأمر الله الفاطمي|القائم بن المهدي]]. في هذه الأثناء، أرسل الخليفة المُقتدر بالألوية والخُلع السُّود إلى ابن قرهب، إلا أن حاله تغيَّرت بعد أن ظفر الأسطول الفاطمي بأسطوله. بدأ أهالي الجزيرة ينفضُّون عنه، فراسل أهل [[جرجنت]] المهدي وكاتبوه، فلما رأى ذلك أهل صقلية، أجمعوا على مُكاتبة المهدي وخافوا من أن يغزوهم ويبطش بهم،
==== تحرُّك الفاطميين للاستيلاء على مصر ====
سطر 321:
==== الحملة الفاطميَّة الثانية ====
لم تنل فشل الحملة الأولى من عزم الخليفة الفاطمي، فقرر أن يُرسل حملةً أخرى بقيادة [[حباسة بن يوسف|حُباسة بن يُوسف]]، ولكن هذه المرة من خلال البحر، فسار الأخير بالأسطول الفاطمي نحو مصر في جُمادى الأولى سنة 302هـ / أواخر نوفمبر 914م، وسيطر على [[الإسكندرية|الإسكندريَّة]]. وصلت الأنباء من جديد إلى الخليفة المُقتدر، والذي عيَّن مُؤنسًا على رأس الجيش وأمده بالمال والسلاح،
===== الحملة الفاطميَّة الثالثة =====
[[ملف:الدولة_الفاطمية_والدول_الشيعية_في_القرن_العاشر..png|يمين|تصغير|252x252بك|مراحل توسُّع الدَّولة الفاطميَّة عبر السنوات.]]
قرر المهدي الفاطمي بعد سنواتٍ عديدة من فشل حملاته الأولى، إرسال جيشًا كبيرًا بعد أن جهَّزه بقيادة ابنه [[القائم بأمر الله الفاطمي|أبُو القاسم]]، فوصل الأخير [[الإسكندرية|الإسكندريَّة]] في ربيع الآخر سنة 307هـ / سبتمبر 919م، وبعد أن سيطر عليها، واصل زحفه فملك [[الجيزة (مدينة)|الجيزة]] و[[الأشمونين]] وأجزاءً كبيرة من [[صعيد مصر|بلاد الصَّعيد]]،
فور ورود أنباء وجود تعزيزات من الفاطميين إلى الخليفة المُقتدر، أمر بتسيير المراكب المتواجدة في [[طرسوس]] تعزيزًا لمُؤنس و[[الجيش العباسي|الجيش]]، وبلغ عددها 25 مركبًا ومُجهزة بالعدد والنفط بقيادة أبُو اليمن، فالتقت المراكب العبَّاسيَّة والفاطميَّة، ودارت معركة بحريَّة بين الطرفين حتى انهزم الفاطميين وقُتل معظمهم
=== العلاقة مع الأندلس ===
سطر 333:
كانت [[الأندلس]] تحكمها [[الدولة الأموية في الأندلس|إمارة قرطبة]] المُستقِلَّة عن الخلافة العبَّاسيَّة منذ أمدٍ بعيد، ولم يعد الطرفين يشعران بالخطر من بعضهما البعض،<ref name=":40" /> ويُعاصر المُقتدر في فترة خلافته كثيرًا، أميرها [[عبد الرحمن الناصر لدين الله|عبد الرَّحمن النَّاصر لدين الله]] الأموي، فقد تولَّى حكم الإمارة منذ عام 300 حتى 316هـ / 912 - 928م، وكان في خلال هذه الفترة، يسعى لترتيب شؤون الأندلس وإنهاء الصراعات الداخليَّة، فأنهى حكم [[عمر بن حفصون|ابن حفصون]]،<ref>{{استشهاد مختصر|الدليمي|2005|ص=30}}</ref> وضم [[إشبيلية]]،<ref>{{استشهاد مختصر|الدليمي|2005|ص=31}}</ref> وقاتل الممالك النصرانيَّة في الثَّغر الأعلى.<ref>{{استشهاد مختصر|الدليمي|2005|ص=37-39}}</ref>
حدثت تطوُّرات خطيرة ومسائل ظهرت في ذهن النَّاصر، فقد استحكم [[الدولة الفاطمية|الفاطميُّون الشيعة]] على بلاد [[إفريقية]] القريبة، وأعلن حاكمها [[عبيد الله المهدي]] خلافته التي هددت نفوذ النَّاصر لأول مرة من جهة [[المغرب الأقصى|المغرب]].<ref name=":40" /> ولأن الخلافة العبَّاسيَّة في المشرق لم تكن في أحسن أحوالها، بل كانت تشهد صراعات داخليَّة وخارجيَّة جمَّة،
=== العلاقة مع السَّامانيين ===
سطر 343:
==== نهاية دولة العلويين في طبرستان ====
[[ملف:Deylami_Muslim_Cavalry.jpg|تصغير|فارسٌ مُسلمٌ من بلاد [[ديلم|الدَّيلم]].]]
وقعت [[طبرستان]] لفترة قصيرة تحت سيطرة [[الدولة السامانية|السَّامانيين]]، إلا أن [[الحسن بن علي الأطروش]] المُلقَّب بالنَّاصر وهو [[زيدية|زيدي]]، قد تمكن من الاستيلاء على طبرستان في سنة 302هـ / 914م،<ref>{{استشهاد مختصر|ابن الأثير|2005|ص=1130-1131}}</ref> وبقي حاكمًا عليها حتى توفي في شعبان سنة 304هـ / يناير 920م، ليتولى ابن عمه الحسن بن القاسم الدَّاعي حُكم طبرستان.<ref>{{استشهاد مختصر|ابن الأثير|2005|ص=1136}}</ref> بدأ جُند طبرستان يثيرون الشَّغب للحصول على المال، فرأى الدَّاعي، استغلال الظروف والصراعات الداخليَّة لدى كلًا من العبَّاسيين والسَّامانيين، وبدأ بإرسال أهم قُوَّاده، وأشهرهم ليلى بن النَّعمان الدَّيلمي واليه على [[جرجان]]، والذي حاول الاستيلاء على نيسابور في سنة 308هـ / 920م، إلا أنه قتل قبل الوصول إليها في [[طوس]] ضد السَّامانيين،
==== صعود مرداويج بن زيَّار وضمه بلاد الديلم ====
سطر 366:
اشتُهر المُقتدر منذ توليه الخلافة بامتلاكه عددًا كبيرًا من الجواري، وتروي بعض المصادر أنه كان مُحبًا للهو ولأجواء ومجالس المُغنين والجواري، لدرجة أنه كان يهب ما لديه من الأموال والجواهر النفيسة في سبيل إرضاء من يُحب.<ref>{{استشهاد مختصر|حسن|2013|ص=115-116}}</ref> كان تأثير [[قهرمانة|القهرمانات]] والجواري في حياة المُقتدر كبيرًا بعكس أبيه المُعتضد، فقد كان ذا شخصيَّة قوية ومُتحكمًا بشؤون زيجاته وحظاياه، فلم يظهر من [[شغب (جارية)|زوجته شغب]] أي دور يذكر إلا بعد تولي المُقتدر للخلافة، وذلك راجعًا لصغر سنه وقلة خبرته.<ref>{{استشهاد مختصر|حسن|2013|ص=116}}</ref>
من بين الجواري التي ذُكرن في حياة المُقتدر، ظَلوم، وهي [[أم الولد|أم ولد]] روميَّة الأصل، وأنجبت له [[محمد الراضي بالله|محمَّد الرَّاضي]].<ref>{{استشهاد مختصر|حسن|2013|ص=133}}</ref> وخلُوب (ويُقال زهرة) أنجبت له [[إبراهيم المتقي لله|إبراهيم]].<ref>{{استشهاد مختصر|حسن|2013|ص=134}}</ref> ومشعلة [[سلاف|الصَّقلبيَّة]]، وأنجبت له [[فضل المطيع لله|الفضل]].<ref name=":54">{{استشهاد مختصر|القضاوه|2000|ص=30}}</ref> ودستنويه، وهي جارية من أصلٍ [[فرس (قوم)|فارسي]]، اشتراها المُقتدر بنحو 15 ألف درهم من أحد تجَّار الرَّقيق حينما عرضها في قصره في [[بغداد]]. حظت دستنويه لدى الخليفة المُقتدر، فقد اتَّصفت بالجمال والكرم،
=== ذريته ===
سطر 389:
=== أخلاقه ودينه ===
[[ملف:Portrait of the `Abbāsid Caliph al-Muqtadir (d. 932) from the genealogy Zübdet-üt Tevarih (1598).jpg|تصغير|الخليفة جعفر المُقتدر بالله،
تحدثت بعض المصادر حول انغماس المُقتدر في ملذاته الشَّخصيَّة، ومنذ سنٍ مُبكرة، فقد سعت والدته إلى جعل تركيزه مهتمًا بجلسات اللهو والشَّراب والجواري كي تحتكر في شؤون الحكم. ويُروى أنه كان رأيه صائبًا وعقله راجحًا إلا إذا انغمس في الشَّراب (منقوع الزبيب في الماء)، فما إن يترك الشَّراب خمسة أيام متتالية حتى يُصبح رأيه مثل المُعتضد والمأمُون، حتى قيل أنه لا يفسده شيئًا ولا تُعيبه صفة سوى الشَّراب وتأثيره عليه.<ref>{{استشهاد مختصر|ذياب|2003|ص=64}}</ref> وإلى جانب الأقوال والمُبالغات التي دارت حول حياة المُقتدر ولهوه، فقد روي أنه كان متدينًا كثير الصَّوم والصلاة والتطوُّع للسُّنن.<ref name="مولد تلقائيا2" /><ref>{{استشهاد مختصر|القضاوه|2000|ص=16}}</ref>
سطر 395:
=== تبذيره وإسرافه ===
كان المُقتدر متلافًا ومُبذرًا للمال، ويُحب إظهار التجمُّل والزينة في المساكن والآلات والسلاح والخيل، ويأمر حاشيته وجنده بإظهار آثار النعمة عليهم، وبوجوب التجمُّل.<ref name=":53">{{استشهاد مختصر|ذياب|2003|ص=67}}</ref> وكان من آثار ذلك أن بدأ بتفريق جوهر الخلافة من لدن [[الدولة الأموية|بني أمية]] وأيَّام بني العبَّاس، إذ فرَّق بعضًا منها على القهرمانات والجواري والخدم، ولجوهر الخلافة قيمةً عظيمة، حيث احتفظ بها الخُلفاء العبَّاسيين ويضيفون إليه حتى اجتمع للمُقتدر ما لا عينٌ رات، ولا أذن سمعت، ومن بينها الدُّرة اليتيمة التي وهبها لإحدى جواريه، وقُيَّم سعرها نحو 120 ألف دينار،
== ميراثه ==
لم تتنوَّع أقلام المُؤرخين كثيرًا حول فترة خلافة المُقتدر بالله، وغلب عليها الانتقادات بسبب استلامه للحكم في عمرٍ صغير ما سبب إهمال شؤون الدَّولة وظهور نُفوذ النساء،
=== المتوازنون ===
[[ملف:ابن كثير.png|تصغير|تخطيط باسم المُؤرخ والعالم [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير الدِّمشقي]].]]
|