تخلية (صوفية)

مصطلح صوفي في الإسلام

التَّخْلِيَةُ عند الصوفية هي تزكية وتنقية المريد لسريرته وعلانيته من الأخلاق السيئة والسلوكات القبيحة والأعمال المهلكة.[1]

مشروعيتها عدل

جاء معنى التخلية بصيغة الإفراغ ضمن منهج النبي في تربية وتزكية الصحابة  ، وذلك في شهادة الصحابي عبد الله بن مسعود   التي نصها:[2][3]

  كَانَ النَّبِيُّ يُفْرِغُنَا ثُمَّ يَمْلَؤُنَا  

عبد الله بن مسعود  

ذلك أن مدرسة دار الأرقم التي انطلقت منها أنوار التزكية الإسلامية قد اعتمدت على تنقية سرائر الصحابة   من الأوضار والعلائق والعوائد والعوائق، قبل تحليتها بالفضائل والعلوم والأخلاق والقربات.[4][5]

ولعل من ثمار وأسرار نجاح عملية تخلية نفوس الصحابة   من كافة المفاهيم المغلوطة والعقائد المترسخة، أنه لم ينحرف أحد منهم عن الوسطية والاعتدال، ولم يتحول أحد منهم إلى طائفة الخوارج بعد وفاة النبي .[6]

ويذكر الصحابي جندب بن عبد الله البجلي   أن التربية النبوية اعتمدت على تنقية السرائر وترسيخ الإيمان لدى النائشة، قبل التحلية بآيات القرآن الكريم مع العلوم الشرعية الأخرى، وذلك في مقولته:[7][8]

  كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ، فَتَعَلَّمْنَا الإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا  

جندب بن عبد الله البجلي  

وقد أكد الرسول محمد ضرورة تنقية السريرة وتخليتها من الرذائل قبل تحليتها بالعلوم والفضائل، وذلك في حديث نبوي يحض فيه على طلب العلم:[9][10]

روي عن أنس بن مالك   في سنن ابن ماجه:

  طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَوَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدِ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرَ وَاللُّوْلُؤَ وَالذَّهَبَ  

ويظهر جليا من هذا الحديث أن تحلية وكسوة وتزيين جسم متسخ خبيث، لا يستقيم أمره قبل أن تتم تخليته وتنقيته وتطهيره من نتانته وخسته ودنسه، وكذلك أمر التزكية الإيمانية التي تصلح أبجدياتها في نفس متلونة ملتوية.[11]

كيفيتها عدل

تُعتبر التخلية مرحلة ضرورية من مراحل تزكية نفس المريد والسالك بعد أدائه المستمر والجاد لورد المراقبة الذي يتلوه ورد المحاسبة دون تقصير.[12]

ذلك أن الصوفية يلخصون تعريف التصوف الصحيح في مقولتهم النفيسة:[13]

  التَّصَوُّفُ: مُرَاقَبَةٌ، وَمُحَاسَبَةٌ، وَتَزْكِيَةٌ تَقُومُ عَلَى التَّخْلِيَةِ وَالتَّحْلِيَةِ  

وهذه المنهجية الربانية المعتمدة على المراقبة لخلجات النفس وخواطر القلب وشذرات العقل وفلتات اللسان وهفوات الجوارح، هي التي أنطقت الإمام عبد القادر الجيلاني   في كتابه فتوح الغيب بقوله:[14][15]

  إذَا خَرَجَ الزُّورُ، دَخَلَ النُّورُ  

عبد القادر الجيلاني  ، فتوح الغيب

وينطلق المتصوفة في تسييرهم للمنهجية التربوية للمريدين والسالكين على كون عملية التخلية التي تتلو المراقبة تحتاج إلى مدة زمنية كافية لتطهير القلوب والنفوس والعقول من الرواسب المخالفة للفطرة، وذلك اعتمادا على الآية السادسة عشرة من سورة الحديد التي نصها:[16][17]

سورة الحديد: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ۝١٦ [الحديد:16]

فقد أورد الصحابي عبد الله بن مسعود   بأن هذه الآية من سورة الحديد جاءت لتعاتب الصحابة   على أن أربعة أعوام كافية لتحصيل تزكية النفوس، وتخلية القلوب من القسوة والفسوق، وتحلية الذوات بالإيمان والخشوع وثمار الأذكار، وذلك في مقولته:[18]

  مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلاَمِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللهُ بِهَذِهِ الآيَةِ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ إِلَى وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ إِلاَّ أَرْبَعُ سِنِينَ  

عبد الله بن مسعود  

فالمسلم المريد حينما يطول به الأمد في التفريط في مراقبة نفسه ومحاسبتها وتزكيتها بالتخلية والتحلية، فإن القسوة تعتري قلبه والغفلة تكسوه والران يعلوه، فينجر عن ذلك فسوق باطني وظاهري كما حدث لأهل الكتاب.[19]

فإذا كانت أربعة أعوام قد فصلت ما بين بدء البعثة النبوية ونزول الآية السادسة عشرة من سورة الحديد مع هذا العتاب الرباني اللطيف لاستنهاض همم الصحابة  ، فغيرهم من الأمة الإسلامية أولى بانتهاج طريق تزكية له مدته وكيفيته.[16][20]

محاذيرها عدل

كما هو شأن سائر أمور الدين والدنيا، فإن التَّخْلِيَةَ يجب أن تربأ في مدتها وكيفيتها عن الإفراط والتفريط، وعن الغلو والليونة، ذلك أن الإسلام هو دين الوسطية والاعتدال ولا يقبل من أتباعه تنطعا أو تطرفا.[21]

لذلك فإن الرفق في التعامل مع نفس المريد، وهو يباشر تخليتها من عوائدها السيئة وأخلاقها المذمومة وممارساتها المرذولة، هو كفيل بإحراز التوفيق ونيل أجر الصواب في اتباع النبي محمد في رسالته الخاتمة.[22][23]

وقد روى الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري   حديثا نبويا يحث فيه على الرفق والاعتدال والتؤدة بما يجعل التخلية لا تنحرف بنفس المريد نحو غلو الرهبان الذين هلكوا في صوامعهم من شدة إعراضهم عما كتب الله   لهم من مقتضيات بشريتهم:[24]

روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري   في سنن البيهقي:

  إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلاَ تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ رَبِّكَ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لاَ أَرْضًا قَطَعَ، وَلاَ ظَهْرًا أَبْقَى  

فإذا كانت مدة أربعة أعوام كافية لتحصيل الخشوع ودوام أوراد الذكر والدعاء والطاعات أثناء صدر الإسلام الأول، فإن المريدين والسالكين في الأزمنة المتأخرة أولى بانتظار نضج ثمرات توبتهم وإنابتهم دون حرق للأشواط واستباق لمراحل السير إلى الله  .[25][26]

فيديوهات عدل

انظر أيضًا عدل

المراجع عدل

  1. ^ "التخلية و التحلية عند الصوفية". مؤرشف من الأصل في 2020-11-15. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.
  2. ^ "التزكية ... طريق النجاح". مؤرشف من الأصل في 2020-11-16. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.
  3. ^ "الخبر-أهمية الاستقامة في حياة المسلم". مؤرشف من الأصل في 2020-11-16. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.
  4. ^ الطريق إلى وعي حضاري إسلامي – بصائر نسخة محفوظة 15 نوفمبر 2020 على موقع واي باك مشين.
  5. ^ "التحلية قبل التخلية". مؤرشف من الأصل في 2020-11-16. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.
  6. ^ "التخلية والتحلية.. مدخل إلى التزكية". مؤرشف من الأصل في 2020-11-17. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.
  7. ^ "الدرر السنية - الموسوعة الحديثية". مؤرشف من الأصل في 2020-11-16. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.
  8. ^ "كيف تعلّم الصحابة الإيمان قبل القرآن؟ - الإسلام سؤال وجواب". مؤرشف من الأصل في 2020-11-15. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.
  9. ^ "إسلام ويب - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - كتاب العلم- الجزء رقم1". مؤرشف من الأصل في 2020-11-11. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.
  10. ^ "ص5 - كتاب شرح سنن ابن ماجة الراجحي - شرح حديث طلب العلم فريضة على كل مسلم - المكتبة الشاملة الحديثة". مؤرشف من الأصل في 2020-11-15. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.
  11. ^ "إسلام ويب - حاشية السندي على ابن ماجه - كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب ما جاء في أن الصلاة كفارة- الجزء رقم1". مؤرشف من الأصل في 2020-11-17. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.
  12. ^ "التصوف الإسلامي: مقام المحاسبة". مؤرشف من الأصل في 2020-11-15. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.
  13. ^ أبواب التصوف (مقاماته وآفاته) - محمد ابن سيدنا عبد القادر الكيلاني ،السيد - Google Livres نسخة محفوظة 17 نوفمبر 2020 على موقع واي باك مشين.
  14. ^ سر الأسرار ومظهر الأنوار فيما يحتاج اليه الأبرار - محيي الدين عبد القادر بن أبي صالح/الجيلاني - Google Livres نسخة محفوظة 16 نوفمبر 2020 على موقع واي باك مشين.
  15. ^ فتوح الغيب - محيي الدين عبد القادر بن أبي صالح/الجيلاني - Google Livres نسخة محفوظة 17 نوفمبر 2020 على موقع واي باك مشين.
  16. ^ أ ب "القرآن الكريم - تفسير ابن كثير - تفسير سورة الحديد - الآية 16". مؤرشف من الأصل في 2020-11-15. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.
  17. ^ "تفسير الآية 16 من سورة الحديد". مؤرشف من الأصل في 2020-11-15. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.
  18. ^ "إسلام ويب - التحرير والتنوير - سورة الحديد - قوله تعالى ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق - الجزء رقم28". مؤرشف من الأصل في 2020-11-11. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.
  19. ^ "۞ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ۖ وكثير منهم فاسقون". مؤرشف من الأصل في 2020-11-15. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.
  20. ^ تفسير السيوطي (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) 1-7 ج6 - جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر/السيوطي - Google Livres نسخة محفوظة 17 نوفمبر 2020 على موقع واي باك مشين.
  21. ^ "ص497 - أرشيف ملتقى أهل الحديث - إن هذا الدين متين ما درجة الحديث - المكتبة الشاملة الحديثة". مؤرشف من الأصل في 2020-11-16. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.
  22. ^ "«إِنَّ هذا الدِّينَ مَتِينٌ»". مؤرشف من الأصل في 2020-11-17. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.
  23. ^ "مجالات الاعتدال في حياة المسلم". مؤرشف من الأصل في 2020-11-16. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.
  24. ^ "دليل المسجد / القيم الإنسانية في الإسلام (قيمة الوسطية والاعتدال)". مؤرشف من الأصل في 2020-11-16. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.
  25. ^ "الموقع الرسمي للشيخ محمد صالح المنجد - تربية النفس على التوسط والاعتدال". مؤرشف من الأصل في 2020-11-16. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.
  26. ^ "إن هذا الدين متين / موقع نصرة محمد رسول الله". مؤرشف من الأصل في 2020-11-16. اطلع عليه بتاريخ 2020-11-15.