بلاغة القرآن

بلاغة القرآن من أسباب إعجازه، والمقصود بها: فصاحة مفرداته، ومتانة نظمه، وانتظام دلالته، واستيفاؤه للمعاني، وحسن بيانه، ودقة تعبيره.[1]

وقد اعترف العرب عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ببلاغة القرآن، حتى وقفوا في حيرة من أمر هذا الكتاب؛ فقد وجدوا له في أنفسهم تأثيرًا بالغًا، لا يجدونه لغيره من ألوان الكلام.[2] وقد استعمل القرآن أقسام البلاغة الثلاثة في تعبيراته وسياقاته، ونظمه، وهي: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع.[3]

التعريف ببلاغة القرآن عدل

البلاغة لغة هي: الفصاحة. وبلُغ الرجل -بالضم- أي: صار بليغًا. ورجل بليغ، أي: حسن الكلام فصيحه.[4] والبلاغة اصطلاحًا هي: إيصال المعنى إلى النفس في أحسن صورة.[5] أو هي التعبير عن المعنى الصحيح لما طابقه من اللفظ الرائق، من غير مزيد على المقصد، ولا انتقاص عنه في البيان.[6] وبلاغة القرآن يقصد بها فصاحة مفرداته، ومتانة نظمه، وانتظام دلالته، واستيفاؤه للمعاني، وحسن بيانه، ودقة تعبيره.[1][7]

شواهد على بلاغة القرآن عدل

الشواهد على بلاغة القرآن الكريم كثيرة جدًّا، فحُكي: أن عمر بن الخطاب كان يومًا نائمًا في المسجد، فإذا هو بقائم على رأسه يتشهد شهادة الحق، فاستخبره فأعلمه أنه من بطارقة الروم، ممن يُحسن كلام العرب وغيرها، فقال: سمعت رجلًا من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم، فتأملتها فإذا قد جمع فيها ما أنزل الله على عيسى بن مريم من أحوال الدنيا والآخرة، وهي قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [سورة النور، آية: 52].[8] ويُحكى أن أعرابيًّا سمع قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [سورة الحجر، آية: 94]، فلم يتمالك أن وقع على الأرض وسجد، فسئل عن سبب سجدته فقال: سجدت في هذا المقام لفصاحة هذا الكلام.[9] وسمع آخر قوله تعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [سورة يوسف، آية: 80]، فقال: أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام.[8]

موقف العرب من بلاغة القرآن عدل

كان في العرب عند مبعث النبي محمد نوابغ الشعراء، ومصاقع الخطباء، ولهم القصيد العجيب، والرجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة، ولهم الأسجاع والمزدوج، واللفظ المنثور، وكانوا يتنافسون على الفصاحة والبلاغة والذلاقة، ويتبجحون بذلك ويتفاخرون بينهم، حتى إن القرآن نفسه ذكر لَدَدهم وشدة خصومتهم، فقال عنهم: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [سورة الزخرف، آية: 58]، ولكنهم وقفوا في حيرة من أمر هذا الكتاب، فقد وجدوا له في أنفسهم تأثيرًا بالغًا، لا يجدونه لغيره من ألوان الكلام.[2][10] والقرآن الكريم هو المعجزة الخالدة، وهو أحسن الحديث، وهو في أعلى درجة من الفصاحة، وأرفع رتبة في البلاغة، وبلاغة القرآن وجه من وجوه إعجازه، ولفصاحته العالية، وبلاغته الرفيعة، قال عنه الوليد بن المغيرة «أحد المشركين» حين سمعه من النبي : «إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته».[11][12]

أنواع البلاغة في القرآن الكريم عدل

تنقسم البلاغة إلى ثلاثة أنواع رئيسية:

أولها: علم المعاني الذي يهتم بمعرفة أحوال تركيب الكلام ومطابقته للإطار المصاحب له، ويسهم هذا النوع في الكشف عن بلاغة القرآن الكريم من حيث قوة السبك، وجمال الوصف، وروعة التركيب، وحسن الإيجاز وما شابه ذلك.[13]

وثانيها: علم البيان الذي يهتم بمعرفة أسرار التعبير عن المعنى الواحد بطرق مختلفة مع مراعاة مقتضى الحال، ويسعى هذا النوع إلى إيضاح الأصول والقواعد اللغوية التي يعتمد عليها القرآن الكريم لإيراد المعنى الواحد بأساليب متعددة ومتنوعة، مع وضوح الدلالة، كالاستعارة، والكناية، والتشبيه.[14]

وثالثها: علم البديع الذي يهتم بمعرفة كيفية تحسين الكلام، وجعله مطابقًا للإطار الوارد فيه، ويسعى هذا النوع إلى استكشاف الأوجه التي تضفي على القرآن الكريم رونقا وحُسنًا وجمالًا، وتكسوه بألوان بديعة من الجمال اللفظي والمعنوي.[15]

أمثلة على بلاغة القرآن الكريم عدل

مثال الاستعارة: قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [سورة البقرة، آية: 257]؛ فقد استعار الظلمات للكفر، والنور للإيمان على طريقة الاستعارة التصريحية.[16][17]

مثال التشبيه: قوله تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [سورة الأعراف، آية: 179]، شبه الكفار بالأنعام، إذا دعاها راعيها لا تسمع إلا صوته، ولا تفقه ما يقول، ومن كفَر بالله من البشر، كانت الدواب أتمَّ منه.[18]

مثال الإيجاز والإطناب: قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى* قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [سورة طه، آية: 17، 18]؛ فالإيجاز أن يكتفي موسى عليه السلام بذكر العصا، ولكنه استطرد في كلامه عن أهمية العصا، وهذا هو الإطناب.[19]

مثال الكناية: قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [سورة البقرة، آية: 187]، استعمل لفظ اللباس كناية عن العلاقة الزوجية.[20]

مثال المحسنات البديعية: قوله تعالى: {﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ۝٤٣ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ۝٤٤ [النجم:43–44]، فيه طباق، وهو الجمع بين المتقابلين، فالضحك والبكاء ضدان، والموت والحياة ضدان.[21]

أهمية البلاغة في القرآن الكريم عدل

تظهر أهمية البلاغة في القرآن من خلال عدة أمور:

الأول: أن بلاغة القرآن سبب في إعجازه؛ فهي أول ما تحدى به النبي صلى الله عليه وسلم مشركي العرب.

الثاني: أن علوم البلاغة من بيان ومعانٍ ومحسنات بديعية من الوسائل الأساسية لفهم القرآن الكريم.

الثالث: أن القرآن نزل بلغة العرب، ولا يمكن فهم القرآن إلا من خلال تعلم فنون بلاغة العرب.

الرابع: علم البلاغة يظهر فصاحة القرآن الكريم وجودة صياغته، وروعة أساليبه اللفظية والبيانية.

الخامس: الإلمام بعلوم البلاغة سبب رئيس في إدراك الأحكام، والقضايا، ومعاني القرآن الكريم.[22]

انظر أيضًا عدل

وصلات خارجية عدل

المراجع عدل

  1. ^ أ ب محمد بن عبد الله دراز (سنة النشر 1426هـ). النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم. دار القلم للنشر والتوزيع. ج. (ص: 153).
  2. ^ أ ب أحمد البيلي البدوي (سنة النشر 2005م). من بلاغة القرآن. نهضة مصر. ج. (ص: 43). {{استشهاد بكتاب}}: تحقق من التاريخ في: |سنة= (مساعدة)
  3. ^ المؤيد بالله العلوي (سنة النشر 1423هـ). الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز (ط. الطبعة الأولى). المكتبة العصرية - بيروت. ج. (1/11).
  4. ^ ابن سيده المرسي (سنة النشر 1421هـ). المحكم والمحيط الأعظم (ط. الطبعة الأولى). دار الكتب العلمية. ج. (5/536).
  5. ^ أبو هلال العسكري. الفروق اللغوية. دار العلم والثقافة. ج. (1/65).
  6. ^ أبو البقاء الحنفي. الكليات. مؤسسة الرسالة. ج. (ص: 236).
  7. ^ "ص153 - كتاب النبأ العظيم - القرآن في قطعة قطعة منه - المكتبة الشاملة". shamela.ws. مؤرشف من الأصل في 2022-07-30. اطلع عليه بتاريخ 2022-07-30.
  8. ^ أ ب القاضي عياض (سنة النشر 1407هـ). الشفا بتعريف حقوق المصطفى (ط. الطبعة الثانية). دار الفيحاء - عمان. ج. (1/507).
  9. ^ مجد الدين الفيروزآبادي. بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز. المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية. ج. (1/70).
  10. ^ "ص43 - كتاب من بلاغة القرآن - إعجاز القرآن - المكتبة الشاملة". shamela.ws. مؤرشف من الأصل في 2022-07-30. اطلع عليه بتاريخ 2022-07-30.
  11. ^ [مستدرك الحاكم، رقم 3872]
  12. ^ أحمد البيلي البدوي (سنة النشر 2005م). من بلاغة القرآن. نهضة مصر. ج. (ص: 45). {{استشهاد بكتاب}}: تحقق من التاريخ في: |سنة= (مساعدة)
  13. ^ المؤيد بالله العلوي (سنة النشر 1423هـ). الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز (ط. الطبعة الأولى). المكتبة العنصرية - بيروت. ج. (1/11).
  14. ^ المؤيد بالله العلوي (سنة النشر 1423هـ). الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز (ط. الطبعة الأولى). المكتبة العصرية - بيروت. ج. (1/10).
  15. ^ أحمد بن إبراهيم الهاشمي. جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع. المكتبة العصرية - بيروت. ج. (1/298).
  16. ^ محمد الأمين الهرري (سنة النشر 1421هـ). تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن (ط. الطبعة الأولى). دار طوق النجاة بيروت. ج. (7/199).
  17. ^ "ص199 - كتاب تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - - المكتبة الشاملة". shamela.ws. مؤرشف من الأصل في 2022-07-30. اطلع عليه بتاريخ 2022-07-30.
  18. ^ أبو الفداء ابن كثير (سنة النشر 1420هـ). تفسير القرآن العظيم (ط. الطبعة الثانية). دار طيبة للنشر والتوزيع. ج. (3/514).
  19. ^ جار الله الزمخشري (سنة النشر 1407هـ). الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (ط. الطبعة الثالثة). دار الكتاب العربي - بيروت. ج. (3/57).
  20. ^ مكي بن أبي طالب (سنة النشر 1429هـ). الهداية إلى بلوغ النهاية (ط. الطبعة الأولى). مجموعة بحوث الكتاب والسنة. ج. (1/616).
  21. ^ أبو حيان الأندلسي (سنة النشر 1420هـ). البحر المحيط. دار الفكر - بيروت. ج. (2/323).
  22. ^ [البلاغة - البيان والبديع، جامعة المدينة العالمية، (ص: 9-12)]